حكومة الأخلاق والحرية

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: ما يزال الكثير في العالم ينظرون على "المدينة الفاضلة" التي أطلقها أول مرة الفيلسوف الاغريقي "افلاطون"، من خلال كتابه "الجمهورية"، ضرباً من الخيال السياسي والمثالية الاخلاقية في تشكيل مجتمع تتكامل فيه صفات ومعايير تؤدي الى حياة سعيدة، ومضى على خطاه "الفيلسوف المسلم" ابو نصر الفارابي، الذي قدم قراءة جديدة لهذه النظرية، وأضفى عليها مفردة "الفطرة والإرادة" ذات الصبغة الاسلامية، وبها زاد في تعقيد الصورة واستحالة النموذج الاغريقي، فقد آمن بما قدمه افلاطون من صورة للدولة التي تقوم على اساس التفاضل في مستويات الناس، فهناك الطبقة العاملة التي تدفعها القوة الشهوانية، والطبقة المحاربة والفضلاء الذين تدفعهم القوة الغضبية، وطبقة تتكون من الحكماء يدفعهم العقل. ثم يقول: ان الرئيس أو الزعيم عليه أن يتصف بأوصاف ويحمل شروطاً عدّها في (12) شرطاً، كلها صفات اخلاقية ونفسية، لكنه يُقر أنه "لم يوجد انسان واحد اجتمعت فيه هذه الشرائط، ولكن وجد اثنان، أحدهما حكيم والثاني فيه الشرائط الباقي.."!

والملفت أننا خلال عقود طويلة من الزمن، وبينما تُدرس هذه النظرية الاغريقية في جامعاتنا، وعن طريقها يحصل طلبتنا على النجاح وحتى على درجات التفوق في شهادات التخرّج، نعيش ويلات نظرية أخرى مناقضة تماماً، حيث الانظمة الديكتاتورية والحكام المستبدين، وثم تهميش القيم والمبادئ، وقلب المعايير لخدمة مصالح خاصة، وليست عامة، فبات الحق في مكان، باطلاً.. والمظلوم ظالماً، والعكس يحصل ايضاً.

فهل هذا ما يمكن تسميته "حافة القيم والمبادئ"..؟!

هذا السؤال يثور وسط مستنقع من اليأس والاحباط من التغيير نحو الافضل، او حتى فقدان الأمل بوجود النموذج الأصح والأكمل لينقذ الناس مما هم فيه..

بكلمتين؛ يلخص سماحة المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي – دام ظله- نظرية الحكم القادرة على صياغة واقع سياسي واجتماعي يوفر للناس العيش الرغيد والآمن لحاضرهم ومستقبلهم.. "الأخلاق والحرية ".

وهذه ليست من المثاليات التي يخشى تكرارها البعض، إنما هي عبارة عن تجارب حيّة نابضة في التاريخ ومحفورة في وجدان الانسانية. حتى التقديم لها، يتصف بالعلمية والدقة، فالأخلاق لتأسيس منظومة ثقافية للفرد والمجتمع، والحرية لتأسيس علاقات رصينة وصادقة بين المجتمع والدولة، وقد تجسد هذا في عهد الرسول الأكرم، ومن بعده أمير المؤمنين، صلوات الله عليهما، فقد حكما بقعة واسعة من الارض، وأسسا نظاماً تكون العلاقة فيه تكاملية بين المجتمع والدولة، فالمجتمع الفاضل لن يهتدي الى سبيل النجاة، عندما تحرمه السلطات الحاكمة حريته الفردية والحرية العامة. وهذا ما نلاحظه في بعض البلاد الاسلامية، حيث الدعوة الى الاخلاق والالتزام ببعض الاحكام التي يطلق عليها بـ "الاسلامية" مثل الحجاب للمرأة، او البنوك والتعاملات التجارية وغيرها، بينما تخنق الحريات عند ابواب الحكم، بينما نلاحظ حالة معاكسة تماماً، حيث الحريات التي تمنحها السلطة تحت شعار "الديمقراطية"، دون الالتفات الى المنظومة الاخلاقية والثقافية التي يفترض انها تقرأ وتستفيد من هذه الحريات بما يحقق مطالبها وتطلعاتها.

دروس عملية في الاخلاق

إن الاخلاق والحرية، لن تتحقق في المجتمع والدولة بالتمني والنظريات والشعارات، إنما بالتضحية بالدرجة الاولى، ليس بالنفس دائماً، إنما بتجاوز المصالح الشخصية والفئوية وتفضيل المصلحة العامة. من هنا نجد أن سماحة المرجع الشيرازي يشير بقوة الى النموذج الراقي الآنف الذكر، بان "رسول الله، صلى الله عليه وآله، خاض عشرات الحروب المفروضة عليه، ولكنه خرج منها بأنظف ما يمكن ويتصوّر، وبأنظف مما يوجد في التاريخ. وكذلك أمير المؤمنين، صلوات الله عليه، فرضت عليه ثلاث حروب عظيمة، ولكنه صلوات الله عليه خرج منها بأنظف ما يمكن، وبأنظف مما يوجد في التاريخ كلّه..".

