بدأ الحمدانيون الموصليون الشيعة تأسيس دولتهم إنطلاقا من الموصل
وتلعفر وسهل نينوى، وزحفوا لتحرير الشام من الوجود الأموي التاريخي،
وثبتوا دعائم دولتهم الشيعية في شمال العراق والشام، واتخذوا من حلب
السورية عاصمة لدولتهم؛ التي مثلت إحدى أول الدول الشيعية الإثني عشرية
في التاريخ. ورغم اتباعها النظام السلطاني في الحكم الوراثي؛ إلّا أنها
ظلت أكثر الدول عدلاً وتطوراً على كل المستويات. وكان أبرز قادتها هو
الأمير سيف الدولة الحمداني (كان الرئيس السوري الراحل حافظ الأسد يحب
أن يشبهوه بسيف الدولة وينهر الشعراء الذين يشبههوه بصلاح الدين
الأيوبي). وكان سيف الدولة هو الدرع الذي حمى فلسطين وسوريا والعراق من
الغزوات الصليبية الأوربية؛ وليس صلاح الدين الأيوبي الذي يقول التاريخ
الأموي زيفاً إنه حارب الصليبيين؛ بل أن الذي حاربهم ودحرهم في عشرات
الغزوات هو القائد الشيعي المقاوم سيف الدولة الحمداني. ولعل كثيراً من
قصائد أبي الطيب المتنبي والشاعر الفارس أبي فراس الحمداني تؤرخ لهذه
الإنتصارات والتضحيات. وكان وزراؤهم من قبيلة بني زهرة الشيعية؛ التي
لاتزال تقيم كثير من عشائرها في القرى والضواحي المحيطة بحلب. وقد أعاد
بني زهرة اليوم ملاحم أجدادهم بتصديهم للغزو الاموي الجديد بقيادة داعش
والنصرة والجيش الحر؛ والذي يعمل على تدمير سوريا؛ بصفتها حلقة أساسية
في محور المقاومة.
جاء الزحف الأموي الذي يقوده صلاح الدين الأيوبي قادماً من شمال
أفريقيا ومصر؛ بعد أن قتل مئات الآلاف من شيعتها وأسقط دولها؛ وأبرزها
الدولة الفاطمية. ورغم مقاومة الحمدانيين وبني زهرة وشيعة الشام وشمال
العراق؛ الّا أن جيش الأيوبي؛ تمكن بفضل الحواضن المنتشرة في الشام من
إسقاط الدولة الحمدانية. وكانت واحدة من مجازر صلاح الدين الأيوبي
التاريخية هو قتله أكثر من(70) شيعي في حلب وماجاورها خلال أيام فقط.
وهكذا شكًلت الدولة الحمدانية آخر وجود شيعي في دولة الموصل ـ حلب.
فتوالت الحكومات على الموصل؛ حتى إحتلها الأتراك العثمانيين؛ فظلت
بالنسبة اليهم الريشة الذهبية التي تعتلي عمائم سلاطين العثمانيين.
وعلى أيديهم تلاشى السكان الشيعة في الموصل؛ عدا عن مجاميع تنتشر في
بعض قراها وضواحيها والحواضر القريبة منها؛ ولاسيما في منطقة تلعفر
وماجاورها.
وبقيت الدولة العثمانية الطائفية والدول التي أعقبتها؛ وحتى دولة
صدام حسين (آخر حاكم أموي في العراق)؛ تراهن على الموصل وساستها
وضباطها في تثبيت دعائم الدولة العراقية الطائفية الشوفينية. وكان حكم
عبد السلام عارف هو الفترة الذهبية للموصل.
