شهر التربية

الشهيد آية الله السيد حسن الشيرازي

 

وشهر رمضان شهر تربية، والرياضة العملية، ومصح لمعالجة الغرائز والضمائر والأرواح.

فالإسلام الذي يحرم وجبات الطعام الرتيبة المعتادة، طوال هذا الشهر، ويأمر جميع النّاس، بأن يغضوا الطرف عن اقتراف النظرة الأثيمة، وكبح المشاعر، عن اقتحام المغريات.. وإنْ يفطموا شهواتهم، ولا يستجيبوا للنزوات المشروعة وغير المشروعة سواء... إنّما كان يهدف من جميع ذلك، تكوين الوازع الخلقي، والزواجر الأدبية للأفراد، ليخفق في قلوبهم الشعور برضا الخالق، والتطلّع إلى النعيم، كيما يجتهدوا لتطهير أنفسهم من السخائم، واستدرار العطف والمكرمات فيها، وحتى لا يغفلوا عن مداركة أرواحهم، بمنحها بعض الحقوق المفروضة لها..

وإذا كان المسلم يستقبل رمضان بهذا الشعور، وهو يسلم قياده إلى العقيدة، التي تنوي بناء كيان المسلم من خلال فرائضها.. يتضرَّم شوقاً إليه، ويحفل به بلهفة وجشع.. فيعلو ويتعاظم... وأما اللذين لا يفقهون رمضان، إلاّ فرضاً محتماً، لزمهم كما تلزمهم الأتاوات، والإلزامات الحكومية الجائرة، فهم الذين يستقبلونه كلّ عام بتذمر ونقمة، ويجعلون من الصيام رواية تعرض على مسرح الرياء واللهو والمعصية، ولا يمر بهم رمضان، إلا ويتسفلون، بمقدار ما يجب أنْ يرتفعوا به...

إغفال الفلسفة

وأكثر ما يحز في واقع المسلمين ـ تجاه رمضان ـ: أنّهم يتنكرون لفلسفته، ويغلقون أذهانهم عن وعي المعاني التي يُفصح عنها الإسلام، من وراء هذا الشهر المبارك..

فمعظم المسلمين، لا يكادون يذكرون شهر رمضان، إلاّ قبيل حلوله، ولا ينصرم عنهم إلاّ ويتناسونه، ويسدلون على ذكرياته ستار الإهمال.

دراسة رمضان

وأما دراسة رمضان، وأجوائه وأهدافه، فتلاقي الجحود والعنت، أكثر من رمضان... رغم أنّ رمضان، يمثل الركن الرابع من الإسلام، فيجب أنْ يُولي المسلم دراسته كلَّ عناية واهتمام.. ورغم أنّ المعاني الحيّة، المتوفرة في هذا الشهر، تدر على الباحثين، موارد سخية، تعمر البحوث والدراسات، بالنبوغ والتركز.

وحتى أولئك الذين تعنيهم دراسة رمضان، إنّما يلخصونها في الفروع الفقهية، التي لا يصح الصوم إلاّ بمعرفتها، كدراسة الأعذار المبيحة للإفطار، والأحوال التي توجب القضاء، أو القضاء والكفارة معاً، وحكم الصائم في السفر الحلال أو الحرام.

أما جماهير المسلمين، فليس نصيبهم من رمضان، سوى التقليد، ولا يفكرون في أكثر من الإمساك، والإفطار مع النّاس، ليعتبروا بذلك ـ وحده ـ أنفسهم من الصائمين، الذين أدوا الفريضة، ونالوا رضا الله، مع أنَّ الله لم يتجلَّ على المسلمين برمضان ـ كشهر للصيام ـ إلاّ لينتزعهم من أحضان المادّية الخالصة، ثم يسمو بأرواحهم وأخلاقهم، إلى مصافِّ المقربين... ومع أنّ رمضان، ليس مجرد شهر فُرض صيامه على النّاس، ليعذبوا أنفسهم بالحرمان نهاراً، والسهر العاطل ليلاً، حتى مطلع الفجر... فحكمة الله أرهف من أنْ يحتّم على عباده العذاب نهاراً واللهو ليلاً، فهو لم يخلق الجن والإنس، إلاّ ليعبدوه عبادة معرفة تربوية، تطهرهم، وتذُهب عنهم رجس الشيطان... وليس الهدف من العبادات، مجرد الطاعة والاستجابة من جانب النّاس، والتسخير والتعجيز من جانب الله فحسب، وإنّما الهدف الأهم والأجل أنْ تفيد العباد في حياتهم، وتصقل أرواحهم كيما تُحلّق بإنسانيتهم، إلى حيث يليقون بالكرامة الإنسانية، التي أرادها الله للعباد.

نتيجة الإغفال

فرمضان مدرسة... والصوم رسالة... هدفهما نفض الإنسان، من الرواسب والزوائد، وإشماله بحملة تطهيرية وتربوية بناءةً، توسع الإنسان كلّه: عقله وجسمه وروحه... وتعيد منه كلّ سنة خلقاً جديداً، وتضفي عليه تبلوراً جديداً...

ولكن نتيجة الانشقاق الخطير، الذي صعق المجتمع المسلم ـ على أثر تضافر عوامل وعناصر عديدة ـ فُنزع الإسلام من المسلمين، وجعل من الإسلام شيئاً مثالياً أثرياً يُقدّس ولا يُنال، وجعل من المسلمين شيئاً ثانياً مترسباً يرفض التوجيه والإصلاح...

ونتيجة تنصل المسلمين عن وعي الإسلام، واقتناعهم باعتباره فرضاً محتماً، لمن أطاعه الجنّة، ولمن عصاه النّار...

