يتوقف المتابع لخطاب الحركات الكردية أمام نقطتين جوهريتين،
اعتمدهما هذا الخطاب وركّز عليهما كثيراً... الأولى، وتتمثل في
"المبالغة" عند الحديث انهيار الجيش العراقي، وصولاً للتبشير بانهيار
مؤسسات الدولة العراقية كافة، في نبرة لا تخلو من "التشفي" عند بعض
الناطقين الأكراد الأكثر تعصباً... والثانية، وتتجلى في الحديث عن
"عراق ما بعد العاشر من حزيران/يونيو" الذي لم يعد يشبه في شيء، "عراق
ما قبل غزوة نينوى"، مع ميل واضح لتأكيد تعذر إمكانية إعادة وصل ما
انقطع من روابط بين مكوناته، خصوصاً المكونين العربيين، السني والشيعي.
هاتان النقطتان تشكلان قاعدة ارتكاز لبناء سلسلة من الخلاصات
والاستنتاجات، أولها أن العراق يتجه لأن يكون دولة فاشلة، وبدل أن يعم
"الفشل" على مختلف مناطق العراق، يتعين القبول بإخراج "الإقليم" من هذه
الدائرة الشيطانية... ثانيها، أن الأكراد ليسوا وحدهم من يطالب باعتماد
الفيدرالية (أحياناً الكونفدرالية)، فالمكوّن السني كذلك، أخذ يرفع نفس
المطالب بعد تعذر العيش تحت ظلال حكومة مركزية واحدة، وبهذا يمنح الميل
الانفصالي لسنة العراق، الأكراد مزيداً من المشروعية لمطالبهم
الانفصالية.
وثالث هذه الخلاصات، محاولة ربط "حق تقرير المصير" بالنسبة للشعب
الكردي بالحرب على الإرهاب، فلكي تكون هناك "محاربة" كردية، فاعلة
ونشطة ضد "داعش" والإرهاب، لا بد للأكراد من التمتع بحقهم في تقرير
مصيرهم والاستقلال عن العراق، ولعل هذا بالذات، ما قصده مسعود البرزاني
عند ردّ على طلب جون كيري بمساعدة بغداد في حربها على الإرهاب.
أما رابع هذه الخلاصات، فيقول إن دخول قوات "البيشمركة" إلى كركوك
والمناطق المتنازع عليها، كان دخولاً إنقاذياً وفي اتجاه واحد،
ونهائي... فالتاريخ لا يجود بفرص نادرة من هذا النوع مراراً وتكراراً،
وها هو يمنح الأكراد الفرصة لحسم الصراع على هذه المناطق من جانب واحد،
وفي غفلة من الدولة العراقية وانشغالها في تحصين بغداد في مواجهة الزحف
"الداعشي".
والحقيقة أن التاريخ لعب لصالح الأكراد في ربع القرن الأخير... حرب
صدام حسين على الكويت، والجبهة العالمية التي تشكلت في مواجهته، مكّنت
الأكراد من الحصول على حماية دولية وملاذ آمن... انقسامات المعارضة
العراقية، ولاحقاً الصراع السني – الشيعي، وفر لهم فرصة اللعب على
التناقضات، والقيام بدور "بيضة القبان" التي يحتاج إليها الجميع، ولقد
أعطاهم وضعاً كهذا، مكانة القوة المقررة، التي استطاعت أن تنتزع شيئاً
فشيئاً مختلف عناصر السيادة والاستقلال للإقليم الكردي، الذي يحظى
اليوم بمكانة الدولة التي لا ينقصها إلا الإعلان.
في العقد التركي الأخير، ومع وصول حزب العدالة والتنمية إلى سدة
الحكم في تركيا، وهزيمة المؤسسة العسكرية والتيار القومي – العلماني
أمام الحركة الإسلامية الزاحفة، أمكن فتح صفحة جديدة في العلاقات
الكردية – التركية... أمكن لمسعود البرزاني وحكومة أربيل على وجه
الخصوص الوصول إلى معادلة مهمة مع الأتراك، قوامها "بناء شبكة واسعة من
المصالح التركية في الإقليم" وتعهد أكراد العراق بلعب دور إيجابي مع
حزب العمال الكردستاني، مقابل قيام أنقرة بسحب "الفيتو" التاريخي
المشهر في وجه استقلال الإقليم من جهة، واتخاذ إجراءات من شأنها تعبيد
الطريق لمعالجة المسألة الكردية في تركيا، في إطار وحدة تركيا
وسيادتها... يبدو أن أنقرة باتت على استعداد لتقبل قيام دولة كردية
مستقلة على حدودها الجنوبية، ولأسباب تتراوح ما بين "النفط" و"محاربة
الإرهاب" و"كسر الهلال الشيعي" في أحد مفاصله الأساسية.
