حالة الاستنفار الإقليمية – الدولية، التي استدعتها سيطرة داعش على
نصف العراق، لها ما يبررها، مع أن معظم، حتى لا نقول جميع دول الإقليم،
أسهمت بقسطها، وخدمة لمصالحها وحساباتها، في إخراج "مارد داعش من
القمقم"، وهيهات أن يعود إليه ثانية.
وعلى أهمية وخطورة ما تسبب به تسونامي داعش من انهيارات متلاحقة
للجيش والأمن والدولة في العراق، إلا أن لحالة الاستنفار والنفير،
أسباباً كامنة لدى كل دولة من دول الإقليم، والتي تتخطى الجغرافية
العراقية، إلى صميم المصالح الاستراتيجية لهذه الدول، التي يواجه بعضاَ
منها لحظة "انقلاب السحر على الساحر".
تركيا باتت دولة جارة للدولة الإسلامية في العراق والشام، وثمة
معابر حدودية وحدود طويلة نسبياً تربط بينهما... ومن المؤكد أن "داعش"
ما كانت لتكون ما أصبحت عليه اليوم، لولا التواطؤ التركي البالغ حد
تقديم التسهيلات اللوجستية والعملية لمجاهديها... مقاتلو داعش من غير
السوريين والعراقيين جاءوا عبر تركيا وبعلم أجهزتها الأمنية حتى أن
مصادر تحدثت عن مئات المقاتلين الذي تسللوا إلى سوريا ومنها إلى العراق،
قبل أيام قلائل فقط من "غزة نينوى".
وتركيا تشتري النفط السوري من داعش وبـ "أسعار تفضيلية"، وتجارها
يعملون بعلم المخابرات التركية وتحت سمعها وبصرها، وهم يعلمون أنه نفط
مسروق، وأن عائداته توظف في دعم الإرهاب... لكن حسابات أنقرة، كانت
تذهب في اتجاه آخر: داعش فرس قوي من فرسان الرهان للتسريع في إسقاط
نظام الأسد، وداعش مهمة لإبقاء أكراد سوريا، ومن بعدهم أكراد تركيا
والعراق، تحت التهديد.
اليوم، ينقلب السحر على الساحر، فما أن اشتد ساعد "داعش" في الموصل،
حتى رمت به القنصلية التركية في المدينة، وليس من شك في أن تركيا،
ستكون في لحظة ما، هدفاً تالياً في مشروع الخلافة لأبي بكر البغدادي،
ومن يتابع الجدل المحتدم في تركيا، يتكشف حجم "الفضيحة" التي أحاطت
بالدور التركي في هذا الملف، وحجم القلق والتحسب من احتمالات المستقبل.
في المقابل، ليست إيران ببريئة تماماً من محاولات "توظيف" داعش
وتوسيع نطاق استخداماتها... فالحركة وفرت لحليفي طهران في بغداد ودمشق،
فرص الادعاء بأن كل ما يجري على أراضي بلديهما، ليس سوى إرهاباً في
إرهاب، وأن ما يجري في العراق وسوريا ليس سوى مؤامرة تديرها غرف
سوداء.... أما المعارضة بأشكالها المختلفة، وتطلعات المواطنين
وأشواقهم، فذاك "هذيان" لا مطرح له في قاموس المالكي أو الأسد، الأول
مسكون بهاجس الولاية الثالثة، والثاني تائه في احتفالات النصر
الانتخابي العظيم ؟!
