كردستان.. حلم الانفصال وأفق اللااستقرار الدائم

 

شبكة النبأ: على طول الخط، بذل الزعماء الكُرد مساعيهم وأجهدوا انفسهم لتوفير الأمن والاستقرار والعيش الكريم لشعبهم الذي يعيش بين السهول والوديان والمرتفعات الجبلية الموزعة بين اربعة دول إستراتيجية في الشرق الأوسط؛ ايران وتركيا وسوريا والعراق.

وقد تمثل هذا الطموح في رفع مطالبات سياسية بوجه الانظمة السياسية الحاكمة في هذه الدول منذ مطلع القرن الماضي، مثل "الدولة المستقلة" التي جربها الزعيم الكردي، قاضي محمد، في مدينة "مهاباد" الايرانية، وجاء بعده، ملا مصطفى البارزاني مستفيداً من التجربة، ليعلن ما هو اكثر عقلانية ومقبولية اقليمياً ودولياً، وهو "الحكم الذاتي"، والهدف هو حماية السكان الكرد من محاولات التهميش والتمييز والظلم، الذي مارسته الحكومات في فترات مختلفة. ومن اجل ذلك رفعوا السلاح وخاضوا "نضالاً" عنيفاً لتحقيق هذا الهدف الكبير.

وعندما وطأت اقدام مسعود البارزاني، وهو النجل البكر لذاك الزعيم الراحل، مدينة كركوك الغنية بالنفط، وأعلن تطبيق المادة (140) الخاصة بـ "التطبيع"، و"عدم الحاجة للحديث عنها ثانية"، تشبّه بشكل عفوي وغريب بالقادة الفاتحين من امثال الجنرال "ستانلي مود" الذي كان اول ضابط بريطاني يدخل بغداد بعد الحرب الاولى، وكذلك الجنرال "اللنبي" الذي دخل مدينة القدس واعلن مقولته الشهيرة: "الآن انتهت الحروب الصليبية".

في اعتقاد الزعيم الكردي الحالي أنه من خلال مخطط تآمري اشتركت في حبكته اطراف عديدة، وإفساح المجال أمام تنظيم تكفيري – دموي لاحتلال مدينة مثل الموصل، يمكن توفير الأمن والاستقرار لأكراد العراق، سواءً في المحافظات الثلاث الرئيسية، او من هم في كركوك والموصل وديالى ومناطق اخرى. لكن يبدو ان الثمن المطلوب يغيب عنه، كما غاب لمرات عديدة خلال السنوات الماضية، وغاب عمن كان من قبله. ومن اجل ذلك لا يرى المراقبون والخبراء في الشأن الكُردي أفق الاستقرار والأمن للمناطق الكردية بشكل عام، ماداموا يعزفون على الدوام على وتر الحرب والقتال.

العرب والتركمان.. الغام في الطريق

امام البارزاني ملفين هامين عليه أن يعالجهما بكل حذر: الملف الاول: يتعلق بالعرب الساكنين في كركوك، والملف الثاني: يتعلق بالتركمان في مدينة كركوك والمناطق القريبة منها. هذين الملفين لهما من التعقيد ما يعجز عنه الكرد حله، فالعرب المستوطنين في كركوك، يمتلكون اراض زراعية ومصالح كبيرة، حصلوا عليها في حقبة حزب البعث العراقي البائد، منذ سبعينات وثمانينات القرن الماضي، بمعنى انهم امام جيل عربي – كركوي – إن صحّ التعبير- يعد الارض التي عليها جزءاً من كيانه ومصيره، هذا مسألة، والمسألة الاكثر خطورة عليه، الامتداد العشائري لهؤلاء العرب في مناطق من محافظة صلاح الدين والانبار. ويبدو ان الكرد حاولوا استغلال فترة السنوات الماضية لإقناع هؤلاء بالتخلّي عن اراضيهم وتفهّم القضية من جذورها، وترغيبهم بتعويضات مجزية متضمنة في المادة الدستورية (140). بيد أن الاخبار والتقارير كانت تفيد برفض العديد من هؤلاء للمطالب الكردية واصرارهم على الاحتفاظ باراضيهم ومناطق سكناهم.

والملف الآخر الاكثر حساسية وخطورة، فهو ملف التركمان، وهم القومية الثانية في شمال العراق برمته. وهؤلاء ليسوا أناس رحّل او طارئين، إنما هم اصحاب الارض منذ القدم، بيد ان النزعة القومية المتعصبة لدى بعض الكرد تجعلهم يتمددون على حساب الآخرين. لاسيما اذا عرفنا ان نسبة كبيرة من التركمان يعتزون بولائهم الديني والمذهبي للتشيع، فمعظم أقضية ونواحي جنوب كركوك، مثل "الطوز" و"بشير" و"تسعين"، هم من التركمان الشيعة، وربما لايرغب هؤلاء بأن يكونوا ضمن اقليم كردستان وقوانينه وتشريعاته. فما  الذي يحصل؟.

