الأزمة العراقية وموقف المرجعية

المسارات المتوازية لتلافي حصول الكارثة

د. خالد عليوي العرداوي/مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية

 

 لاشك أن إعلان المرجعية الدينية في النجف يوم 13/6/2014 للجهاد الكفائي في مواجهة الإخفاق الأمني في العراق، يشير إلى تطور كبير في موقفها من الحكومة والنظام والأحداث السياسية والأمنية ومن العملية السياسية برمتها، فهي بهذا الإعلان أمسكت مسكا مباشرا وواضحا بزمام المبادرة، فلابد أن تكون هناك جملة أسباب أوصلتها إلى اتخاذ هذا الموقف، الذي قرأته بعض الدوائر الإقليمية والدولية بشكل خاطئ، لكن نجاح المرجعية في حل الأزمة العراقية يتطلب بعض الخطوات المكملة والضرورية التي يمكن من خلالها تلافي الوصول إلى الهاوية في هذا البلد.

ظروف الإعلان المرجعي

لقد تضافرت جملة عوامل جعلت المرجعية تتخذ موقفها المعلن أعلاه منها:

1- الانهيار الأمني الخطير للأجهزة الأمنية العراقية أمام التنظيمات الإرهابية وعلى رأسها تنظيم داعش، وتمكن الأخيرة من بسط نفوذها على مساحات شاسعة من الأراضي في الموصل وصلاح الدين وكركوك والانبار، وتهديدها بالزحف على بغداد وكربلاء والنجف، وبقية المدن العراقية، ومحاولتها الجادة لفرض منهجها الظلامي الحاقد لا على الشيعة وحدهم، بل على كل طوائف ومكونات المجتمع بعيدا عن كل المعايير الإنسانية المعتبرة، وترافق ذلك مع تراخي وضعف الروح المعنوية للأجهزة الأمنية على مستوى فرق بكاملها، وانكشاف عدم قدرتها على امتلاك روح المبادرة لمواجهة الخطر الكارثي الذي يحدق بالعراق أرضا وشعبا وحرمات.

2- وجود نخبة سياسية عراقية شديدة الانقسام والتفرق وانعدام تام للثقة فيما بينها، وعجز أطرافها جميعا على التوحد والتوافق، على الرغم من الخطر المحدق بالبلد وأهله، وقد شبه احد الغربيين هذه النخبة بمن يتحدث عن عدد القطيع والذئب واقف على باب داره، بمعنى أن العراق كان في ظرف يواجه فيه خطرا شديدا وفوق العادة ولا توجد قيادة سياسية قادرة على توحيد المواقف والتصدي لهذا الخطر.

3- ارتباطا بالفقرة السابقة، فان انقسام القيادات السياسية، وانغماسها بلعبة الكراسي والسلطة والمصالح الضيقة، التي حذرت منها المرجعية مرارا وتكرارا على مدار السنتين المنصرمتين، انعكست سلبا على ثقة المواطن بالسلطة والنخبة السياسية، فلم يعد يشعر بنفسه كشريك للسلطة في حماية أمنه وحقوقه وسيادته وأرضه، بل كان يشعر أن السياسة ما هي إلا مكاسب ومغانم للسياسيين، وانه خارج اللعبة تماما، وربما أوصلت هذه المشاعر الكثير من المواطنين إلى الاعتقاد بأن تبدل الساسة لا يعني له شيئا، وان صراع التنظيمات المسلحة مع الحكومة وممثليها ما هو إلا محاولة قديمة جديدة لاستبدال حاكم بحاكم جديد، غافلا عن حقيقة أن داعش وحلفائها لا يستهدفون البنية الفوقية للحكم، بل يستهدفون كامل البناء العقائدي والحضاري ومنظومة الحقوق والحريات للناس على اختلاف انتماءاتهم ومرجعياتهم الدينية والأثنية والفئوية.

4- اعتماد داعش وحلفائها على خطاب ديني متطرف وإقصائي شديد الخطورة استطاعت من خلاله خداع واستغلال الكثير من الناس، مما جعل صراعها مع خصومها يحمل نوعا من السمة القدسية، وهكذا خطاب يحتاج إلى خطاب ديني مضاد أنساني ومنفتح على الآخر، ويحمل أيضا سمة قدسية.