اليوم، ينقلب السحر على الساحر كذلك، فداعش تتقدم على محور ديالى،
وقد تصبح دولة مجاورة، بحدود مشتركة مع إيران، وإيران تبدو كمن يبتلع
الموسي، فإن هي اخترقت الحدود العراقية، قامرت بإشعال حرب مذهبية
كونية، وإن هي تركت حليفها في بغداد يواجه مصيره، قامرت بفقدان سيطرتها
ونفوذها في العراق.... وليس لها من مخرج من هذا الاستعصاء سوى "تسريع"
خطى التنسيق والتعاون مع "الشيطان الأكبر" في العراق، الذي تلتقي
مصالحها مع مصالحه هناك، وللمرة الثانية في غضون عقد من الزمان... ألم
تلتق هذه المصالح والحسابات في حرب 2003؟
النظام السوري في غاية الابتهاج، والإعلام السوري الرسمي الذي بدا
لبعض الوقت مُقلّاً في "تمجيد القائد" والتسبيح بحمد الزعيم الفذ (إلى
الأبد) يعود بعد انتصاراته الميدانية وانتخاباته الرئاسية، إلى اعادة
انتاج أبشع صفحات تاريخه في هذا المجال... ومما لا شك فيه أن "بعضهم"
في دمشق يقارن مزهواً بين صمود الجيش السوري (العقائدي) لأعوام أربعة
وانهيار جيش العراق (جيش بريمر) في غضون أربع ساعات فقط، مع الفوارق
الكبرى في التجربتين... هنا في سوريا، لا غطاء سوى من روسيا وإيران،
وهناك في العراق تقف جبهة عالمية صلبة لدعم المالكي وحكومته وجيشه...
هنا مجاهدون من كل حدب وصوب ولون، وهناك تكاد المعركة تقتصر على داعش
وفصائل عراقية معروفة، كاد النسيان أن يطويها.
النظام الذي أجاد لعبة "تدعيش" المعارضة، واختزال جميع خصومه
بالقاعدة والإرهاب، ينتظر الآن بفارغ الصبر، حدوث الانقلاب في المواقف
حياله... فالخطر الداعشي الداهم، قد يحدث فجوات كبيرة في جدران العزلة
التي تحيط به، والذين طالما أظهروا تردداً في الاقتراب منه أو التعاون
معه، قد يتخلون عن حذرهم من على قاعدة درء الخاطر الماحق بالخطر المرجأ.
ولداعش حدود طويلة نسبياً مع السعودية كذلك، والمؤكد أن المملكة
التي استعجلت إسقاط النظام في دمشق، ودعمت في سبيل ذلك المعارضات من كل
جنس ولون، باتت تتحسب للحظة انتقال الشرارات الجهادية إلى ثوبها،
والإعلان قبل بضعة أشهر عن تفكيك خلية جهادية كبيرة (داعشية) لم يكن
سوى أول غيث هذه التحديات، فما بالكم وداعش باتت دولة جارة، تربطها
حدود مشتركة مع الدولة النفطية الأكبر، وحاضنة الحرمين الشرفين.
وعلى الأردن أن يقلق جيداً من هذه التطورات، فالهلال الجهادي الذي
يحيط به، بات أكثر قوة واقتدارا... والتقارير تتحدث عن نوايا "داعشية"
لاستهداف الأردن، من المثلث الحدودي المشترك مع العراق وسوريا، وصولاً
إلى البادية الجنوبية... وفي هذا السياق نقرأ رسائل عيد الجيش، وبه
أيضاَ نفسر الاستعدادات الوقائية والدفاعية التي اتخذت على حدوده
الشرقية والشمالية مؤخراً.
عندما كان يقال، أن استمرار الأزمة السورية من دول حلول سياسية
توافقية، وطنياً وإقليمياً ودولياً، سيفضي إلى انفجار الإقليم بمجمله،
كان قصار النظر في هذه المنطقة (والعالم)، اللاهثين خلف مصالح آنية
وحسابات وهمية، يتحدثون بقدر كبير من الاستخفاف والسخرية... ها هو
الإقليم برمته في حالة طوارئ، لمواجهة "ربيع الجهاديين" المرشح أن يكون
شتاءً قاسياً وريحاً صرصر على هذه المنطقة بمجملها، دولاً وحكومات،
مجتمعات وشعوب.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة
النبأ المعلوماتية |