ونتيجة إقصاء الإسلام عن دفة الحكم والمجالات العامّة، وتقلّصه عن مراكز النشاطات القيادية، وانعزال المسلمين إلى زوايا المساجد وعقر البيوت...

ونتيجة ازدواج الشخصية لدى المسلمين، التي استهلت على أثر استفحال التجاذب الاجتماعي، وارتباك المسلمين، الذين أصبحوا مصباً ومعتركاً لمختلف التيارات الفكرية الاجتماعية، فتكسرت شخصيتهم القويمة، وتأثرت بتلك المؤثرات، التي تتكسر وتتناقض مع بعضها... فأضحى كل مسلم صورة حية للتلاقح الاجتماعي، ونموذجاً حائراً، تحلل من ارتكازه الفطري والديني، ولم يظفر بارتكاز آخر يحدد مواقفه إزاء الحوادث الجسام، التي تتوارد بأرقام جنونية في دنيا اليوم، بل بقي متردداً بين الانحياز لقوى الخير، أو التدهور مع المغريات...

ونتيجة مأساة الضياع والتمزق، التي يعيشها الجيل المسلم المعاصر...

ونتيجة مؤثرات كثيرة، تحوّلت الفرائض الدينية ـ في وعي المسلمين ـ إلى تقاليد لا تهدف إلاّ ذاتها، فهي مفروضة، لأنَّ الله تعالى شاءها، فحسب... دون أنْ يعرفوا لها فلسفة، أو يتصوروا أنَّ لها جذوراً وفروعاً معرقة في الحياة والمجتمع، فيحاولوا كشفها، والتغلغل إليها... فكأن الله سبحانه، رامها بإرادة دكتاتورية عمياء، تطلب لأنّها تريد... فهي تبغي... ولا بد أنْ يتحقق ما تروم... ولا مرد لما تشاء... على النمط الأهوج، الذي ألفوه من بعض الحكام الفرديين، الذين كانوا يُطلقون الأوامر التائهة، للتعبير عن استعلائهم، ثم يعاقبون على العصيان، لا لضياع الهدف المنشود، وإنّما لأنّه يخدش غلوائهم العتيد، وإنْ اعترفوا ـ في نفس الوقت ـ بأنَّ ما في ما طلبوه ألف خطأ مزمن يخبط المجتمع كله... فلا بد أن يكون ما يطلبون، وإنْ اعترضته رقابهم، أو كانت فيه دمائهم... فتجب الطاعة العمياء، وتحقيق المآرب الرعناء، لا لذاتها، ولكن لأنّهم طلبوا، ولا بد أنْ يكون ما طلبوا... وتعالى الله العليم الحكيم، عمّا يرجف المنحرفون علواً كبيراً...

وعلى أثر سيادة هذا التصوّر المهروس، في بعض الأوساط، أصبح نوع تلقي النّاس للأوامر الشرعية، كما يمليه هذا التصوّر، وأضحى أدائهم للواجبات كيفما يوحي به ذلك التصوّر، ومثلما يلهمه ذاك التلقي، فكان الأداء مجرد صورة قالبية محدودة... ومن الطبيعي أنْ تكون إطاعة التقاليد الجوفاء بإيجاد طقوس شكلية آلية، شبه أتوماتيكية. فالأمر الذي يصدر لمجرد إعلان الذات، تكون إطاعته حركة تنطبق على أبعاد صيغة الأمر فحسب، لإسقاط الواجب وكفى!...

وقد تغلغل هذا التصوّر الجاحد، في بعض الأوساط المؤمنة، إلى حيث نرى النّاس يرفضون الإيمان، بأن الله تعالى إنّما شاء الفرائض لتركيز الشخصية المسلمة ـ مثلاً ـ ولا يطيقون السير على الأسس الجدّية العملية، لإنجاز مقاصد الإسلام، حتى بات من المُشاهد أنَّ كثيراً من المتدينين، الملتزمين بحدود الله، لا يحققون هدفاً واحداً من أهداف الإسلام، ولا تطفح أعمالهم وسلوكهم مسحة من روح الإسلام، وتعاليم الرسول...

فما أكثر المصلين، الذين يشهدون الجماعة باهتمام أكيد، ولكنهم لا يتمالكون عن التطاول على ضعيف، وإهمال جارهم الفقير، وتناسي قريبهم المريض... ولا يترددون في سبّ من يعارضهم في أتفه الأسباب، أو لطم الطفل العابر، الذي يدوس سجادهم أو حذائهم، أو نهر صاحبهم في صفوف الصلاة، بغلظة بادية، إذا ضايقهم المكان، أو أصابهم عضو منه في حركة عفوية... دون أنْ يدور في خلدهم أنَّ الجماعة، وإنّما استحبت، للتواصل والتوادد، وتكوين الجسد الواحد ـ الذي إذا اشتكى عضو منه، تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمى ـ من الأجساد المتفرقة، وإشاعة الشعور بالقوة الروحية، وإشعار كلٌّ بأنَّ هنالك الكثيرون، ممن يشاركونه الرأي، ويتظافرون عليه في العمل.

وما أكثر من يقول كل يوم الله أكبر، مائة مرة، ثم يذوب تواضعاً واستكانة، إذا تصدى له جندي، أو قابله موظّف... ويكيل المدائح المغالية جزافاً، لأصحاب المال والرئاسة... وينسى صلاته إذا وطئته مشكلة أو مأساة... ممّا يؤكد على عزوف الحركة الدينية من ضميره، وإخلائه للحركة التقليدية...

وتبعاَ لنفس السبب، كثر في الصائمين، من لا يعترف بصيامه الإسلام، ولا يعدو صومه حرماناً بليداً، كحرمان النائم والمصروع، دون أن ينبض فيه حس من صيام له حركة وظل وروح...

* من كتاب حديث رمضان

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 2/تموز/2014 - 3/رمضان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م