بعد سقوط دولة صدام الأموية عام 2003؛ عادت أحلام العثمانيين الجدد
بقيادة الزعيم التركي العثماني أردوغان في السيطرة على الموصل؛ أو
بالأحرى إعادتها الى حضن تركيا العثمانية الجديدة؛ على إعتبار أن
الأتراك لم يعترفوا بضم ولاية الموصل الى العراق بعد إتفاقية سايكس
بيكو عام 1916؛ ولايزالون يعدّونها محافظة تركية. ولهذا ظهرت بعد عام
2003 الولاءات لتركيا وحكومة أردوغان داخل الموصل لدى بعض المشايخ
ورجال الدين والأسر ذات الأصول التركية والشركسية والألبانية
والقوقازية والجماعات الإسلامية ذات الجذور الإخوانية (جماعة الاخوان
المسلمين) والنورية (نسبة الى جماعة النور) والوهابية والصوفية؛
كالنقشبندية. ورغم التباين الفكري لهذه الشخصيات والأسر والجماعات؛
الّا أنها ظلت ترى الخيار التركي العثماني هو خيارها الوحيد، وعودة
واقعية الى الجذور. بل أن كثيراً من القوميين والبعثيين أصبحوا يرون في
الخيار التركي هو حلهم المؤقت في مواجهة العراق التعددي، ولاسيما
مايسمونه بالحكومة الشيعية في بغداد.
وكانت إجتماعات الجماعات والشخصيات الطائفية الموصلية ولاتزال تعقد
- غالباً - في تركيا؛ ولاسيما في إنطاكيا وإنقره واسطنبول. ولايمكن في
هذا المجال إغفال الصراع التركي – السعودي في الموصل؛ بهدف الحصول على
أكبر مساحة من النفوذ؛ فكان الرهان السعودي على الشخصيات والجماعات ذات
الميول السلفية؛ إذ عملت على دعمها بكل أشكال الدعم المالي والتسليحي،
وسيطروا على كثير من مساجد الموصل وجمعياتها ومؤسساتها الدينية. وحين
دخل المال القطري على خط الصراع على النفوذ في الموصل؛ فإنه عزز النفوذ
التركي الذي لايزال هو الأقوى؛ ولاسيما إن الجماعات الإخوانية في
الموصل توالي أردوغان غالباً؛ دون إغفال قوة الحركة الوهابية المدعومة
سعودياً؛ سواء من الحكومة أو مشايخ الوهابيين أو تنظيم القاعدة.
أما البعثيون في الموصل؛ فهم الأكثر حنكة وتجربة وتنظيماً؛ فقد
ظلوا بعد عام 2003 لايعلنون عن وجودهم وحجمهم؛ بل يتسترون بعباءة
الجماعات والتيارات السياسية العلمانية والإسلامية التي دخلت العملية
السياسية، أو قوات الجيش والشرطة والأجهزة الأمنية والمخابراتية، أو
الطرق الصوفية؛ ولاسيما النقشبندية. ومعظمهم من جناح عزت الدوري.
هذا الواقع الذي تتجاذبه الولاءات التركية والسعودية والقطرية
والبعثية؛ ويعبر عنه مسؤولون وساسة ومشايخ طائفيين؛ كان مهيئاً نفسياً
وميدانيا لإستقبال أي صلاح الدين أيوبي جديد؛ سواء كان يعتمر العمامة
العثمانية أو اليشماغ الوهابي أو الزيتوني البعثي أو الهندام الأفغاني
لتنظيم القاعدة. ولكن الذي كان أقرب الى الواقع هو عدم إمكانية اي تيار
محلي في السيطرة على الموصل؛ سواء عبر العمل المسلح أو الحراك
الإنقلابي المحلي أو العمل السياسي الرسمي. فكان الخيار؛ هجوماً مسلحاً
من الخارج، وتحديداً من صحراء الأنبار؛ قوامه الأساس تنظيم داعش
الوهابي التكفيري.
ويمكن توزيع القوى المعادية علناً لعراق ما بعد 2003 والممتدة
إجتماعيا في الموصل وتحمل السلاح ضد الدولة؛ الى مايلي:
1- الجماعات الوهابية؛ ولاسيما تنظيم داعش (الدولة الإسلامية في
العراق والشام) الذي يقوده أبو بكر البغدادي، و بقايا تنظيم القاعدة في
بلاد الرافدين.
2- الجماعات البعثية؛ وتحديداً جناحي عزت الدوري (الأكثرية) ويونس
الأحمد (الأقلية) وبعض المجموعات البعثية المستقلة.
