في التغيير الذاتي .. غلق الطرق أمام الديكتاتور

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: "الديكتاتور"، او المستبد برأيه والمستأثر بالمال والسلطة، عدو العلم والثقافة والمعرفة، لانها نور كاشف لحقيقته وما يخفيه من ضعف وخواء، لذا فهو صديق الجهل ويدعو اليه دائماً، وفي الواقع العملي يدعو الى التسطيح والتعويم في الفكر والثقافة، ولا يدع مجالاً للتعمّق للمعرفة، ودراسة الحاضر والتطلّع نحو المستقبل. كل هذا صحيح.. إذن؛ لماذا نلاحظ حياة طويلة للديكتاتورية في بلادنا؟، فقد تمكن بعضهم من قضاء فترة أربعين عاماً في الحكم، من فترة شبابه الى كهولته!. بمعنى تجاوز جيل كامل من شعبه، ثم سقط بكل سهولة، ودون أي مقاومة منه.

جهل مرفوض وجهل مقبول

الجهل، بالأساس سمة سلبية لا يقبلها انسان لنفسه، لتعارضها مع فطرته الطموحة للتعلّم والتقدم، لان هذه السمة ربما تقرّب الانسان الى الحيوان، كما اشار القرآن الكريم الى هذه الحقيقة: {هم كالأنعام بل أضلّ سبيلا}، بيد أن هذا الجهل نفسه، يكتسي سمة ايجابية عند بعض الشعوب فيكون المدخل الاول المرقاة الاولى امام قدم الحاكم ليتدرج في سلّم الديكتاتورية حتى القمة.

في كتابه "ممارسة التغيير لإنقاذ المسلمين"، يشير سماحة المرجع الديني الراحل الامام السيد محمد الحسيني الشيرازي – قدس سره- الى هذه الحالة النفسية الشائعة ويصفها بـ "الجهل المركب"، الذي يعده العلماء أخطر انواع الجهل، اذ يتصور صاحبه ان ما يفعله هو الصواب، فهناك من يجهل بجهله وخطأه، فهو ربما يصحح مساره، وهناك من يعلم بجهله ويكابر فلا يهتدي الطريق، والنوع الثالث الذي نحن بصدده؛ فهو من يعتقد جزماً انه على الطريق الصحيح الذي لا تشوبه شائبة و ربما يكتسب نوعاً من التقديس.. رغم ان قادم الايام ومتغيرات الظروف تكشف بين فترة واخرى عكس هذا التصور، كما حصل عند شعوب عديدة، سعت نحو التغيير، لكن تغييرها السياسي ومحاولتها ازالة الديكتاتورية أولد ديكتاتوراً جديداً وبثوب جديد.

كيف ذلك؟

سماحة الامام الراحل يسلط الضوء على زاوية مظلمة في التصورات الذهنية المولدة لحالة الديكتاتورية، عندما يشير الى حالة قصر النظر وانعدام الشمولية في الرؤية لحل الازمات والمشاكل. فعندما تحدث الانتفاضات والتحركات السياسية المعارضة، فتثور الجماهير في الشوارع ويعكف الساسة المعارضون على التنظيم والتخطيط، إنما بهدف حل الازمات والمشاكل التي يعاني منها البلد، مثل الازمات الاقتصادية والسياسية والامنية، بيد ان المشكلة تبدأ في التمحور حول نقطة صغيرة واحدة واتخاذها الهدف الاساس للتحرك والتغيير.

مثالنا القريب؛ العراق.. فخلال (35) سنة من حكم حزب البعث في العراق، ظهرت العديد من الازمات والمشاكل، ثم تراكمت وتعقدت ، وبعدها تجمعت بفعل عوامل عديدة في شخص واحد هو "صدام"، وعندما أريد تغيير الوضع في العراق، تركز الجهد على ازالة هذا الشخص عن كرسي الحكم، وشاع بين الناس، أن مجرد سقوط صدام ينتهي كل شيء، ويعود العراق سعيداً، آمناً، متقدماً.

هذا التصور – الجهل المركب- يواصل نشاطه الذهني حتى بعد مرحلة التغيير، فيكون التركيز على المشكلة الأمنية، وضرورة توسيع شبكة المخبرين والجواسيس وزيادة التشكيلات العسكرية وشراء المعدات والاسلحة، بل حتى الخوض في أمر الانتاج والتصنيع العسكري والابداع فيه!. بينما تبقى أمور اخرى مهمشة، ربما لا تقل اهمية عن مسألة الأمن، مثل قضية التربية والثقافة والاقتصاد وغيرها.

ان مجرد جهل الشعب بأهمية التغيير الشامل والجذري للأوضاع الاجتماعية والاقتصادية والسياسية، هو ما يبحث عنه أي حاكم ديكتاتور، لسبب بسيط واحد؛ فالتغيير الحقيقي سيجعل على معرفة كاملة بواقعهم ما يحيط بهم وما هو امامهم وما يجب فعله وما لا يجب.. هنا تتضح مساوئ الديكتاتور الذي لم يصل الى القمة بالعلم والمعرفة والثقافة، إنما بالتضليل والتغرير والدسائس السياسية والتحالفات المشبوهة، لذا يقول سماحة الامام الشيرازي ان الديكتاتور "يصر دائماً على سياسة التجهيل وغلق كل منافذ المعرفة بألف وسيلة ووسيلة..".