ان المواقف والاجراءات المتخذة في ذلك العهد، هي التي علّمت الناس والاجيال صياغة المنظومة الاخلاقية والثقافية، منها ما يشير اليه سماحته في احدى احاديثه الاخيرة، من تحمل الامام علي، عليه السلام، ديّة المقتولين في معاركه مع أعدائه، رغم أنه السبب في شن الحرب والفتنة وتهديد أمن المجتمع والدولة الاسلامية. وربما من أكثر الحوادث إثارة ومدعاة للتأمل، ما حصل مع إمرأة حامل صادفت فلول الاعداء في حرب الجمل، الذين كانوا في حالة فرار منكرة لا يلوون على شيء، فكانت المصادفة مثيرة للرعب بحيث أسقطت المرأة حملها، وما أن سمع الإمام بالخبر حتى أرسل اليها بديّة الجنين..!

ومن هذه الامثلة تمتلئ كتب التاريخ والسيرة النبوية الشريفة، حتى إن المؤرخين والباحثين الغربيين لم يسعهم إلا الانحناءة امام هذه القامات التي "ينحدر منها السيل ولا يرقى اليها الطير"، بل ذهب بعضهم الى جعل هذه السيرة نموذجاً وفناراً للباحثين عن الحق والحقيقية والنجاة في الحياة. واذا كان يسأل البعض عن سر بقاء التشيع والشيعة طيلة القرون الماضية رغم محاولات الإبادة الرهيبة، فاجابتهم تكمن في الالتزام بهذا النهج (الفنار) لذا لن نجد الضلال والتيه، نعم؛ تستمر التضحيات وإراقة الدماء، وهذا مرده الى طريقة التعامل مع الاحداث، فهي مسألة فنية وليست منهجية. وحتى فترة الاستعمار حيث تبلور النظرية السياسية الحديثة للتشيع عندما تصدّى علماء الدين والحوزة العلمية، لهذا التدخل الاجنبي السافر في شؤون الشعوب الاسلامية، تجلّى ايضاً هذا الالتزام والايمان الراسخ، فبالرغم من قسوة الاحتلال وجرائمه، إلا ان الفتوى التي صدرت لمواجهته في العراق – مثلاً- كانت تحمل عبارة "الدفاع" وليس الهجوم، وهذا ما يؤكده سماحة المرجع الشيرازي الذي عدّ هذه الالتفاتة الذكية من قائد ثورة العشرين الامام الراحل الشيخ محمد تقي الشيرازي – قدس سره- تمثل امتداداً لنهج رسول الله، صلى الله عليه وآله، حيث كانت حروبه وغزواته للدفاع عن الاسلام والمسلمين.

ولنا هنا وقفة تأمل مع التجارب المعاصرة، فالكيان الصهيوني الغاصب لأرض فلسطين، يطلق على جيشه وقواته العسكرية بـ "جيش الدفاع"، مع علم الجميع بالمنهج الذي يؤمن به وبالعقد الغائرة التي يحملها الجنود الاسرائيليون، وما يحلمون القيام به مع العرب والمسلمين. بينما نلاحظ البلد المجاور والمسلم الذي خاض حروباً عديدة مع هذا الكيان (مصر)، فانه كان يسمي وزارة الدفاع بـ "وزارة الحربية"، ولم يغير التسمية الى "الدفاع" الى بعد ان توقيعه "معاهدة السلام" مع هذا الكيان..!

من هنا نلاحظ ان التسامح والسلام والتعايش وكل المفردات القيمية، إنما تجسدت في ذلك العهد الذهبي، من اجل ان تتحول الى منهج عملي وليس فقط نظري في الأمة، واذا نجد ظهور التطرف في الفكر الديني والارهاب الطائفي، فمردّه الى الابتعاد عن ذلك النهج، وتبني منهجاً مغايراً لما جاء به الاسلام، بل وصياغة منهج جديد فرض نفسه على المنهج الأصيل. وهذا يفسر عدم وجود حيّز ولو بسيط للحديث عن الاخلاق والفضيلة والقيم الانسانية عندما تندلع الفتن السياسية والمعارك الطائفية، وتحل محلها الدسائس والمؤامرات والتحالفات المشبوهة، وكل ما يجري يتم في الدهاليز المظلمة بعيداً عن الحق والحقيقة.