3- الجماعات الدينية الموالية للنظام السابق؛ ولاسيما كتائب ثورة
العشرين التي يقودها حارث الضاري، وهي الجناح العسكري لهيئة علماء
المسلمين السنة. وكذلك الجيش الإسلامي، وجيش الطريقة النقشبندية
الموالية لعزت الدوري، وجماعات ذات جذور إخوانية.
4- جماعات عشائرية ومؤسسات محلية.
وتنقل مصادر إقليمية مطلعة إن إجتماعات مخابراتية وسياسية سرية
مكثفة وعاجلة عقدت خلال الشهرين الماضيين في تركيا والسعودية وقطر؛
ناقشت أربعة أهداف متداخلة لصيقة بالوضع السوري - اللبناني – العراقي؛
وتنتهي الى ضرب محور الممانعة ضربة موجعة:
1- زعزعة الوضع في العراق بشكل جدي؛ لضرب العملية السياسية، وإثارة
حرب أهلية طائفية سنية ـ شيعية، وتفكيك التحالف الوطني الشيعي،
والحيلولة دون إعادة إنتخاب نوري المالكي لرئاسة الوزراء، وصرف أنظار
شيعة العراق عن الوضع السوري، وإجبار المقاتلين المتطوعين العراقيين
التابعين لبعض الجماعات الشيعية العراقية؛ للعودة الى العراق؛ بعد أن
أصبح وجودهم مؤثراً في تكبيد داعش والنصرة والجيش الحر خسائر موجعة.
2- كبح جماح قوات النظام السوري؛ التي حققت خلال الأشهر الستة
إنتصارات ميدانية كبيرة، وأنهت أي إحتمال لسقوط نظام بشار الاسد،
ومحاولة إحداث تهدئة تكتيكية في الحرب الدائرة؛ وصولا الى إيقاف إطلاق
النار؛ لإعادة تنظيم صفوف الجماعات المسلحة.
3- عزل حزب الله اللبناني عن الوضع السوري، وعن تشكيلة الحكومة
اللبنانية الجديدة برئاسة تمام سلام، وتفرد جماعات 14 آذار بمقدرات
الدولة اللبنانية، والمجيء برئيس جمهورية معادي للمقاومة (سمير جعجع
مثالاً)؛ بهدف نزع سلاح حزب الله؛ عبر كماشة فكها الأول: ضغوطات سعودية
إسرائيلية أمريكية فرنسية، وفكها الثاني: ضغوطات الدولة اللبنانية
الجديدة وجماعات 14 آذار المؤلفة لها.
4- محاولة كسب ود إيران عبر الزيارات والزيارات المتبادلة و
الإغراءات ورسائل التطمين الإقليمية والعالمية؛ لإقناعها بتخفيف دعمها
للحكومة العراقية وعدم إعادة إنتخاب نوري المالكي لرئاسة وزراء العراق،
وإعادة النظر في موقفها من الوضع في لبنان وتخفيف غلواء حزب الله
والسماح بتشكيل الحكومة اللبنانية وانتخاب رئيس جديد من جماعات 14
آذار، والمساعدة في إيقاف اطلاق النار في سوريا وإبقاء الوضع على ماهو
عليه؛ لمنع قوات النظام السوري من الإستمرار في تقدمها السريع. وتمثلت
هذه المحاولات في دعوة وزير خارجية السعودية نظيره الإيراني لزيارة
السعودية والتفاوض على قضايا سوريا ولبنان والعراق، والقبول بدور ايران
فيها، وتقوية العلاقات السياسية والاقتصادية مع البلدان الخليجية، ودعم
إيران دوليا في إمتلاكها لبرنامج نووي سلمي، إضافة الى زيارة أمير
الكويت الى طهران، ودعوة الرئيس حسن روحاني الى تركيا، والمفاوضات
الثنائية الإيرانية الامريكية في جنيف.
