في التغيير الذاتي.. الشجاعة الحكيمة، قاعدة النصر

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: عندما يتعرض الوطن لتهديد ماحق من وراء الحدود، ينبري الإبطال من أبناء الوطن للدفاع عنه بكل ما أوتوا من قوة وإمكانات، فهم يستبسلون ويضحون ويتفانون في ساحة المواجهة، وهذا ربما يدفع البعض الى التهوّر والتطرف والانجراف نحو العاطفية، لاسيما اذا كانت هنالك قضايا ساخنة تحرك المشاعر وتعبئ النفوس، في مقدمتها المظلومية، او ما يعبر عنه حالياً بالحرب غير المتكافئة، فيكون الموقف الجماهيري باتجاه التعبئة العامة او النفير العام وتوظيف كل الجهود والطاقات باتجاه صد الهجمات المعادية، وهذا ما يتسبب احياناً بوقوع اخطاء تتمثل احياناً بسقوط ضحايا وشهداء في غير محلهم.

فالشجاعة والإقدام وكل صور البطولة، مطلوبة عندما يجدّ الجد، وتشتد الأزمة، بيد أن هذه الشجاعة والبطولة، وفي هكذا ظروف استثنائية، هي الأخرى بحاجة إلى ضوابط من العقل والحكمة تكون بمثابة المنطلق والقاعدة نحو تحقيق الأهداف المطلوبة.

وقد شهدت الأمة في تاريخها المعاصر مواجهات عنيفة مع أعدائها، لاسيما في حقبة الاستعمار، حيث كانت الشعوب تعيش من دون حكومات وأنظمة سياسية ومؤسسات دستورية وأمن وطني. إلا ان المواقف الشجاعة الممزوجة بالحكمة كانت عامل النجاح والتفوق رغم عدم وجود أي تناسب بين القدرات من جانبنا – من الناحية الظاهرية طبعاً- والقدرات لدى بريطانياً – مثلاً-.

وهذا ما يؤكد عليه سماحة المرجع الديني الراحل الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- في كتابه "ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين". حيث يدعو أهل التغيير الحقيقي بأن يتحلّوا بالحكمة والتعقل قبل ان التمنطق بقوة السلاح والمخابرات والمال وغير ذلك.. يقول: ".. بدون الحكمة لا تكون هنالك شجاعة، إنما تهوّر، والتهور كالجُبن، وكلاهما خطر على الانسان فرداً او جماعة او أمة لانه يسبب التأخر..".

ان صفة الشجاعة في الوقت الحاضر، تختزل ضمن شعار برّاق وجميل وكبير جداً، يستفاد منه لكسب بعض الامتيازات السياسية، لاسيما في الحملة الانتخابية والحاجة الى الاصوات. فنسمع عن "القائد الشجاع" و"الموقف الشجاع" و"الكلمة الشجاعة" وغيرها من الاستخدامات الممكنة في هذا المجال، وربما هذا يفيد صاحبه الى حدٍ ما، عندما تنطلي على البعض هذه الصفات التي يتقمّصها صاحبها، بيد أن الشعب بفئاته وشرائحه وطموحاته ليس فقط لا ينتفع بهذه الادعاءات، بل ربما تلحق به الضرر عندما يبين ما خلاف المعلن.

لذا نرى سماحة الامام الشيرازي يشترط في الشجاعة الحكيمة ذات الفوائد الكبيرة، أن تتصف بصفات عديدة منها:

أولاً: الإيمان

نعم؛ قد يكون الإنسان شجاعاً ومقداماً، سواءً في سوح القتال او خلال المعترك السياسي، أو أي موقع آخر، بيد العبرة في القاعدة التي ينطلق منها في شجاعته هذه، فهل شجاعته منبعثة من مصلحة شخصية او فئوية خاصة أو من مصلحة قومية، او ربما لتنفيذ أجندات ومصالح اطراف اخرى؟.

ان الشجاعة والإقدام اللذان تركا أثراً في التاريخ، هي تلك التي انطلقت من الإيمان بالقيم والمبادئ السامية، بينما نلاحظ هنالك شجاعة في الحروب وفي المواقف السياسية والاجتماعية وغيرها، انطلقت من مصالح خاصة ولتحقيق مكاسب معينة مصداق لمقولة "أكل الخبز بسعر يومه". فهنالك حالات وظروف ربما تطرأ على البعض تدفعهم لأن يتخذوا خطوات او مواقف متسرعة بداعي الشجاعة والحزم وعدم تفويت الفرصة، بيد ان النتيجة لن تكون سوى الهزيمة والخسران.

وهنالك أمثلة عديدة من تاريخنا حول الشجاعة المنبعثة من الإيمان الراسخ، يوردها سماحة الامام الراحل من المعارك التي خاضها الجيش الاسلامي في صدر الاسلام، وهكذا "نشر المسلمون الاسلام وحرروا البشرية في كثير من بقاع الأرض، حتى بلغت فتوحاتهم إلى ثلث المعمورة في اقل من ثلث قرن، فما قاتل المسلمون بكثرة العدد ولا بالعدّة، وما قاتلوا إلا وانتصروا لأنهم كانوا ينصرون الله بقلوب ملؤها إيمان، ولم يقصدوا بعملهم عرض الدنيا، فما قاتلوا إلا دفاعاً عن الحق والمثل العليا..".