امام العرب والتركمان خياران أحلاهما مُر: القبول بالامر الواقع، او التصدي بعنف للهيمنة الكردية على مناطقهم.

المتابعون للوضع الديموغرافي في كركوك، رصدوا خطوات عديدة للكرد بتقليل نسبة القوميات الاخرى في المدينة خلال السنوات الماضية، ومن اهم ما صبّ في مصلحتهم الفراغ الامني المريب في قضاء "طوزخورماتو" خلال السنوات الماضية، وايضاً مناطق في داخل كركوك، مما تسبب في تعرض الشيعة هناك لهجمات متكررة وعديدة بالسيارات المفخخة والعبوات الناسفة اسفرت عن استشهاد المئات من الابرياء، وهو ما اضطر البعض لترك منازلهم وايجاد بديل آمن في مكان آخر. لذا نسمع البارزاني يتحدث عن "استفتاء" يقوم به الاقليم لسكان كركوك حول ضمّها الى الاقليم، وهذا يعزز الشكوك بان الكُرد حققوا نسبة لا بأس بها من الاغلبية السكانية في عموم محافظة كركوك، مع عدم وجود مسح للسكان في الوقت الحاضر.

خارطة للسلام أم مخطط للحرب

حتى هذه اللحظة؛ يكون مسعود البارزاني قد استفاد كثيراً من تجارب الاسرائيليين في الحصول على المكاسب السياسية والاقتصادية والتقدم نحو تشكيل الدولة. وإن لم يتم الإعلان عن هذه العلاقات العتيدة، إلا ان وصول اول شحنة من النفط العراقي المسروق الى الكيان الصهيوني، وتصريحات المسؤولين الصهاينة وضغوطهم على امريكا بعدم المساس بمصالح "الحلفاء الكرد"، تجعل الجميع في مرحلة جديدة من الحديث عن حجم التحالفات الاقليمية للكرد. لكن يبقى السؤال: أ هكذا يكون سلوك درب السلام والاستقرار؟، أو "هكذا تورد الإبل"؟!.

عودة بسيطة الى السنوات الاولى من تسلم حزب البعث العراقي السلطة، وتحديداً عام 1970، عندما سمع الكُرد لأول مرة في حياتهم دولة تمنحهم حكماً ذاتياً.. ربما لم يصدوا الأمر، وعدوه نوعاً من المؤامرة واللعبة السياسية للإيقاع بهم، بيد ان القضية كانت جدّية تماماً، وحزب البعث آنذاك، بعوده الطري، سياسياً واجتماعياً في الداخل والخارج، كان بحاجة ماسّة لكسب الاصدقاء وخلق حالة من الثقة مع الشعب العراقي، مع ذلك كان بيان (11 آذار) لعام 1970، بمنزلة المكسب السياسي المجان للكُرد باجماع المؤرخين والمتابعين، إذ حصلوا بموجب هذا البيان على حقوق قومية في المحافظات  الثلاث (اربيل – السليمانية- دهوك)، ابرزها حرية التكلم باللغة الكردية وايضاً تداولها في المناهج الدراسية، ثم تشكيل وزارة داخل الحكومة العراقية باسم "وزارة الحكم المحلي".

ان حزب البعث، وربما شخص صدام كانوا بحاجة الى المردود الايجابي لهذه الخطوة، بيد ان رد فعل الكُرد، لم يكن باتجاه التعامل مع التطور الجديد على الارض، إنما توجيه رسائل الى بغداد بانهم لن يحصلوا على مبتغاهم بهذه السهولة، ثم الحديث بصوت عالٍ عن مؤامرة للسيطرة على الشمال من خلال خديعة "الحكم الذاتي". بمعنى أنهم فضلوا أخذ حقوقهم بالقوة على استلامها بالطريقة التي ارادها النظام البائد.

وبغض النظر عن صحة هذا الخيار او عدمه، إلا ان ما يهمنا، هو السهولة التي دخل فيها الكُرد الحرب الضروس ضد العراقيين، وليس فقط ضد نظام صدام، فكانوا اقرب الى البندقية والقنبلة والتعبئة العسكرية وحرب العصابات بين الوديان والجبال، من مطالبهم وحقوقهم المشروعة.