وعلى الرغم من إختلافهم على الملف المصري وملف جماعة الإخوان
المسلمين؛ الّا أن إجتماعات الأتراك والسعوديين والقطريين المعنيين
بالملفات العراقية والسورية واللبنانية؛ أفضت الى عدة نتائج؛ كان
أبرزها دفع تنظيم داعش للتحرك بقوة في المحافظات الغربية، وبذل كل
الجهود للسيطرة على الموصل؛ تسبقها وتتزامن معها عمليات تكتيكية لدخول
سامراء وبعقوبة وتكريت وبيجي وجولاء؛ لدفع الحكومة العراقية لسحب
إحتياطييها العسكري وقواتها من بغداد نحو المنطقة الغربية والموصل؛
ليكون تلويح داعش بضرب بغداد ودخولها واقعياً، و كذلك التهديد بتدمير
مراقد الأئمة في سامراء والكاظمية وكربلاء والنجف. ولكن يبقى إن الموصل
هي الهدف الإستراتيجي؛ للإبقاء عليها خارج سيطرة الحكومة المركزية،
وتحولها الى خاصرة ضعيفة؛ تنطلق منها حرب الإستنزاف ضد الدولة وضد
الشيعة؛ وصولاً الى تأسيس الدولة السنية في محافظات نينوى والأنبار
وصلاح الدين وأجزاء من محافظات كركوك وديالى وبغداد (مناطق العرب
السنة).
وهكذا تم استنفار الحواضن المسلحة داخل الموصل خلال الاسبوعين
المنصرمين، والإتفاق بشكل مباشر وغير مباشر مع بعض المسؤولين والقيادات
المحلية في الموصل على العملية، وإشاعة قرب الخلاص من (حكم الشيعة) بين
الأهالي.
وتقول المصادر المطلعة إن الجهد الإستخباراتي في عملية إقتحام
الموصل كان تركياً من الخارج وبعثياً من داخل الموصل. أما الدعم المالي
فهو قطري، والدعم اللوجستي والبشري فهو سعودي. بينما حصل تنظيم داعش
على فتاوى من مشايخ الوهابيين في السعودية بوجوب مايسمى بـ ((تحرير
أراضي المسلمين في بغداد ونينوى والانبار وديالى وصلاح الدين من سيطرة
الروافض الكفرة)).
وبالتالي؛ اكتملت خيوط المؤامرة في الموصل؛ على النحو التالي:
1- إقتحام الموصل من خارجها؛ من حوالي (4000) مقاتل من تنظيم داعش،
و(2000) مقاتل من الجيش الإسلامي وكتائب ثورة العشرين وجيش النقشبندية
وبعض المجموعات العشائرية؛ مسلحين بكل أنواع الاسلحة الخفيفة والمتوسطة
والثقيلة والآليات.
2- إنضمام مايقرب من (10,000) مسلح مدني وعسكري من داخل الموصل؛ من
عناصر النظام السابق (مخابرات وأمن وحرس جمهوري وفدائيي صدام وحزبيين)
ومن عناصر الجماعات والمؤسسات الإسلامية وعناصر عشائرية محلية.
3- تواطؤ رسمي من داخل الموصل من قبل قياديين ومسؤولين محليين
مدنيين وعسكريين؛ بينهم ضباط كبار في الجيش والشرطة والمخابرات؛ مهّدوا
عبر المعلومات والإشاعات والأوامر لدخول المقاتلين الى المدينة. ويمثل
هذا التواطؤ الرسمي ـ بحسب القانون الجنائي العراقي ـ خيانة عظمى
للوطن؛ فضلاً عن كونه إنقلاباً ميدانياً على الحكومة المركزية والعملية
السياسية؛ على إعتبار أن معظم المتواطئين ينتمون الى تيارات سياسية لها
حضورها في البرلمان والحكومة المركزية؛ ولاسيما كتلة ((متحدون)).
4- تحضير آلاف الأهالي المنتشرين في أحياء الموصل؛ لإستقبال مقاتلي
داعش والترحيب بهم. وهم يمثلون حواضن إجتماعية محلية؛ مثّلت الدعم
المعنوي واللوجستي الأهم للمؤامرة.
