في الوقت الذي تلقي فيه الأزمة الأمنية المتفاقمة بظلالها على
العراق، صادقت البلاد في الأول من حزيران/يونيو على نتائج الانتخابات
البرلمانية التي أجريت في الثلاثين من نيسان/أبريل - وبذلك أطلقت
المساعي الرامية إلى التصديق على رئيس الوزراء المقبل وحكومته التي يجب
أن تحصل على تأييد ما لا يقل عن 163 مقعداً في البرلمان المؤلف من 325
عضواً. وقد أحرز رئيس الوزراء نوري المالكي، الذي شغل هذا المنصب
لولايتين، وحزبه "ائتلاف دولة القانون" نتائج حسنة تمثلت بفوزهم بـ 92
مقعداً مباشرةً، مع ضمان ما بين 10 و20 مقعداً على الأقل لحلفائهم
المقربين. وفي المقابل تمكّن الخصوم الشيعة للسيد المالكي من حصد 60
مقعداً، ونال الأكراد 53 مقعداً، في حين حصلت مختلف اللوائح السنية
العربية أو القومية مجتمعةً على 60 مقعداً، مع فوز المرشحين المستقلين
بالمقاعد المتبقية.
وبترشحه كنائب من بغداد فاز السيد المالكي بـ 721 ألف صوت - محققاً
بذلك أعلى نسبة تصويت فردي لأي سياسي عراقي ومتخطياً عدد الأصوات
البالغ 622 ألفاً الذي فاز به عام 2010. وكان من شأن هذا الأداء أن وضع
السيد المالكي في مركز قيادة للتغلب على من يعارض ولايته الثالثة في
الحكم. وبالفعل حين التقيت به وبأعضاءٍ من أوساطه المقربة خلال شهر
آذار/مارس، كانوا يتوقعون فوزهم بثقة ويضعون الخطط المفصّلة لهذه
الولاية الثالثة.
بيد أن فقدان سيطرة الحكومة على شمال العراق غيّر المشهد على ما
يبدو.
"الجيش الاحتياطي"
من الناحية السياسية التقليدية، يبقى السيد المالكي مرشحاً محتملاً،
وربما حتى المرشح الأوفر حظاً لرئاسة الحكومة. لكن الذريعة التي يرددها
خصومه العرب والأكراد، بأنه عاجز عن توحيد وإرساء الاستقرار في البلاد
عبر مشاركة السلطة مع خصومه، تكتسب المزيد من التأييد مرة أخرى.
وفي ضوء الانتفاضة السنية، يشير منطق الأحداث القوي إلى إمكانية
حدوث تغيير على مستوى القيادة العليا. وقد أثبتت الحكومة برئاسة السيد
المالكي قدرتها على التصدي لأي تنازلات جديدة قد يتعين عليها القيام
بها للمجتمع العربي السني في العراق حول تشكيل المناطق الاتحادية في
محافظتي صلاح الدين وديالى، وفيما يتعلق بالدعاوى القضائية المرفوعة ضد
زعماء السنة الكبار.
وكذلك الأمر بالنسبة للعلاقات المتردية بين السيد المالكي وأكراد
العراق. فقد خفض رئيس الوزراء حتى الآن مخصصاتهم الشهرية من الميزانية
لفترة أربعة أشهر من الأشهر الستة لهذا العام ولجأ إلى التحكيم ضد
تركيا بتهمة السماح للأكراد بتصدير النفط بشكل مستقل باستخدام خط
أنابيب النفط بين العراق وتركيا. ويقال حتى أن السيد المالكي رفض
العروض الكردية بالدعم العسكري في بداية الأزمة الراهنة. ولم يعد هذا
العرض قائماً الآن.
والاحتمال كبيرٌ بأن تعمل الحكومة بمؤازرة "جيشها الاحتياطي" الجديد
ذو الغالبية الشيعية على حفظ أمن بغداد والمناطق الشيعية من العراق.
لكن إعادة بسط سيطرة الحكومة على شمال وغرب العراق سيستلزم مساعِ جديدة
على مستوى الوحدة الوطنية. ويعود ذلك إلى أن القوات الحكومية التي
تتألف بمعظمها من الشيعة لا تستطيع على الأرجح أن تعيد الاستقرار
بمفردها إلى الشمال. وما لم تتلقَّ الدعم من حلفائها السنة المحليين،
فقد لا يؤدي وجود هذه القوات سوى إلى مفاقمة الأزمة الأمنية لأن العرب
السنة سيعتبرون هذا الوجود بمثابة اجتياج جديد. إن الأساس لقيام
استقرار سوف يتطلب مشاركة العرب السنة والشيعة بالاضافة إلى الأكراد.