وبدلاً من ان يبحثوا في الطريقة التي يحققوا فيها هذه المطالب، تحولوا الى طعم صغير في سنّارة ساسة أمريكيين كانوا يخططون لصقل شخصية صدام، وإعدادها ليوم تسلمه السلطة والقيام بالادوار المطلوبة، ومن ابرز الساسة الذين ارتبط مصير الكُرد بهم، هو السياسي المخضرم "هنري كيسنجر"، الذي كان وفي عهد الحكم الذاتي، مستشاراً للأمن القومي في ادارة الرئيس نيكسون، قبل ان يتسلم الحقيبة الدبلوماسية الامريكية. ومذ ذاك، تعرف الكُرد على الكيان الصهيوني، وآمن بانه مصدر الإلهام الوحيد لتحقيق طموحاتهم وأهدافهم، فثمة تجارب تاريخية مشتركة في التعرض للاضطهاد والتمييز، ثم تكوّن عقد نفسية وكراهية شديدة وعدم ثقة بالآخر، وكيفية الحصول على المكسب السياسي او الاقتصادي بأي ثمن كان.

لذا كان الكُرد بزعامة "ملا مصطفى"، يخوضون الحرب بشراسة متناهية حتى كادوا يقضون على معنويات ومعدات الجيش العراقي معاً.. وكانوا محمولين على الأمل بأن يحصلوا على ما هو أكثر من "الحكم الذاتي" مدعومين من نظام "الشاه" اقليمياً وأمريكا دولياً، بيد أن المفاجأة الصاعقة جاءت عندما اكتشفوا اللعبة الامريكية التي أنهاها صدام في الوقت المحدد، وأعلن موافقته على شروط كان قد أملاها شاه ايران لتوقيع معاهدة سلام بين البلدين، وبالنتيجة، فان ثمن القبول هذا ، كان التخلّي عن تسليح الكُرد وقطع شريان الحياة عنهم، ثم القضاء على ما كان يسمى بـ"الثورة الكردية".

ولنا مقارنة مع حدث آخر وقع في الانتفاضة المسلحة عام 1991 في الجنوب والشمال، بعد انهيار الجيش العراقي في الكويت، وتعرض صدام لضربات نفسية وعسكرية وسياسية موجعة، جعلته يتقوقع في بغداد، فكان التضامن الكردي مع الشيعة في الانتفاضة الجماهيرية ضد صدام على أمل الاطاحة به وتحقيق حلم الدولة الديمقراطية العادلة... بيد أن القمع الوحشي لانتفاضة الجنوب وتراجع المعنويات والهمم في الشمال، أعاد كفة الصراع لصالح صدام، واستعاد جميع المناطق التي كانت بيد المنتفضين في الشمال والجنوب. هنا جاءت رسالة جديدة من واشنطن، وتحديداً من كيسنجر، الى مسعود البارزاني بأن يسارع للذهاب الى بغداد والتفاوض مع صدام (الضعيف) والحصول على المكاسب، مقابل بعض الامتيازات التي يحتاجها لتأمين حياته السياسية الهشّة. وهذا ما حصل حيث استبدل الكُرد مدينة الموصل الداخلة ضمن خط العرض (36) المحظورة جواً من الطائرات الامريكية، بمدينة السليمانية، فانسحبت دوائر الدولة من المحافظات الكردية الثلاث، مقابل تسلّم الموصل، لتتشكل منذ ذلك التاريخ "اقليم كردستان" بطبخة امريكية- كيسنجرية تحت اشراف الكيان الصهيوني.  

بيد ان هذا الإقليم، ورغم مظاهر الاستقرار والامن والاوضاع الاجتماعية والاقتصادية الطبيعية فيه، إلا ان جذور الحرب والصراع بقيت حيّة. فجاء طلب البارزاني نفسه من شخص صدام، بمساعدته على استرجاع مدينة اربيل، العزيزة على قلبه، من سيطرة منافسة الدائم، جلال الطالباني، خطوة اخرى في الطريق الطويل نحو اللااستقرار الامني والسياسي في هذا الاقليم، حيث لم يبق أي معنى للثقة بين الفصائل الكردية التي كانت تتصور فيما مضى من الزمن أنها تقاتل في خندق واحد وبمفهوم المصير المشترك.

من هنا؛ تأكد للمراقبين والمتابعين هذه الايام، أن تشكيل الاقليم بالاساس لم يكن لتحقيق طموحات الاطفال والنساء والمعذبين الكُرد في العيش بسلام وآمان، إنما لتحقيق أجندة سياسية خاصة بالكيان الصهيوني، في ايجاد منطقة رصد ومراقبة لايران والعراق وسوريا.

وإن لم يكن ثمة ضرورة للتنبؤ بالتشاؤم، إلا اندفاع الكُرد بزعامة البارزاني نحو الانفصال عن العراق، او حتى ممارسة المزيد من الضغط على بغداد للمزيد من المكاسب.. كلها تشكل عناصر حرب وصراع يدفع ثمنها في الوقت الحاضر الشيعة في كركوك والموصل وايضاً العرب في هذه المناطق، بل في جميع مناطق العراق، كما دفع الاكراد الثمن من قبل.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 30/حزيران/2014 - 1/رمضان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م