وهكذا دخل المسلحون الوهابيون الى الموصل بكل سهولة ودون مقاومة،
وسيطروا خلال يوم وليلة على مركز المدينة ومعظم ضواحيها وعلى المؤسسات
الحكومية؛ ولاسيما مبنى المحافظة ومجلس المحافظة والبنوك وقيادات
الشرطة والجيش ووسائل الإعلام.
أما شرطة الموصل وعناصر الجيش والمخابرات المحلية؛ فقد سلّم معظمهم
سلاحه وارتدوا ملابس مدنية؛ بل أن بعضهم التحق بمسلحي داعش والبعث
وغيرهم من المسلحين الإسلاميين والعشائريين. وانتشرت خلال ساعات صور
حارث الضاري وعزت الدوري في مركز المدينة وأحيائها. بل إرتدى مئات
البعثيين زي عناصر النظام السابق الزيتوني، والتحقوا بشكل منظم بمهمات
مدنية أو عسكرية؛ في إطار قيادة مشتركة؛ تتألف بمعظمها من تنظيم داعش،
إضافة الى التنظيمات المسلحة الاسلامية الاخرى وتنظيم حزب البعث وبعض
رجال الدين والشخصيات العشائرية المحلية والمسؤولين الحاليين الذين
إلتحقوا بالمؤامرة.
أما التركيبة القومية والمذهبية لقوات الجيش المرابطة في نينوى،
والتي تضم فرقتين عسكريتين؛ فتتألف من ضباط سنة وشيعة وأكراد. أما
الجنود والمراتب؛ فهم على النحو التالي: 50% سنة و30% شيعة و 20%
أكراد. وقد هرب عناصر فرقة الموصل التي يقودها ضابط كردي؛ فيما لاتزال
فرقة تلعفر صامدة؛ إذ أن قائدها ومعظم عناصرها من الشيعة. أما القادة
العسكريين الشيعة في عمليات نينوى؛ فقد إنسحبوا الى جنوب الموصل،
ولايزال بعضهم يقود العمليات داخل مقر العمليات. اما الضباط السنة من
غير أهل الموصل فقد إنسحب معظمهم الى كردستان العراق.
كما إن محافظ الموصل أثيل النجيفي شقيق رئيس مجلس النواب العراقي
(السابق) أسامة النجيفي؛ وبعد أن أدى دوراً مشبوهاً في الموصل ساهم في
التمهيد لدخول المسلحين؛ فإنه وبعض المسؤولين المحليين الموصليين؛ هرب
باتجاه أربيل قبل سيطرة المسلحين على الموصل، ولم يطلق رصاصة واحدة
دفاعاً عن أسرته وبيته ومنصبه حداً ادنى، وليس عن مدينته وأرضه وشعبه،
وعن أعراض الموصليين وشرف الموصليات الذي ينتهكه داعش وحلفاؤه. وبات
أثيل ينتظر نتائج معارك الجيش العراقي الهادفة الى تحرير الموصل؛ ليعلن
عن موقفه النهائي؛ أما بالبقاء في كردستان ثم الرحيل الى الأردن، أو
العودة الى الموصل بعد أن يحررها أبناء الوسط والجنوب؛ ويعيدوه الى
كرسي المحافظة ويسلموه مفاتيح الموصل على طبق من ذهب. ولو فعلت الحكومة
المركزية ذلك بعد تحريرها الموصل؛ وأعادت النجيفي والمسؤولين المحليين
الى السلطة؛ فإنها سترتكب خطأً تاريخياً فادحاً. والحل الأمثل الذي
سيرضي الجميع هو تعيين حاكم عسكري على الموصل لمدة غير معلومة.
