اذا لم يمكن إيقاف الصراع، فهل هناك فرصة لتحويل الصراع من صيغته
ونزعته التدميرية الى مسار إيجابي يعود بالنفع على الاطراف المتصارعة؟
يتساءل أكاديميون.. ما هي الخطوات التي يمكن أن تصب في هذا المسار؟ هل
هناك قدرة على ترويض الصراع من خلال دعم ثقافة التنوع؟ ما هو دور
التطرف في انتاج التصادم وتصاعده؟ ماذا يحتاج المسؤول، السياسي، رجل
الدين، الاكاديمي، المثقف، الإعلامي، حتى يكون قادرا على ترويض
الصراع؟. كلها اسئلة نحاول من خلال هذه الورقة الإجابة عنها بطريقة
مختصرة.
خطوات يمكن أن تصب في مسار ترويض الصراع
من الملاحظ أن الأطراف المتصارعة تستند إلى مفهوم خاطئ تم تبنيه عبر
العصور لتبرير الصراع. وهذا المفهوم هو" درء الفتنة". وإلى اليوم،
أصحاب أطروحة "درء الفتنة" فشلوا فشلاً ذريعاً في تعريف الفتنة. فلا
تكاد تفهم هل يريدون بها معنى "الابتلاء" أو معنى "الإعجاب والافتتان"
أو "الاضطراب وتضارب الأفكار" أو "العذاب" أو "الضلال" أو ما شابه ذلك
من المعاني. لكن نلاحظ أن أطراف الصراع خاصةً الصراع العقدي، الذي لا
يتعدى كونه اختلافا إنسانياً طبيعياً ارتقى به المتصارعون إلى صراع
حقيقي، سلوكياتهم توحي أنهم يجمعون كل المعاني المذكورة عندما يترجمون
الصراع على الأرض. فكأنهم بدرئهم للفتنة يقومون بمحاربة التنوع
الإنساني في العقيدة لأنه ضلال، وكذلك لحماية مجتمعاتهم من الافتتان
والإعجاب بالمخالف، وفرض النمط الصحيح في رأيهم عن طريق إجتثات الأنماط
الأخرى. وهذا ما يؤدي بالأطراف المتشددة والتكفيرية للقيام بأعمال قتل
في حق الإنسان وتدمير في حق تراثه.
وأما تحويل الصراع من الحالة التدميرية إلى مسار إيجابي فهو ممكن
جداً. ويحتاج هذا جهداً على مستوى الثقافة والإعلام والتربية والتعليم.
وأول ما يشتغل عليه هو محاربة العنف والفكر العنيف تربوياً عبر
المناهج والندوات والخطب والبرامج وغيره.
ثم ثانياً محاربته أمنياً. ذلك لأن المقاربة التربوية والثقافية
تعمل على مستوى الإنسان المشمول بالتغطية، في حين المقاربة الأمنية
تعمل على مستويين. المستوى الأول انتقالي ويشمل قضايا إعادة التأهيل
والإدماج، والثاني دائم ويشمل محاربة التطرف والإرهاب بالوقاية
وبالمعالجة.
وثالثاً، وبما أن التنوع الفكري والعقدي من خصائص الإنسان، فإنه من
الضروري دعم ثقافة التعايش بين مختلف أنواع الأفكار والعقائد الإنسانية.
ثقافة التنوع
هناك قدرة على ترويض الصراع من خلال دعم ثقافة التنوع. الإنسان قادر
على تدبير الخلاف والاختلاف والدليل هو إمكان تدبيرهما في دول عديدة في
أوروبا وامريكا مثلاً. لقد أمكن ذلك إلى درجة أن المسلم أصبح يمارس في
هذه البلدان الشعائر الدينية بكل حرية دون انتقاص أو تقييد أو تحريض
على كراهيته. بل إن الأمر أهم من ذلك بحيث أننا نجد إنساناً مسلماً
تقمع حريته الدينية في بلد يحكم بمذهبه في حين يتمتع بضمان حريته
الدينية في مثل البلدان المذكورة. وهذا من ايجابيات احترام التنوع
وضمان حق العيش المشترك بين مختلف الأفكار والاعتقادات الإنسانية.
دور التطرف في انتاج التصادم
إنه وكما يمكن القول أن التطرف يؤدي إلى التصادم، يمكننا أن نقول
كذلك بطريقة عكسية أن التصادم يؤدي إلى التطرف. والعلة من ذكر الجانب
المعكوس هو تبيان حالة التصادم التي يعيشها المتطرف بما هو هو قبل أن
يترجم هذا التصادم على أرض الواقع. والفكرة تكمن في كون المتطرف يرى
العالم المخالف أو المتنوع بعين عدوانية. فلوكان يرى ذلك من منطلق
احترام حق الغير في أن يكون مخالفاً ومختلفاً ومنتقداً كذلك، لما عاش
حالة الصراع والعدوانية على المستوى الروحي ولما ترجم ذلك على المستوى
المادي. ففي نظري الفكر المتطرف لا يعترف لا بقانون التدافع ولا
بالتنافس. الفكر المتطرف يحارب العيش المشترك من قاعدة وهمية يرى فيها
استحقاق الهيمنة لنوعه الخاص. ولكي تتحقق هيمنة النوع الواحد المخالفة
لطبيعة الإنسان، يلجأ المتصارعون خاصة أصحاب الإيديولوجيات العنيفة مثل
أصحاب نظرية "التتريس" و"الانغماس" الميكيافيليتين إلى العنف. فيتم فتك
المخالف القاصر والمقصر والمؤالف المنغمس بين المخالف المتترس. وهذا ما
تفسره ظاهرة الإرهاب والتخريب التي تنخر في جسد عدد من دول المنطقة.
دور المسؤولين السياسيين ورجال الدين
والمثقفين
إن ما يحتاجه المسؤول السياسي في ترويض الصراع هو العمل على توفير
إمكانيات الدولة في التعليم والإعلام للتحسيس بخطورة هيمنة النوع ودعم
كل ما من شأنه تحقيق ثقافة التعايش بين العقائد والأفكار وضمان الحريات
ومنها حرية الفكر والمعتقد وممارسة الشعائر الدينية. في نفس الوقت
يتعين على السياسي العمل على وضع قوانين تجرم الفكر الاستئصالي والفكر
العنيف ومحاربة الإرهاب. ويتعين على المثقف والإعلامي نقد الفكر
المتشدد والتحسيس بخطورته وكذا الترويج للحريات والحقوق المدنية. وأما
رجال الدين، وبما أن الأديان بعيدة عن الميكيافيلية والمساومات
والصفقات السياسية، يتعين عليهم الدفاع عن المعتقدات واحترام حق أصحاب
المعتقدات المخالفة في الوجود والعيش المشترك.
إن الفتنة التي يتعين أن يخشاها بعض رجال الدين في الحقيقة هي قمع
الحقوق والحريات وليس العكس. ولا يوجد خط أحمر يفرض به رجال الدين
وجهات نظر معينة حول قضايا تاريخية في الحقيقة سوى ما أملته الرهانات
السياسية. الخط الأحمر الوحيد الذي يجب العمل لكي لا يتجاوزه أي طرف هو
اللجوء إلى العنف. فإذا كان ولا بد من اعتبار المخالف خارجياً، فإننا
نأمل أن يتعامل رجال الدين مع خوارج عصرهم كما تعامل مع خوارج عصره سيد
الحكماء الإمام العظيم علي بن أبي طالب. فقد اعطاهم الحقوق المدنية ولم
يضع أي خط أحمر امامهم غير اللجوء إلى القتال.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة
النبأ المعلوماتية |