ولنا في مواقف علمائنا الكبار من الذين خاضوا المواجهة المحتدمة مع الاستعمار البريطاني بكل شجاعة وصلابة، لكن ليست الشجاعة لاستعراض العضلات، كما يفعل بعض الساسة اليوم، إنما لتثبيت الموقف المبدئي الحازم أمام الطرف المقابل.. منها موقف الإمام الميرزا محمد تقي الشيرازي – قدس سره- في رفضه القاطع استقبال "برسي كوكس" السياسي البريطاني المخضرم، الذي كان يعد مخطط السياسة البريطانية في العراق والشرق الاوسط. هذه الشجاعة هي التي مكنته من قيادة اعظم ثورة جماهيرية في العراق والمنطقة بوجه الاستعمار البريطاني عام 1920. وعندما سُئل عن سبب رفضه استقبال ذلك السياسي المعروف، بينما استقبل بعد لحظات شخص مسلم رافق ذلك السياسي، بل وقام احتراماً له، فأجاب، بان الزائر البريطاني... لا يستحق الاحترام والتقدير، بينما انت انسان مسلم وجدير بالاحترام.

ثانياً: مصلحة المجموع

كما اسلفنا، بامكان الشجاعة توفير المصلحة الكبيرة لصاحبها، اذا كان في معترك السياسة او التجارة او أي مجال آخر في الحياة. بيد أن الشجاعة الحقيقية هي تلك التي تأخذ بنظر الاعتبار مصلحة المجموع، مجتمعاً وشعباً وأمة.. وحينها يكون للشجاعة طعمها الخاص، إذ ان الموقف الشجاع والبطولي سينطوي على تضحيات جمّة عندما يكون الطرف المقابل بصدد الاستحواذ على الارض والثروات، وبكلمة؛ على أهبة الاستعداد للاستعمار والاحتلال. ولعل هذا ما دفع بعض الشعوب لأن تقيم نصباً لرمز الشجاعة من اجل المصلحة العامة، وتطلق عليه بـ "الجندي المجهول".

والحقيقة؛ لدينا جنود ابطال معلومين وليس مجهولين، اتخذوا مواقفاً بطولية ضد الانظمة السياسية المنحرفة، ولم يتوانوا من قول الحق عندما يتعلق الأمر بشعب كامل يتعرض للتضليل والانحراف.

وفي كتابه - المشار اليه- يورد سماحة الامام الشيرازي واقعة حصلت في عهد الملك فيصل، وكان حينها يروم نزع اسلحة العشائر، فتصاعدت حدة الخلاف بينه وبين عشائر الفرات، فاراد التوسط لدى علماء النجف الاشرف للحصول على مشروعية لتنفيذ خطته التي كانت تقف خلفه بريطانيا. فجاء إلى النجف الأشرف وطلب اللقاء بعلماء الدين، فجاء الرد بالرفض، وبعد سلسلة مداولات بين السيد ابو الحسن الاصفهاني، والشيخ عبد الكريم الجزائري، والشيخ محمد حسين كاشف الغطاء، تم تفويض الشيخ الجزائري للتحدث إلى الملك، وفي اللقاء تهرّب الملك – يقول الامام الراحل- وأنكر ضغوطه على العشائر، لكن الشيخ الجزائري واجهه بالحقيقة بكل شجاعة، واتهمه بالكذب امام الله وفي حضرة امير المؤمنين، عليه السلام، وفي حضرة علماء الدين، فاسقط في يد الملك فيصل وعرف انه لن يتمكن من كسب ود علماء الدين بمعزل عن الجماهير، لاسيما العشائر. هذا الموقف الشجاع مكن العشائر من الاحتفاظ بأسلحتهم رغم ارادة الحكومة الملكية الحريصة على مصالح بريطانيا.

هذه الشروط وغيرها، ينبغي ان يتحلّى بها كل من يريد الشجاعة لنفسه، وان لا يسمى جباناً ومتخاذلا ً، لان هاتين الصفتين إنما تتمخض من واقع المجتمع والامة، فهي التي تحدد أي صفة لأي شخص مسؤول في الدولة او قيادي عسكري، لا أن يحددها هو بنفسه. وهنالك العديد من الامثلة لقادة او شخصيات بارزة ادعت لنفسها الشجاعة والحزم، بعيداً عن مصالح الشعب والامة، إنما ارادوا الشجاعة لأنفسهم ولمصالحهم. فاذا انتهت او تقاطعت مع مصالح اخرى، انتهى مفعول الشجاعة، وتحولت إلى جبن وتخاذل وتآمر، وينقلب كل شيء إلى هزيمة وخسران، وهذا بعينه من أبرز أسباب المآسي والويلات التي تعاني منها بلادنا من افعال حكامها.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 28/حزيران/2014 - 29/شعبان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م