الرأسمالية والحرية

حاتم حميد محسن

 

يرى ملتن فريدمن(1) ان الإعلان الشهير لجون كندي في خطابه كرئيس للولايات المتحدة الذي قال فيه – "لا تسأل عما يمكن ان يقدمه لك بلدك بل اسأل عما يمكن ان تقدمه انت"، لم يكن ملائما لدور الفرد في المجتمع الحر.

كتب فريدمن، ان الحكومة يجب ان لا تكون المساعد المالي للفرد، ولا يجب على الافراد اعتبار انفسهم خداما للحكومة. في الديمقراطية الحقيقية، توجد الدولة فقط لرغبة الناس، الحكومات هي وسائل نحو الغاية وليس اكثر من ذلك.

كتاب "الرأسمالية والحرية" هو تكرار لما قاله الاقتصادي الاسكتلندي آدم سمث منذ ما يقارب قرنين – بان الناس حين يُتركون لوسائلهم الخاصة ويتحررون من السيطرة المفرطة للحكومة، فهم سوف يتقدمون وسيخلقون جماعات متحضرة. ولكن في القرن العشرين، وبمواجهة مختلف التجارب الاشتراكية وتعاظم تدخل الدولة في العالم الغربي، اصبح تذكير فريدمن ملحّاً. هو عرض ارتباطا واضحا بين الحرية الاقتصادية والحرية السياسية، واوضح ان الاسواق الحرة لم تكن ترفا وانما هي اساس الحرية السياسية والفردية.

كيف يمكن للاسواق الحرة حماية الناس

تاريخيا، جاءت الحرية السياسية بعد ظهور الاسواق الحرة والمؤسسات الرأسمالية. هذا – طبقاً لفريدمن حصل لأن الاقتصاد الخاص السليم يوفر بطبيعته قيوداً على سلطة الدولة.

فمثلا، في القرون الوسطى، لاحظنا اليهود حتى وان تعرضوا رسميا للاضطهاد لكنهم تقدموا لأنهم تمكنوا من العمل كتجار. جماعتا بورتان وكوكر البروتستانتيتان كانتا تستطيعان العمل بسهولة في امريكا لأنهما بنتا رأسمالا في الاسواق البريطانية الحرة نسبيا، رغم انهما واجهتا اعباءاً وقيوداً اخرى.

حينما تسود الاحتكارات والقيود التجارية، سيسود ايضا التعامل الخاص لجماعة دينية او عرقية او اجتماعية نحو الجماعات الاخرى، وستستمر المقدرة على "ابقاء الناس في مكانهم". في السوق الحرة الحقيقية، تنفصل الفاعلية الاقتصادية عن الخصائص غير الملائمة مثل لون الجلد او العقيدة. يقول فريدمن ان "مشتري الخبز"، لا يعرف ما اذا كان الخبز صُنع من قمح منتج بواسطة رجل ابيض او اسود او مسيحي او يهودي. كذلك، بالنسبة لرجل الاعمال الذي يفضل جماعة على اخرى سيشكل عقبة سوقية لرجل الاعمال الذي لا يفضل ذلك، وان الشخص الذي لا ينظر للفروقات بين مجهزيه ستكون امامه الكثير من الخيارات في الشراء وبالتالي القليل من التكاليف.

في اثناء فترة "اللائحة السوداء" لممثلي هوليود وكتّاب الافلام كنتيجة لحملة السانتور مكارثي ضد الشيوعية، العديد من الكتاب استمروا بالعمل، وعادة تحت اسماء مستعارة. فلو لم يكن هناك سوق غير شخصي يجدون فيه طلبا لخدماتهم، لكانوا فقدوا اسباب رزقهم. في المجتمع الشيوعي، يلاحظ فريدمن، يستحيل وجود مثل هذا الشيء طالما جميع الوظائف تُوجّه من قبل الدولة. ونستن تشرشل مُنع من التحدث علناً ضد هتلر في راديو البي بي سي في السنوات التي حكم فيها هتلر، لأن المسألة اعتُبرت مثيرة للإشكال. من غير المحتمل ان يحدث هذا لو لم تكن البي بي سي احتكاراً حكومياً. رسالة فريدمن هي ان : الحكومة التي تسعى لحماية مواطنيها من كل الاشياء، عادة تفشل في ادراك ان "اليد اللامنظورة" التي تعمل في الاسواق الحرة (للسلع والعمل والمعلومات) هي التي تضمن الحماية الاكبر للحرية الفردية.