"قيادة شمولية"
يعتبر السيد المالكي مرشحاً غير مقبولاً لدى أكراد العراق، فضلاً عن
الكثير من العرب السنة وفصيل شيعي واحد على الأقل - أتباع مقتدى الصدر
- لأنهم لا يثقون بالوعود التي يقطعها. ومهما كانت التنازلات التي تقوم
بها الحكومة الاتحادية لشركائها العرب والأكراد المحتملين في الحكومة
المقبلة، فلن تتمكن من الإيفاء بجميعها على الفور، الأمر الذي يجعل من
الثقة عنصراً جوهرياً في الحكومة المقبلة، مثلها مثل المساعي القريبة
المدى لدحر المكاسب التي حققها المتمردون في العراق.
ويحتدم النقاش مع المؤسسة الدينية الشيعية والحكومة الأمريكية
اللتين تلمحان بلغة تزداد جرأةً يوماً بعد يوم إلى أن العراق بحاجة إلى
تغيير جذري في مسارها السياسي، إلا أن هذه اللغة لا تصل إلى حد
المطالبة بتغيير القائد. وطوال عام 2014، كان كبير الزعماء الشيعة
العراقيين، آية الله العظمى علي السيستاني، ينتقد سجل الحكومة، الأمر
الذي يعتبر في العراق ازدراءً للسيد المالكي. وقد أقيمت صلة وثيقة بين
التدخل العسكري الأمريكي وانبثاق "قيادة شمولية" في العراق. وكان زعماء
الكونغرس الأمريكي هم الوحيدون الذين طالبوا علناً بإقالة السيد
المالكي، حيث أنهم مقتنعين بأنه من المستحيل إنقاذه من المأزق الذي هو
فيه.
لكن السيد المالكي ومناصروه لا يوافقون في هذه المرحلة على ضرورة
تنحيه عن السلطة. ففي النهاية حصل هو وكتلته فعلياً على تأييد انتخابي
أكبر من أي جهة أخرى، على حد ما يجادل به هؤلاء، وجدلهم مبرر بعض الشيء.
فأليس العراق بلداً ديمقراطياً؟
شخصية بديلة؟
تواصل إيران الإعراب عن دعمها للسيد المالكي مستعينةً بأفواج من
الجماعات الشيعية مثل "منظمة بدر" و "عصائب أهل الحق". كما أن "المجلس
الإسلامي الأعلى في العراق" ذو الغالبية الشيعية - الذي حصل على 30
مقعداً في البرلمان - خفف من حدة اعتراضه على ترشيح السيد المالكي
لولاية ثالثة، لا بل تعاون معه على تشكيل "الجيش الاحتياطي".
وهذه العوامل جوهرية، لأنه طالما يُعتبر السيد المالكي زعيماً
محتملاً بنظر الشيعة، ستكون حظوظه بولاية ثالثة كبيرة. بيد، إن الشيعة
هم الذين سيقررون هوية رئيس الوزراء المقبل في العراق وسيكون ذلك وراء
أبواب مغلقة، وسيحرصون في سياق ذلك على الظهور كجبهةٍ موحدة. والأرجح
أن قرارهم هذا لن يصدر قبل أسابيع، ويمكن حله قبل نهاية شهر رمضان في
أواخر تموز/يوليو.
وإذا ما أجمع الشيعة على قرار خروج السيد المالكي من السلطة من أجل
مصلحة الشيعة العراقيين وحرصاً على الوحدة الوطنية، سيختارون في الغالب
مرشحاً جديداً من أعضاء "حزب الدعوة" الإسلامية برئاسة السيد المالكي،
وهو أحد مكونات "تحالف دولة القانون". وقد يكون هذا البديل شخصية مقربة
من المالكي مثل رئيس مكتب موظفيه منذ فترة طويلة وشخص مؤهل للمنصب،
طارق نجم. فالسيد المالكي يثق به ليقِيَ رئيس الوزراء السابق من أي
محاكمة ذات دوافع سياسية.
ونظراً إلى قبضته المُحكمة على مجلس الوزراء وقوات الأمن، فضلاً عن
نتائج الانتخابات التي حصل عليها، لن يكون تهميش السيد المالكي خطوةً
يستخف بها الشيعة لأنها قد تؤدي إلى سيناريو أحلك من ذلك الذي يتصارع
معه العراق حالياً. فإذا تصدى السيد المالكي عسكرياً للطلب الشيعي
بالتنحي، قد يترتب عن ذلك تداعيات مدمرة على تماسك المجتمع الشيعي،
الأمر الذي يفتح خطر وقف تنفيذ العملية الديمقراطية، وزعزعة استقرار
مناطق جنوب العراق الغنية بالنفط، وتجزئة حقيقية للبلاد بأجمعها.
* مايكل نايتس هو زميل ليفر في معهد واشنطن
ومقره في بوسطن.
http://www.washingtoninstitute.org/
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة
النبأ المعلوماتية |