فشل الحكومة والسياسيين كدافع للإعلان

لقد حمل تعامل المرجعية مع الظرف الخطير للعراق ثلاثة مستويات من الخطاب، وهدفت في كل مستوى إلى مخاطبة فئة بعينها لحثها ودفعها إلى اتخاذ الموقف الصحيح في المواجهة وكما يلي:

المستوى الأول: الخطاب الموجه للحكومة والنخب السياسية، لقد مارست المرجعية هذا المستوى من الخطاب في مناسبات عدة سابقة، لكنها خلال الأيام العصيبة من شهر حزيران الجاري مارسته في مناسبتين: الأولى في البيان الصادر من المرجعية بتاريخ 10/6/2014، والذي جاء فيه: ".. وهي (أي المرجعية) إذ تشدد على الحكومة العراقية وسائر القيادات السياسية في البلد على ضرورة توحيد كلمتها، وتعزيز جهودها في سبيل الوقوف بوجه الإرهابيين وتوفير الحماية من شرورهم..". والثانية بعد الإعلان الصريح للجهاد الكفائي بتاريخ 13/6/ 2014 وفي خطبة الجمعة المشهورة من الصحن الحسيني المقدس، التي جاء فيها " إن القيادات السياسية في العراق أمام مسؤولية وطنية وشرعية كبيرة، وهذا يقتضي ترك الاختلافات والتناحر خلال هذه الفترة العصيبة وتوحيد موقفها وكلمتها ودعمها وإسنادها للقوات المسلحة ليكون ذلك قوة إضافية لأبناء الجيش العراقي في الصمود والثبات..".

المستوى الثاني: الخطاب الموجه للأجهزة الأمنية في العراق، وهذا المستوى أيضا مارسته المرجعية الدينية في مناسبتين: الأولى في 10/6/2014 في بيان المرجعية أعلاه الذي جاء فيه:".. تؤكد (أي المرجعية) على دعمها وإسنادها لأبنائها في القوات المسلحة وتحثهم على الصبر والثبات في مواجهة المعتدين..". والثانية بتاريخ 13/6/2014 في خطبة الجهاد أعلاه التي جاء فيها: " إن دفاع أبنائنا في القوات المسلحة وسائر الأجهزة الأمنية هو دفاع مقدس... فيا أبنائنا في القوات المسلحة انتم أمام مسؤولية تاريخية ووطنية وشرعية واجعلوا قصدكم ونيتكم ودافعكم هي الدفاع عن حرمات العراق ووحدته وحفظ الأمن للمواطنين وصيانة المقدسات من الهتك ودفع الشر عن هذا البلد المظلوم وشعبه الجريح، وفي الوقت الذي تؤكد المرجعية الدينية العليا دعمها وإسنادها لكم تحثكم على التحلي بالشجاعة والبسالة والثبات والصبر، وأن من يضحي منكم في سبيل الدفاع عن بلده وأهله وأعراضهم فانه يكون شهيدا إن شاء الله تعالى ".

ويتضح من خلال تعامل الخطاب المرجعي مع هذين المستويين أنها في 10/6 أرادت أن تترك المبادرة في تحمل مسؤولية مواجهة الخطر الأمني بيد الحكومة العراقية ونخبها السياسية والأجهزة الأمنية، ولكن فشل الأخيرة وعجزها عن تحمل هذه المسؤولية بجدارة، دفع المرجعية إلى تحمل هذه المسؤولية بتاريخ 13/6 من خلال إعلان الجهاد الكفائي وإدخال مستوى ثالث من الخطاب مع إبقاء المستويين الأوليين في دائرة الضوء لتحمل مسؤوليتهم الشرعية والوطنية والتاريخية.

المستوى الثالث: الخطاب الموجه لعموم الشعب، وفي هذا المستوى من الخطاب أرادت المرجعية القضاء على روح اللامبالاة والتخلي عن تحمل المسؤولية من قبل الشعب العراقي، وإشراكه بقوة في حماية أمنه وبلده، لجعله قوة ردع حقيقية وقوية تقلب موازين الإرهاب ومن يقف خلفه من القوى الإقليمية والدولية، وقد اعتمدت المرجعية هذا المستوى من الخطاب بتاريخ 13/6 بالقول " إن التحدي وان كان كبيرا إلا أن الشعب العراقي الذي عرف عنه الشجاعة والإقدام وتحمل المسؤولية الوطنية والشرعية في الظروف الصعبة أكبر من التحديات والمخاطر، فان المسؤولية في الوقت الحاضر هي حفظ بلدنا العراق ومقدساته من هذه المخاطر، وهذه توفر حافزا لنا للمزيد من العطاء والتضحيات في سبيل الحفاظ على وحدة بلدنا وكرامته وصيانة مقدساته.. ولا يجوز للمواطنين.. أن يدب الخوف والإحباط في نفس أي واحد منهم.."، وقد توجت المرجعية خطابها على المستويات الثلاثة بإعلان الجهاد الكفائي بالقول: " إن طبيعة المخاطر المحدقة بالعراق وشعبه في الوقت الحاضر تقتضي الدفاع عن هذا الوطن وأهله وأعراض مواطنيه، وهذا الدفاع واجب على المواطنين بالوجوب الكفائي.. "

وعند التمعن في مضامين هذا الإعلان من قبل المرجعية نكتشف ما يلي:

1- إدراك واضح من قبل المرجعية لفداحة الخطر الذي يتهدد العراق أرضا وشعبا وحرمات، وحرص على عدم ترك هذا البلد ومواطنيه لعبة بيد السياسيين والمسؤولين غير الكفوءين، والذين تسيرهم مصالحهم الضيقة على حساب المصالح العامة المحترمة.