فكرة ان الاسواق الحرة تقوم بهذا هي بالضبط عكس ما كان يقوله المفكرون خلال الشطر الاكبر من القرن العشرين. الفرد كان يُنظر اليه ككائن هش وضعيف تجاه قوة الشركات، وهو بحاجة لحماية حكومية. هذه الرؤية انبثقت من رعب الكساد الكبير الذي اعتُبر فشلا ذريعا للاسواق. في الحقيقة، كما يجادل فريدمن في الكتاب، الكساد كان في الاساس فشلا حكوميا.

التدخل في السوق

"النمو الاقتصادي" و"الاستخدام الكامل" كلاهما اعتُبرا سببين لتدخل الحكومة في الاقتصاد. الكساد الكبير، حسبما يقول الناس، هو دليل واضح على عدم الاستقرار المتأصل في الاسواق.

في الحقيقة، يقول فريدمن، ان الكساد نتج عن سوء ادارة الحكومة. نظام الاحتياط الفيدرالي لحكومة الولايات المتحدة، ومن خلال الاستخدام غير الفعال لأدوات النظام النقدي – خاصة، عدم زيادة عرض النقود في أعقاب انهيار البنوك – حوّل ما كان تقليصاً نقديا لمدة سنة او سنتين الى كارثة. اخطاء مجموعة قليلة من الرجال سببت مأساة للملايين من الناس والتي كان بلإمكان تجنبها لو ان الاسواق تُركت تماما لحالها. مع ذلك هو يقبل بان دور الحكومة هو خلق نظام نقدي مستقر، وان مسؤولية الحكومة هذه خطيرة وكبيرة ويجب ان تُقيّد بشدة.

في الفصل الذي يتحدث فيه عن السياسة المالية، يلاحظ فريدمن ان إنفاق الحكومة الكنزية لتحفيز الاسواق الراكدة والجامدة كان ببساطة "ميثولوجيا اقتصادية"لم تثبت صحتها بالدراسات التجريبية. مقابل إنفاق كل مائة دولار كان هناك تأثير بقيمة مائة دولار، لكن المحصلة الحقيقية كانت النمو في الانفاق الحكومي، ومع ان هذا الإنفاق تم بنوايا صادقة لكنه في معظمه جرى تخصيصة بعدم فاعلية.

التقدم يتم بواسطة الناس لا من خلال الحكومات

هناك اسباب كثيرة وجيدة طُرحت لتدخّل الحكومة في معالجة السوق او الامراض الاجتماعية. احيانا، النوايا الجيدة اقترنت بإنجازات هامة. فريدمن يمتدح على سبيل المثال، قيام الولايات المتحدة بإنشاء شبكة الطرق الوطنية، وبناء السدود الكبيرة ونظام المدارس العامة ووسائل الخدمات الصحية.

غير ان، معظم التقدم في مستوى معيشة الامريكيين برز بسبب براعتهم ولم تكن له علاقة بالحكومة. الازدهار الاقتصادي تحقق بصرف النظر عن تلك القوانين والمشاريع، ولم يأت بسببها. عموما، القوانين المفرطة، تجبر الناس للعمل ضد مصالحهم الفورية والمباشرة لكي يعززوا المصلحة العامة المفترضة. اشتهر فريدمن بتضمين قائمة بمجالات التدخل الحكومي التي اعتبرها غير مبررة. هذه تشمل الرسوم وحصص الاستيراد، اعانات المزارعين، السيطرة على الايجارات، الحد الادنى للاجور، القواعد القانونية للصناعات بما فيها المصارف والنقل والراديو والتلفزيون وبرامج الأمن الاجتماعي التي تجعل الناس يحتفظون بمقدار معين من النقود لأغراض التقاعد، السكن الاجتماعي، اجازات المهن، والخدمة العسكرية الالزامية وقت السلم.