إن ماحصل في الموصل وبعض المناطق السنية في غرب العراق؛ نتج عنه
مايلي:
1- إعلان المرجعية الدينية النجفية العليا عن موقفها من الأحداث
والخطر المحدق بالبلاد؛ ولاسيما فتوى الإمام السيستاني بالجهاد
الكفائي؛ وهي قضية مهمة جداً؛ تعيد الى الأذهان فتاوى الجهاد التي
أصدرتها المرجعية خلال المئة سنة الماضية. وتقدم المرجعية العليا صفوف
الأمة عبر فتوى الجهاد؛ يدلّ دائماً على نوعية الخطر الذي يواجه الدين
والمذهب والشعب والوطن والدولة؛ إذ أن إعلان الجهاد لايتم الّا في
الحالات المصيرية الحرجة جداً. وقد أدى ذلك الى إعلان الفرقاء
السياسيين الشيعة؛ ولاسيما الإسلاميين؛ وأيضا الحكومة؛ عن مواقف الطاعة
والتبيعة للمرجعية العليا المتمثلة بالإمام السيستاني. وسيؤدي هذا الى
إلتزام الفرقاء مرة أخرى بأي توجيه يصدر عن سماحته.
2- فشل المساعي التركية السعودية الخليجية للتودد الى إيران،
ومحاولة تعديل مواقفها تجاه الحكومة العراقية والعملية السياسية؛ بل
أدت تهديدات داعش والبعث وغيرهما الى إثارة حساسية الإيرانيين بشدة؛
ولاسيما قائد الجمهورية السيد علي الخامنئي والمرجعيات الدينية في قم
ورئيس الجمهورية وقائد قوات القدس؛ مما دفع الإيرانيين الى الدخول
ميدانياً وبقوة على خط الدفاع عن المذهب والشيعة والمراقد المقدسة في
العراق؛ لأن الإيرانيين يعتبرون هذه المواقع خطوط حمراء كبرى، وإن
الدفاع عنها هو واجب ديني مذهبي وليس موقفاً سياسياً، وإن التقاعس عن
ضرب التهديدات التي تواجه المذهب والمراقد هو حرام شرعاً؛ أينما كانت
مواقع التهديدات جغرافياً. بل لاتستطيع الدولة والحكومة الإيرانية
التفرد بهذا القرار؛ بل أنها منصاعة لتوجيهات وفتاوى المرجعيات
الدينية؛ التي لاتعنيها الجغرافيا والقومية ولا المصالح السياسية.
3- التلاحم المجتمعي الشيعي؛ بعد الإحساس الشديد المشترك بالخطر؛
ولاسيما مايتعلق بتهديد المناطق الشيعية، ومحاولة تفجير المراقد، وذبح
علماء الدين والمواطنين، والتركيز الإنفعالي على مصطلحات الرافضة
والصفويين والفرس والمجوس والكفار. وقد أدى التلاحم المجتمعي الشيعي
الكبير الى الضغط على القيادات الشيعية للمزيد من التنسيق والتوحد
لمواجهة الخطر الشامل. حتى بدا التحالف الوطني الشيعي أكثر إنسجاماً من
أي وقت آخر خلال هذه الفترة. كما أدى ذلك الى إعلان الجماعات الشيعية
غير المتوافقة مع الحكومة؛ ولاسيما التيار الصدري والمجلس الأعلى
الإسلامي؛ الى استعدادها للوقوف عسكرياً الى جانب القوات المسلحة لدفع
الخطر المحدق بالعراق.
4- التقارب المجتمعي بين شرائح المجتمع العراقي العربي؛ السني
والشيعي؛ بعد أن عرف الجميع إنهم مستهدفون في المؤامرة؛ ولاسيما بعد
القرارات التشريعية والتعليمات التكفيرية التي أصدرتها قيادة داعش
والمجلس العسكري ومجلس الإفتاء في الموصل. وكذلك بعد سيطرة قوات
البيشمركة الكردية على مدينة كركوك ومعظم مدن وأراضي المحافظة، وبعض
مناطق محافظة ديالى. وهو مخطط قديم لقيادات الإقليم؛ لضم ما يسمى
بالمناطق المتنازع عليها.
5- شعور المواطن العراقي السني بأن داعش والبعث والجماعات المسلحة
يعششون في مناطقه فقط، ويتسببون في تدمير بناها التحتية وإقتصادها
وعمرانها، وفي قطع أرزاق الناس، وإشاعة الفوضى والتخريب وعدم
الإستقرار، والتاثير على مستقبل أولاده ودراستهم وعيشهم الهادئ.