2- خلو الخطاب المرجعي من أية إشارة قريبة أو بعيدة إلى الطائفة والمذهب، بل كان خطابا عاما لكل المواطنين، ويستهدف حماية حقوق وحريات الجميع، وهذا ما نجده بالقول: ".. فان مسؤولية التصدي لهم (أي الإرهابيين) ومقاتلتهم هي مسؤولية الجميع ولا يختص بطائفة دون أخرى أو بطرف دون آخر".

3- إضفاء صفة القدسية على جهاد العراقيين لتكون البديل المناقض للخطاب الظلامي الرافض للآخر من قبل داعش وحلفائها، وتتضح المضامين العميقة لذلك في قول المرجعية: " إن منهج هؤلاء الإرهابيين المعتدين هو منهج ظلامي بعيد عن روح الإسلام يرفض التعايش مع الآخر بسلام ويعتمد العنف وسفك الدماء وإثارة الاحتراب الطائفي وسيلة لبسط نفوذه وهيمنته على مختلف المناطق في العراق والدول الأخرى ".

4- إن دفع المواطنين للجهاد لا يعني الفوضى والخروج عن المؤسسات الرسمية للدولة، بل يجب أن يكون في إطار هذه المؤسسات بما يعزز من كفاءتها ويحسن من مستواها، لذا قالت المرجعية: ".. على المواطنين الذين يتمكنون من حمل السلاح ومقاتلة الإرهابيين دفاعا عن بلدهم وشعبهم ومقدساتهم عليهم التطوع للانخراط في القوات الأمنية لتحقيق هذا الغرض المقدس".

استغلال الإعلان وضمانات نجاح المرجعية في حل الأزمة

هل يمكن إساءة التعامل أو القراءة الخاطئة لموقف المرجعية الدينية؟.

الجواب نعم، طالما أن النفعيين والانتهازيين موجودين في الإطار الوطني والدولي، فسيحاول البعض استثمار هذا الموقف لأغراض سلطوية، أو أغراض طائفية، أو لأغراض أخرى مرتبطة بتصفية الحسابات مع الخصوم، ولا يعني ذلك أن هناك خطأ في الموقف المرجعي، وإنما النوايا السيئة لدى البعض هي التي ستحاول ارتكاب الأخطاء، وهذا الأمر متوقع، لكن الضمانة الحقيقية والقوية لتقليل هذه الحوادث والنجاح في تفعيل دور المرجعية في حل الأزمة ومنع الكارثة الوشيكة، ستكون المرجعية نفسها من خلال استمرار مسكها لزمام المبادرة، وعدم ترك الأمور تنفلت بيد إطراف لا تحسن العمل في الميدان وتفسر الموقف على هواها، وإعلان البراءة من القوى والجهات التي تنغمس في مثل هذه الحوادث ليكون ردعها ردعا لغيرها، واستثمار حالة العاطفة الدينية والوطنية للشعب والأخطاء المرتكبة من قبل الجماعات المسلحة لتنعكس بشكل توجيهات وسلوكيات ايجابية تطور منظومة التعايش مع الآخر وتهيئ لشراكات مصالح طويلة الأمد بين المكونات العراقية المختلفة تخلق الأرضية الملائمة للتفاهمات السياسية في تشكيل الحكومة وبناء الدولة، والمساهمة القوية لانفتاح العملية السياسية على مشروع وطني لبناء الدولة يستوعب جميع أطياف الشعب على اختلاف انتماءاتهم الدينية والمذهبية والفكرية والأثنية.

إن اعتماد المرجعية على المسارات المتوازية في حل الأزمة، أي أن قوة الدفع باتجاه الحل الأمني توازيها قوة دفع باتجاه الحل السياسي، ستكون مفيدة جدا في تجنب تصاعدها، ويبدو أن تأكيد معتمدها في كربلاء السيد احمد الصافي في خطبة يوم الجمعة الموافق 20/6/2014 على وجوب احترام السياسيين والمسؤولين العراقيين للتوقيتات الدستورية في انعقاد جلسات البرلمان الجديد المنتخب، والإسراع بتشكيل حكومة جديدة قوية يتوافق عليها الجميع، تتلافى أخطاء الماضي، يدل على إدراكها العميق لهذا الموضوع، لكن نجاحها في مسعاها يبقى رهنا باستجابة السياسيين واحترامهم لتوجيهاتها وتوصياتها.

* مدير مركز الفرات للتنمية والدراسات الإستراتيجية

www.fcdrs.com

[email protected]

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 24/حزيران/2014 - 25/شعبان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م