ومع ان جميع هذه السياسات تبدو جيدة نظريا، لكنها في الحقيقة لها تأثيرات عكسية غير مقصودة. فمثلا، الحد الادنى للاجور الذي كان يُقصد به جزئيا تخفيف الفقر عن الامريكيين-الافريقيين، ادى في الواقع الى زيادة نسبة البطالة بين المراهقين السود. الإسكان الاجتماعي الذي صُمم للحد من الفقر، ادى الى زيادته. سياسات الدعم الاجتماعي التي قُصد بها اصلا توفير الأمان لغير القادرين على العمل نجدها بدلا من ذلك خلقت اناس معتمدين كان بالامكان ان يساهموا في الاقتصاد. استنتاج فريدمن: "النوايا الجيدة لمنْ قاموا بتركيز السلطة لم تجعل هذه المركزية بلا ضرر".

هناك في الحقيقة فقط طريقتان يستطيع بها المجتمع تنظيم الفعالية الاقتصادية وهما:

1- من خلال المركزية والاكراه

2- من خلال تسهيل عمل السوق في تجارة السلع والخدمات.

في البلد الحر، النقاش الحر والتعاون الطوعي يعنيان وسائل نحو انجاز اي شيء. هذه ربما تكون طريقة بطيئة لتحقيق الغايات، لكنها مؤكدة واقل خطورة. ان ما هو جميل في الاسواق هو الطريقة التي تسمح بها بالاتفاق التام دون ان تكون هناك مطابقة، توجيهات الاسواق قائمة لكنها لم تُخلق لفعل أي شيء.

يقبل فريدمن بانه بعد الحرب العالمية الثانية كان على الولايات المتحدة ان تقوم بتركيز وتوسيع انفاقها العسكري لكي تتمكن من هزيمة الاتحاد السوفيتي، لكن التعامل مع هذا الخطر خلق بابا خلفيا لزيادة كبيرة في حصة الحكومة من الانفاق القومي. التهديد الذي حصل كان اخطر من تهديد روسيا تمثّل بتآكل الحريات والمؤسسات الحرة على حساب القوة المتعاظمة "للامة".

الحرية اولا، المساواة ثانيا

يرى فريدمن ان اللامساواة هي قليلة في الدول الرأسمالية. العديد من الناس لا يتفقون معه، مشيرين الى الفجوة الكبيرة بين راتب المدير التنفيذي لشركة مساهمة البالغ عشرة آلاف دولار في اليوم، وبين منْ يعمل في حانوت ليحصل على عشرين الف دولار في السنة. لكنه يشير الى انه حتى الشخص القليل الدخل في اقتصاد رأسمالي هو افضل من الطبقات المترفة قبل قرن من الزمن: حاليا لا يحتاج العامل لممارسة اعمال شاقة، الرعاية الصحية تحسنت بشكل كبير، الناس يحصلون في الاقل على التعليم الاساسي، يعيشون في نظام تدفئة وصرف صحي حديث، لديهم سيارات، تلفزيونات، راديوات، تلفونات وترفيه، كل هذه المكاسب كانت الطبقة الغنية والملكية تحلم بها في ذلك الوقت. حتى لو ان الفرد لا يبدو سعيداً مع الرأسمالية، فهو لازال ينتفع منها بعدة طرق. بالمقابل، في ظل الانظمة الاجتماعية الطبقية والاشتراكية، "الاشياء السارة" تذهب فقط لمن هم في القمة.

يكتب فريدمن، ان جوهر الفلسفة الليبرالية، هي ان يمتلك الناس حقوقا متساوية ومساواة في الفرص. انها لا تعني وجوب المساواة في الثروة. اذا كان جميع الناس يزدادون ثراءاً في النظام الرأسمالي، فهذه نتيجة اضافية جانبية للحرية، لكنها ليست الهدف. الغرض من نظام رأسمالي حر هو حرية الفرد. ما يقوم به الافراد في تلك الحرية هو شأنهم الخاص.

