سرعان ما أصدرت جماعة "داعش" تعليماتها التعسفية ضد المواطنين بعد
ساعات من استيلائها على مدينة الموصل، فتوعدت في ما عرف بوثيقة المدينة
بهدم المزارات التاريخية باعتبارها أوثانا ومنعت التدخين وخروج النساء
وفرضت عليهن ارتداء زي معين.
وتضمنت "وثيقة المدينة" التي نشرتها مواقع تابعة لتنظيم داعش 16
نقطة، تبدأ بأوامر تفرض على النساء ارتداء الجلباب الفضفاض عند خروجهن
للحاجة القصوى، وفقا لما قالت أنها تعاليم الشريعة الإسلامية و"هدي
أمهات المؤمنين والصحابيات".
كما حرمت "داعش" في وثيقة المدينة الاتجار والتعاطي بـ(السكائر)،
وتوعدت من يتعامل مع الحكومة العراقية بالموت ووصفت هذا التعامل
بـ"الردة".
ويبدو واضحا إن إطلاق اسم "وثيقة المدينة" على الأوامر التي أصدرتها
داعش في الموصل يحاكي ما عرف تاريخيا بـ"دستور المدينة" الذي أصدره
الرسول الكريم "ص" بعد هجرته إلى المدينة المنورة. لكن الفارق يبدو
كبيرا وواضحا بين أحكام دستور الرسول وبين الأحكام التي جاءت بها داعش.
فدستور المدينة الذي تم إصداره قبل نحو 1400 سنة، نظم بشكل حضاري
إنساني شفاف، العلاقة بين المسلمين أنفسهم وبينهم وبين الآخرين من
اليهود وغيرهم، وضم اثنين وخمسين بندا، خمسة وعشرون منها خاصة بأمور
المسلمين، وسبعة وعشرون أخرى مرتبطة بتنظيم العلاقة بين المسلمين
وأصحاب الأديان الأخرى والمشركين.
وقد ضمن دستور المدينة لأصحاب الأديان الأخرى العيش مع المسلمين
بحرية وسلام، وكفل لهم ممارسة شعائرهم حسب رغبتهم، ومن غير ضغط أو
تضييق. لكنه فرض على الجميع وفي حال مهاجمة المدينة من قبل عدو،
مجابهته وطرده.
هذه أبرز مبادئ دستور المدينة ويبدو الفرق واضحا بينه وبين وثيقة
المدينة التي أصدرتها داعش بعد احتلالها مدينة الموصل، فدستور المدينة
كرس احترام الحقوق المدنية والشخصية والعقائدية لسكان المدينة المنورة
والساكنين في جوارها.
ولم يفرض عليهم الإيمان بالقوة كما لم يجبرهم على التخلي عن
معتقداتهم، إنما نظم اختلافاتهم بوضعه أسسا للتعايش والقبول بالآخر،
ومن الغريب أن تأتي جماعة بعد نحو 1400 سنة من صدور دستور المدينة،
بوثيقة أخرى تنطوي على أحكام مغايرة لما جاء به الإسلام على الرغم من
ادعائها بأنها حركة إسلامية.
وتبدو جماعة داعش ومن خلال جميع ممارساتها أنها غير معنية بكل ما له
علاقة بحقوق الإنسان وحفظ التعايش الإنساني، فهي مسؤولة عن ارتكاب
مجازر مروعة بحق المدنيين في سورية والعراق، كما هي من اشد الحركات
التي تجاوزت على الإرث الحضاري والإنساني من خلال تهديمها وتدميرها دور
العبادة للمسيحيين والشيعة في سورية والعراق.
والأغرب أن داعش، وجل عناصرها من الشباب وغير البالغين، وإن زعمت
إنها تدعو إلى تطبيق شرع الله وفقا لما تؤمن به، فإنها لا تدعو إلى
الله مطلقا ولا تتيح للآخرين معرفة الله الذي تؤمن به، إنما تسارع إلى
ذبح وقتل كل من كان مسيحيا وشيعيا وعلويا وسنيا لم يكن من عناصرها ولم
يؤمن بأفكارها.