اليوم، يعلن مسعود البرزاني، ومن جانب واحد، أن المادة 140 من دستور
العراق قد أنجزت، ولم تعد لها أية ضرورة، وأن قوات "البيشمركة" دخلت
كركوك والمناطق المتنازع عليها لتبقى، لا لتعاود الانسحاب... وكان
واضحاً أن شعار "كردستان أولاً" هو المحرك لمواقف مختلف الحركات
السياسية الكردية على اختلاف مرجعياتها، حتى أن قيادة الإقليم قررت أن
تخوض المعارك ضد "داعش" إن هي اعتدت على الإقليم والمناطق المتنازع
عليها فقط، وخارج هذا "الخط الأحمر"، لا مشكلة بين الأكراد والتيارات
المتطرفة السنيّة، مشكلة هؤلاء مع الشيعة، ومن الأفضل أن تحل هناك، في
مناطقهم وداخل مدنهم، سياسياً جاء الحل أم عسكرياً.
رسالة الأكراد هذه، وصلت إلى جميع من يعنيهم الأمر... بغداد أدركت
أنها ستقاتل وحدها، وأن ثمن الدعم الكردي لها سيكون باهظاً، ومن كركوك
بالذات... "داعش" عرفت أن للأكراد أولويات أخرى، فآثرت تجنب مناطقهم
وتفادي استفزازهم... في المقابل، بدا الدور الكردي في بعده الإنساني،
أمراً مقبولاً ومرحباً به من الجميع، خصوصاً من تدفق اللاجئين إلى
الإقليم ومناطق سيطرة "البيشمركة"، ما خفف من حدة الغضب وردات الفعل
على القرار الكردي الأحادي بضم كركوك والمناطق المتنازع عليها.
صورة المشهد الكردي اليوم، تبدو على النحو التالي: الأكراد أخذوا كل
ما يتطلعون إليه من العراق، وكل ما يعتقدونه حقاً تاريخياً لهم...
لكنهم لن يقطعوا مع بغداد وسيحتفظون معها بـ"شعرة معاوية"، أقله إرضاءً
لواشنطن وبعض عواصم الشرق والغرب التي لم تجزم بعد بشأن استقلال
الإقليم، وتفضل عملية سياسية ينخرط فيها الأكراد بنشاط، فضلاً عن
الحاجة لتهيئة المسرح العربي والإقليمي لخطوات نوعية لاحقة، عندما تنضج
الظروف... ثم أن حفظ الصلة مع بغداد، يوفر للأكراد صوتاً قوياً، إن لم
نقل حاسما، في مؤسسات صنع القرار في الحكومة الاتحادية، وهذا عنصر قوة
إضافي، لا حاجة للتفريط به أو تبديده، طالما أنه لا يؤثر على سير
الإقليم الحثيث نحو استكمال عناصر الاقتدار والانفصال عند الضرورة.
العراق ينزلق منذ سنوات نحو الفوضى الشاملة والفشل المعمم، فيما
الإقليم يتحول إلى واحة للأمن والاستقرار والازدهار، يلجأ إليها ساسة
بغداد وزعماؤها، خصوصاً من العرب السنة، أقله يرسلون عائلاتهم للإقامة
في الإقليم... وكلما ازداد الوضع العراقي تدهوراً وانقساماً، كلما
اكتسبت مطالب الأكراد مشروعية إضافية، وكلما ازداد التفهم والقبول
بمطالبهم الانفصالية، حتى من لدن العرب أنفسهم، الذين طالما نظروا لحق
الأكراد في تقرير المصير، بوصفه مؤامرة إمبريالية – صهيونية، وللحديث
صلة.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة
النبأ المعلوماتية |