كلمة اخيرة

في مقدمة الكتاب لعام 1982 لاحظ فريدمن انه، على الرغم من ان هناك علامات للتغيير، فان امريكا والدول الغربية الاخرى لاتزال امامها طريق طويل تسلكه لتقليل ثقل الحكومات. رولاند ريغن و مارغريت تاتشر كانا من بين معجبيه وسعيا لجعل الحكومات مصغرة، لكن لا احد في الواقع نجح في تقليل مستوى الانفاق الحكومي. اليوم، حماية المزارعين لاتزال عالية، حرية التجارة لاتزال هدفا بدلا من ان تكون واقعا، وفي معظم الدول بقي انفاق الحكومة كحصة من الناتج المحلي الاجمالي كما هو او اكبر حجما. يبدو ان الحكومات لاتزال تعتقد انها تعرف ما هو الافضل لشعوبها رغم الادلة اللامتناهية على نقيض ذلك .

وصفت الايكونومست فريدمن باعتباره "أعظم اقتصادي مؤثر في النصف الثاني للقرن العشرين ... وربما طوال القرن". تأثيره لم يقتصر فقط على ما قاله، وانما في قدرته على القول لغير الاقتصاديين. قبل نشر "الرأسمالية والحرية" لم يكن فريدمن معروفا كثيرا خارج العالم الاكاديمي، لكن الكتاب (الذي بيع منه اكثر من نصف مليون نسخة) رفع شهرته عالياً كما فعلت اعمدته الـثلاثمائة التي كتبها في مجلة نيوزويك ومقابلاته التلفزيونية الشهيرة بعنوان "Free To Choose".

عندما مات فريدمن عام 2006 أشادت به كبرى وسائل الاعلام التي كانت تجاهلته حين نشر كتابه الرأسمالية والحرية. مع ذلك قادت افكاره حول سلطة الفرد وحرية الاسواق لمنحه صبغة الايديولوجي اليميني الذي لا يدرك الحقيقة. في الواقع، ان فكرة الحكومة الاشتراكية/القوية هي التي تأكدت طوباويتها.

كتاب الرأسمالية والحرية ربما يغيّر عقائد الناس حول الاخلاقية الاقتصادية. قد يفترض المرء ان الحكومة التي تتدخل لمساعدة الناس هي الحكومة الرائدة اخلاقيا، لكن الحرية بيّنت لنا كيف ان الانظمة السياسية والاقتصادية تضمن احترام الفرد بطرق شتى وغير متخيلة.

الدول التي سارت على خطى آدم سمث وفريدمن يجب نظريا ان تكون رائدة في الاستهلاكية السخيفة. ولكن وكما يشير فريدمن، ان الناس يرغبون بالتحرر ليس فقط ليكونوا اغنياء وانما ليعيشوا طبقا للقيم الكامنة في اعماقهم. الرخاء لا يعني صنع النقود، وانما هو حرية العيش بالطريقة التي تريدها انت.

..........................................

الهوامش

(1) ملتن فريدمن هو اقتصادي امريكي واحصائي وكاتب، درّس في جامعة شيكاغو لأكثر من ثلاثة عقود. ولد فريدمن في 31 تموز عام 1912 في مدينة بروكلين في نيويورك وتوفي في 16 تشرين الثاني عام 2006 في سانفرانسيسكو. كان في الاصل احد المهاجرين اليهود من اوكرانيا. ربح جائزة نوبل في الاقتصاد عام 1976 وصدرت له العديد من الكتب من بينها:

التاريخ النقدي للولايات المتحدة، صدر عام 1963.

مقالات في الاقتصاد الوضعي، عام 1953.

برنامج للاستقرار النقدي، 1959.

حرية الاختيار، 1980.

التقليص الكبير Great contraction (1929-1933)، 1965.

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 17/حزيران/2014 - 18/شعبان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م