6- إنكشاف قوة الجماعات المسلحة وحجمها، وخروجها من أوكارها، وتحرك
خلاياها النائمة؛ وتحديداً الجماعات التي تمثل تنظيم القاعدة؛ وفي
مقدمتها داعش. وينطبق الحال نفسه على تنظيمات حزب البعث. وكذلك الحواضن
الإجتماعية لهذه الجماعات. الأمر الذي يمهد للقضاء عليها قضاء كاملاً؛
من خلال تفعيل قانون المساءلة والعدالة وإجتثاث البعث؛ بعد أن ظل
كثيرين يشككون في وجود تنظيمات حزب البعث، ويشككون في دوافع القيادة
العامة للقوات المسلحة في حربها ضد المسلحين في الأنبار خلال الشهرين
الماضين.
7- إنكشاف نقاط الضعف والقوة في القوات المسلحة العراقية، والتعرف
على الخروقات، وعلى القادة والضباط الخائنين والمتخاذلين والأكفاء
والمخلصين؛ مما سيؤدي الى إعادة هيكلة القوات المسلحة وسد حاجاتها في
الجانب الإستخباري والتسليحي والتدريبي واللوجستي، وتعيين العناصر
الكفوءة على رأس وحداتها.
8- إنكشاف حقائق الشركاء السياسيين ومواقفهم وأهدافهم، ولاسيما
الفرقاء الكرد والسنة. وهو أمر في غاية الأهمية في تحديد شكل الحكومة
العراقية القادمة وتوجهاتها. على إعتبار إن بعض الفرقاء السنة وقفوا
سراً أو علانية مع المؤامرة في الموصل ومع مخطط تقسيم العراق، ووقف بعض
آخر على الحياد. أما الفرقاء الكرد فقد استثمروا الموقف؛ وضموا أراضي
جديدة وصعّدوا من سقف مطاليبهم.
9- تركيز فكرة القوات الشعبية المسلحة الرديفة للجيش العراقي
النظامي، وتحولها الى مشروع على الأرض؛ وصولاً الى البحث عن تكييفات
قانونية لها. وهي فكرة على جانب كبير من الأهمية؛ في حالة الدول التي
تعيش تهديدات دائمة وأوضاعاً أمنية قلقة، ووجود إنفصاليين خطرين على
أراضيها. في المقابل وجود شرائح إجتماعية وسياسية كبيرة موالية للدولة
وتريد المشاركة المؤقتة في الجهد العسكري ومواجهة الخطر الذي يحيق
بالبلاد، ولاتهدف الى الإنخراط الدائم في الجيش النظامي. وستشكل هذه
القوات الشعبية رادعاً نفسياً وميدانياً دائماً للجماعات المسلحة
الإرهابية. لاسيما وإن الجماعات المسلحة؛ ولاسيما التكفيريين
والبعثيين؛ يستهدفون مقدسات المواطنين وأمنهم الشخصي وأمن عوائلهم
ومناطق سكناهم. أي أن الدافع الديني والوطني سيكون فاعلاً جداً في
مواجهة الإرهاب ودحره نهائياً.
10- ظهور الخلافات الشديدة بين حلفاء السلاح والتآمر، وولادة حالة
التخوين وعدم الثقة بينهم؛ ولاسيما بين الأطراف الأساسية الخمسة:
أ- تنظيم داعش؛ الذي يريد التفرد في قرار الموصل والمناطق التي
اقتحمها، وفرض ايديولوجيته التكفيرية على هذه المناطق؛ وخاصة عبر
المحاكم الشرعية.
ب- تنظيم حزب البعث؛ الذي يسيطر على المجلس العسكري في الموصل،
ويحمل ايديولوجية علمانية قومية متصارعة مع التكفيريين والتيارات
الدينية.
ت- جيش الطريقة النقشبندية؛ وهي طريقة صوفية دينية؛ تتعارض
ايديولوجيتها مع الايديولوجية الوهابية السلفية التي يعتنقها تنظيم
داعش؛ وهذا التعارض يصل الى حد تكفير داعش للنقشبندية وإعتبارها فرقة
مارقة ومنحرفة دينياً.