الحرية .. ضمانة الحياة

الركيزة الثانية التي يشير اليها سماحة المرجع الشيرازي لإقامة نظام الحكم الناجح على طول الخط، هو "الحرية" المستقاة من المبدأ الانساني الذي أقره القرآن الكريم: {ليضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم}، فهي مهمة الانبياء والمرسلين في إعادة هذه الخصيصة الفطرية الى الانسان، بعد ان سلبها منه الحكام الطغاة عبر التاريخ. واذا نلاحظ اهتمام العهد النبوي والعلوي بهذه المهمة الرسالية وإعطائها الاولوية، لانها ترتبط وثيقاً بمسيرة حياة الانسان، فاذا توفرت لديه الحرية، كان عالماً وعارفاً ومتقدماً في الحياة. وفي خطوة متقدمة لهذا الحكم الناجح، أعطيت الحرية للمعارضين وحتى الأعداء، مثل الأمويين في عهد النبي الأكرم، مع علمه اليقيني بما يضمرونه من حقد دفين، وتآمر لا يُحد. كذلك فعل الامام علي، عليه السلام، في تعامله مع معارضيه، بل حتى كان يجري لهم الحقوق والعطايا أسوة بسائر المسلمين. والسبب في ذلك، هو ان تعمّ فائدة الحرية على المجتمع والأمة بشكل عام. هذه الحرية هي التي أعادت الكثير من الخوارج الى جادة الصواب قبل اندلاع معركة "النهروان"، بل هي التي تمثل احد عوامل جذب غير المسلمين الى الاسلام وتحديداً الى منهج اهل البيت ، عليهم السلام.

إن احترام حرية العقيدة والرأي والعمل والسفر وغيرها من انواع الحريات الفردية، وايضاً الحريات العامة من إقامة الاتحادات والتنظيمات وحتى التجمعات الاحتجاجية، ليست – كما يتصور البعض- من الحقوق السياسية التي يتم التفاوض عليها او تعطى بشكل تدريجي او ضمن صفقات او غير ذلك. إنما هي حق انساني، إنما يأتي دور الحكومة – أية حكومة- في إطار التنظيم والادارة لا غير. لنلاحظ طريقة تعامل الأئمة المعصومين، عليهم السلام، خارج نطاق الحكم، فهم يعتبرون بعض المسيئين لهم على انهم يمارسون حريتهم دون وعي ومعرفة، فكان الجواب هو التقويم وكشف الحقيقة، والنتيجة تكون ايجابية، بناءة.. حتى في أقسى الظروف التي ربما لاتتكرر لأحد، كما حصلت مع الإمام زين العابدين، عليه السلام، وهو مقيّد بالأصفاد من رقبته الى يديه ورجله، ومسيّر لمسافات بعيدة مع ثقل الحديد، يضاف اليه الضغط النفسي الكبير، ثم يواجهه شخص في الكوفة خلال مسيرة "السبي" ويبادره بالقول: "الحمد لله الذي فضحكم...."! ربما أي شخص آخر، ينكر هذا الكلام، ولو من باب مراعاة المشاعر الانسانية لإنسان أسير ومكروب، فهذا الكلام مدان ولابد من الردّ عليه بقوة. بينما الإمام، وهو في تلك الحالة يقنع الرجل بعدم صحة معلوماته من خلال القرآن الكريم.

من نفهم سبب التأثير الكبير لأهل البيت، عليهم السلام، على معارضيهم وحتى أعدائهم، فقد كانوا يستوعبون التهجم والاتهام، ثم يردون عليها ضمن أجواء يمكن وصفها بـ "الديمقراطية"، بينما نرى اليوم من الصعب، او المستحيل تكرار هكذا تجارب في الأمة، والسبب في عدم اقتران حرية الرأي والمعتقد بالاخلاق والمنظومة الثقافية، وهذا ما تسبب في ظهور "ثقافة الغاب" التي يشير اليها سماحة المرجع الشيرازي لدى السائرين على غير منهج اهل البيت، عليهم السلام، في إشارة منه الى ما يعانيه العراق من جرائم وارهاب الجماعات التكفيرية. الامر الذي يتطلب العمل وبأقصى سرعة ممكنة لإعادة صياغة النموذج الاصيل لحكومة الاخلاق والحرية التي تكون عصية ليس فقط على جماعات من اتباع الجاهلية الاولى واصحاب العقول المتحجرة، إنما حتى على القوى المتفكرة والمبدعة في التآمر على هذا البلد وإضعافه أكثر فأكثر.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 18/حزيران/2014 - 19/شعبان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م