ان للامة تجارب ثرية وطويلة، فالمسألة لا تتعلق بحقبة تاريخية معينة، تعرفت فيها الشعوب على الديكتاتورية خلال القرن العشرين، من خلال جنرالات الانقلاب العسكري، إنما لدينا تاريخ حافل بالسياسات الديكتاتورية على امتداد التاريخ الاسلامي. يكفي تصفح تاريخ الدولة الأموية ثم العباسية وحتى الدولة العثمانية. كل أولئك مارسوا الديكتاتورية بأبشع صورها، وعاثوا في الارض فساداً، فهدرت الثروات وأريقت الدماء وانتهكت الاعراض، والنتيجة تخلّف بعيد للمسلمين عن ركب الحضارة والتقدم.

ثم يبقى السؤال؛ هل وجد المسلمون، او هذا الشعب وذاك، مكمن المشكلة والجذر الذي يغذي شجرة الديكتاتورية؟.

القائد، المنقذ.. الضرورة..

عندما يعكف الناس باهتمامهم، نفسياً وذهنياً وبدنياً وبكل وجودهم على قضية محددة مثل "الأمن" أو "الوضع المعيشي" او "الخدمات"، وغيرها، فان الحاكم الذي يعد بتنفيذ هذه المطالب لابد ان يكون محل شكر ومديح الناس، وهذه بدورها تمثل المرقاة الثانية في سلّم الديكتاتورية، وهذا تحديداً ما يريده الحاكم الديكتاتور، فهو الوحيد الذي بيده العصا السحرية للتغيير، ولا حاجة الى الآخرين، حتى وان كانوا من اصحاب الرأي السديد، والأهم من هذا، اطمئنانه على مفاتيح القدرة والامكانات في جيبه!. فمن خلال المال والثروات الموجودة في البلد، ومن خلال الموقع الاستراتيجي وتحالفاته وعلاقاته مع المحيط الاقليمي والدولي، بامكانه المضي قدماً في شعاراته ووعوده بحل المشاكل ووضع البلد والشعب في مصاف البلاد المتقدمة ومكافحة الأمية والتخلف و.... الى آخر القائمة.

من هنا نجد تبلور مطالب مثل "التداول السلمي للسلطة" و "التوزيع العادل للثروة"، وهذه المطالب وغيرها، ظهرت خلال العقود الماضية رداً على المساوئ والمهاوي التي خلقتها الانظمة الديكتاتورية في بلادنا، عندما ألغت الكفاءات والقدرات الموجودة في اوساط الشعب، وقتلت الفكر والابداع والعلم والمعرفة. لكن يبقى السؤال، في كيفية تفعيل هذه المطالب على ارض الواقع لتكون الخطوة الاولى لإزالة الديكتاتورية؟. فمن الملاحظ ان هذه المطالب تكتسي رداءً سياسياً، كما لو الاحزاب السياسية المعارضة او النخبة المجتمع، هو المعنيين فقط بمسألة التداول في السلطة والمشاركة في اتخاذ القرار، بينما نجد البعد الواسع لهذه المطالب في رؤى سماحة الامام الشيرازي الذي يذهب الى ما هو أبعد من السياسة بكثير حيث يقول: "إذا تمكن المسلمون من توزيع القدرة لا بد وأن يظهر الإسلام الذي فيه حل كل المشاكل الاقتصادية والسياسية والتربوية والاجتماعية وغيرها".

كيف ذلك؟

إن الاسلام، مجموعة من الاحكام والقيم – يقول سماحة الامام الراحل- لذا فان الفقهاء المجتهدين، يبذلون مساعي جمّة لاستنباط الاحكام من مصادرها المعروفة، تبقى الموضوعات فهي وليدة الواقع الموجود، وهي بحاجة خبرات واسعة في المجالات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. ولتوضيح الفكرة يقول سماحته: "اشتهر بين الفقهاء أن الموضوع يؤخذ من العرف وإنما الحكم يؤخذ من الشرع، وحيث أن الكفاءة في الأحكام وفي الموضوعات متوفرة في المجتمع على نحو القوة وإنما الذي يحول دون ظهورها على نحو الفعلية هو دكتاتورية الحكام، فإذا تمكن المسلمون من إزالة هذه الدكتاتورية - التي تظهر تارة بالمظهر الملكي، وأخرى بالمظهر الجمهوري، وثالثة بالمظهر العلماني، والرابعة بالمظهر الديني، وإلى غير ذلك - نمت القابليات في الأحكام وفي الموضوعات، وهناك يكون البدء بالتقدم".

بمعنى أن وجود الفرصة لنمو الكفاءات العلمية والقدرات السياسية يكون عاملاً مساعداً على تقدم المسائل الفقهية بحيث يكون التقدم والتطور في خط واحد من شأنه ليس فقط حل المشاكل والازمات، إنما التطلّع الى التطور في المجالات كافة. وبذلك نكون قد اغلقنا اهم باب من ابواب الديكتاتورية.

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 21/حزيران/2014 - 22/شعبان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م