ث- هيئة علماء المسلمين السنة بزعامة حارث الضاري وجناحه العسكري
كتائب ثورة العشرين وبعض المجاميع العشائرية الموالية لها؛ إذ تحاول
الهيئة أن تفرض نفسها قيادة عامة دينية شاملة على المناطق التي سقطت في
قبضة المسلحين، وتكون حلقة الوصل بين جميع التيارات المسلحة والحواضن
الإجتماعية، وترفض تفرد تنظيم داعش في القرار. وقد شكّلت الهيئة ماعرف
بمجلس الثوار ليكون واجهتها الميدانية التي تجمع الفئات المسلحة تحت
خيمتها.
ج- الساسة والمسؤولون المحليون المتواطئون؛ فقد تصوّر هؤلاء إن
داعش ستسيطر على الموصل وتسلمها اليهم. ولكنهم فوجئوا بتثبيت داعش
والبعث لقواتهم في الموصل وتفردهم بالقرار، وضرب معظم الإتفاقات عرض
الجدار ؛ بل أدّت بعض ممارسات داعش الى إستهداف مصالح بعض هؤلاء
المتواطئين والإنتقام منهم.
هذه الخلافات ستؤدي الى صراعات مسلحة بين الحلفاء المسيطرين على
الموصل والمناطق الأخرى؛ ولاسيما إذا استثمرتها الحكومة المركزية.
وستنتهي الى إنهيار التحالف، والحيلولة دون قيام أي تحالف مستقبلي.
11- إستشعار أمريكا والغرب الخطر الكبير الذي يتهدد مصالحهم في
المنطقة من الجماعات التكفيرية؛ الأمر الذي جعل موضوع إسقاط النظام
السوري أمراً ثانوياً، وأصبح خطاب الغرب يتجه نحو إحداث إنقلاب جذري في
منطقة الشرق الأوسط؛ لتدمير مسارب القوة لدى الجماعات التكفيرية وتجفيف
منابعها الحقيقية؛ ومنها الفتاوى التكفيرية التي تصدر من المؤسسة
الدينية الرسمية السعودية ومشايخها الوهابيين، وكبح جماح المخططات
التركية – السعودية – القطرية؛ الرامية للإستفادة التكتيكية
والإستراتيجية من الجماعات التكفيرية المسلحة وتحريكها باتجاه مصالحها
السياسية الطائفية. وبالتالي سيكون هناك ضغط أمريكي غربي على السعودية
وقطر وتركيا لرفع اليد عن هذه الجماعات؛ الّا بالمقدار الذي يبقيها
سكينة في خاصرة جبهة الممانعة الشيعية: الإيرانية ـ العراقية ـ السورية
ـ اللبنانية.
إن أحداث الموصل الرامية الى تحقيق أهداف التحالف التكفيري –
الديني ـ البعثي؛ المدعوم داخلياً من بعض القادة والسياسيين السنة
المشاركين في العملية السياسية، وخارجياً من تركيا والسعودية وقطر؛ في
تأسيس دولة الموصل السنية التي تضم محافظات صلاح الدين والأنبار وأجزاء
من محافظات كركوك وديالى وبغداد؛ إنما يدخل من باب الضارة النافعة. بل
ستكون نافعة جداً فيما لو إستثمرتها الحكومة؛ عبر (خلية أزمة للتخطيط
الإستراتيجي)؛ إستثماراً سياسياً وعسكرياُ وإعلامياً وإجتماعياً
وإقليمياً ودولياً مناسباً؛ إذ ستشكل مدخلاً تاريخياً للإستقرار الدائم
في العراق، وانتعاشه أمنياً وإقتصادياً وسياسياً وثقافياً، ومعرفة كل
مكون مذهبي وقومي وتيار سياسي لحجمه وقدراته؛ وصولاً الى التقارب
الحقيقي بين هذه المكونات وتعايشها في ظل دولة واحدة قوية..
alialmomen644@hotmail.com
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة
النبأ المعلوماتية |