في حين أن السلوك المنطقي لأية جماعة سوية واثقة من تعاليمها
وأفكارها يقتضي قيامها بعرض ما تؤمن على الآخرين قبل قيامها باستهدافهم
جسديا، ما يعني إن داعش مجموعة أسست لأهداف بعيدة عن التبشير الديني
والعقائدي.
وفي هذا تجاوز واضح وخروج على الأعراف والقوانين الدولية، ففي حين
نصت المادة 18 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان الصادر في 1948 على إن
"لكل إنسان حق في حرية الفكر والوجدان والدين ويشمل ذلك حريته في أن
يدين بدين ما، وحريته في اعتناق أي دين أو معتقد يختاره".
تأتي جماعة داعش لفرض أيديولوجيا معينة مليئة بالعنف والكراهية على
طوائف أخرى فتصادر حق أفرادها في اختيار طريقة التعبد والحياة التي
يؤمنون بها، وهي بهذا تثبت أنها لا تؤمن بعقيدة سماوية ولا بأعراف
دولية.
ويبدو جليا ان داعش ومن يقف خلفها من دول وأجهزة مخابرات دولية
تستخدم الدين لتحقيق أغراض سياسية، وهو أمر بالغ الخطورة لكون هذه
الطريقة تهدد بانفجار ديني في المنطقة ولاسيما في العراق وسورية.
وتسببت الدعوة الأخيرة التي أطلقتها داعش وهددت فيها بتهديم دور
العبادة المسيحية والمزارات الدينية والحضارية في كل من محافظات نينوى
وكربلاء والنجف بتوتر ديني خطير وتصعيد أمني أدى إلى إعلان الجهاد من
قبل رجال دين شيعة وسنة على حد سواء.
فقد أفتى الشيخ أحمد الكبيسي، أحد كبار رجال الدين السنة بوجوب قتال
داعش معتبرا من يقتل في التصدي لها بأنه شهيد، وهي الفتوى التي انطلقت
أيضا من النجف وقم الإيرانية حيث أفتى مراجع دين شيعة كبار بحكم مماثل.
ما دفع بعشرات الآلاف من الشباب والرجال من العراقيين إلى الاستجابة
لفتاوى الجهاد ما ينذر بحرب واسعة في البلاد، ويهدد الأمن في منطقة
الشرق الأوسط برمتها.
ويرى "مركز آدم" أن الجماعات المسلحة بشكل عام وداعش على وجه الخصوص
تنامت بشكل لافت في السنوات الأخيرة وباتت تشكل تهديدا كبيرا لأرواح
وممتلكات المواطنين العراقيين، ويحذر الجهات التي تدعم هذه المجاميع من
مخاطر جدية ستترتب على انتشارها في المنطقة.
خصوصا وإنها تتألف في معظمها من مراهقين وعناصر غير ناضجة ولا توجد
لها قيادة واضحة منضبطة ولا تتبنى مشروعا سياسيا سوى تبني العنف
والتدمير.
ويجد المركز ضرورة تتضافر الجهود الدولية كافة لمواجهة هذا الخطر
الكبير الذي يهدد المنطقة والعالم، من خلال تجفيف منابع الدعم المالي
واللوجستي الذي يتلقاه وتحريم رجال الدين السنة الانتماء له والانخراط
في صفوفه وتحريم تقديم الدعم له طالما أن جميع عناصره من المسلمين
السنة.
..........................................
** مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات هو أحد
منظمات المجتمع المدني المستقلة غير الربحية مهمته الدفاع عن الحقوق
والحريات في مختلف دول العالم، تحت شعار (ولقد كرمنا بني آدم) بغض
النظر عن اللون أو الجنس أو الدين أو المذهب. ويسعى من أجل تحقيق هدفه
الى نشر الوعي والثقافة الحقوقية في المجتمع وتقديم المشورة والدعم
القانوني، والتشجيع على استعمال الحقوق والحريات بواسطة الطرق السلمية،
كما يقوم برصد الانتهاكات والخروقات التي يتعرض لها الأشخاص والجماعات،
ويدعو الحكومات ذات العلاقة إلى تطبيق معايير حقوق الإنسان في مختلف
الاتجاهات...
هـ/7712421188+964
هـ: عباس سرحان/7800005641+964
http://adamrights.org
ademrights@gmail.com
https://twitter.com/ademrights |