المهدي المنتظر وحكومة الإنقاذ العالمي

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: الجدب في القيم الإنسانية، وتكبيل الحريات، وهدر الكرامة، وتشويه الحقائق والعبث بالموازين والمعايير، عزز الإيمان والاعتقاد في العالم بأسره، بفكرة "المنقذ"، أو "المصلح العالمي" الذي يعيد للإنسانية كرامتها وحريتها، وينقذها من الظلم والفساد والانحراف.

هذا المنقذ.. يمتاز بصفات وسمات وكمالات غير متوفرة في غيره، تمكنه من تحقيق هذا الهدف العظيم والمنشود، وليكون العلامة الفارقة مع أي ادعاء آخر بالقيادة والريادة، وما أكثرها من قبل احباب الظهور والهيمنة والحكم. بينما البشرية تتوقع ظهور شخص ينقذهم لا ينقذ نفسه!.

هذا الاعتقاد، تلتقي عنده البشرية، رغم اختلاف مذاهبها الفكرية والدينية، لأنه يلامس الفطرة الإنسانية السليمة، والمشاعر الصادقة بالحاجة الى السلام والعدل والحرية والرفاه. حتى من يتداولون الفكر السياسي العالمي، لا يسعهم تجاهل هذا الاعتقاد، وإن أرجعه بعضهم إلى "الصدفة"، أو "الوهم"، لأن هذا الاعتقاد من حيث المبدأ، وليد مصادر عقلية عُـضدت بالدينية والتاريخية، مما تسالم عليه عقلاء وفلاسفة العالم، وجاءت ضمن النصوص الدينية للأديان السماوية.

إن هذه الحاجة الإنسانية الشديدة والملحّة للمنقذ، لم تتولد في المرحلة الراهنة، او في التاريخ الحديث، بسبب نشوب الحروب والأزمات والفتن من كل حدب وصوب. إنما القضية تعود الى الأزمنة البعيدة، ومن حيث لامست المحن والفتن كيان المجتمع البشري، وأدرك الناس قبح الظلم والعدوان والضلال، فصاروا يبحثون عن العدل والسلام والرفاهية، لكن رغم كل هذه الحاجة القديمة – الجديدة، لم يسجل التاريخ مبادرة حقيقية على الأرض لإطلاق وعد صادق مدعوم ببراهين وأدلة قاطعة، على وجود منقذ حقيقي للبشرية جمعاء، كالذي وعد به الإسلام، ومنذ الأيام الاولى لتشكيل الحضارة الاسلامية على يد الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله. فهو أول من بشر العالم بأسره باليوم الموعود، بل حتى حدد اسم الإمام الحجة المنتظر وأن "اسمه اسمي.. يملاً الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلئت ظلماً وجوراً".

الشمولية في الرحمة

التحول الكبير والشامل الذي يحدثه الإمام الحجة المنتظر – عجل الله فرجه- في العالم، يتمخض عن رسالة رحمة وسلام للجميع دون استثناء، فهو خاتم الأوصياء، ينشر راية الإسلام في الأرض، بعد أن نشرها أول مرة، جده المصطفى خاتم الأنبياء، صلى الله عليه وآله، فالبشرية في مسارها التاريخي واكبت المحن والفتن، لذا لاقت الرحمة الشاملة ببزوغ فجر الإسلام، فكان الرسول الأكرم، هو المنقذ الأول للبشرية، والى أمدٍ غير معلوم، فان حفيده المنتظر – عجل الله فرجه- هو المنقذ الآخر والأخير، الذي يزيل عن وجه العالم غمامة الحزن واليأس من كل شيء.

ولعل حقانية "المنقذ الأخير" تتجلى في كونه رحمة لجميع سكان المعمورة، بقطع النظر عن عقائدهم وتوجهاتهم الفكرية. بينما نلاحظ "الخلاص" لدى المسيحية، للمسيحيين فقط، فهم يتصورون أن نبي الله عيسى عليه السلام، يشفع لهم يوم القيامة ويدخلهم جميعاً الى الجنة دون حساب!. بينما الآخرون الى جهنم!. أما اليهود الذين – هم الآخر- يتبنون كتاباً مؤلفاً من قبلهم، فيذهبون الى أبعد من ذلك، عندما يعدون أنفسهم "شعب الله المختار" وأنهم الوحيدون في العالم من سلالة طاهرة سامية، وسائر البشر من سلالات غير نظيفة!. لذا فهم الوحيدون من يستحق الحياة عند حافة التاريخ.

إن علمائنا الأبرار يستوحون مبدأ "الرحمة" التي يقوم عليها "الظهور الموعود"، من الرحمة الإلهية، بمعنى أنها ليست من فكرة بشرية، او ابداع او مبادرة خاصة من انسان الى أخيه الانسان. الى هذه الفكرة يشير سماحة الفقيه الراحل السيد محمد رضا الشيرازي – قدس سره- بأن الإمام الحجة المنتظر، تجسيدٌ للرحمة الإلهية، ويستند في ذلك الى الآية الكريمة: {وَرَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْء}، ثم يتعمق في مفهوم الرحمة، ليجعلها تعمّ الوجود كله، ويمثلها بـ "الشمس" الذي تطلع وتشع على الكون كله، دون استثناء، لذا "لا يوجد موجود في هذا العالم، إنساناً كان أو نباتاً أو جماداً أو ملكاً، إلا وهو مشمول بهذه الرحمة، فالمؤمن والكافر والمنافق وجميع الكائنات، إنما تجلس على سفرة الإمام المهدي صلوات الله وسلامه عليه".

إنقاذ للعالم بلا حدود

نسمع كثيراً عن تحركات عسكرية خاطفة يبادر اليها ضباط في هذا البلد او ذاك، لقلب نظام الحكم واستبداله بـ "حكومة الإنقاذ الوطني"، تحت شعارات محاربة الفساد والانحراف وانقاذ الشعب من الحرمان والتبعية و... غيرها من المفردات التعبوية التي يتقنها اعلام الحكومات الديكتاتورية. لكن لا تلبث هكذا نماذج من الحكم، ان تفشل وتنهار بسبب تناقضاتها وانكشاف حقائق امرها ونواياها من الصعود الى قمة السلطة.

وهذا ينسحب على بعض الدول التي تخوض تجربة ديمقراطية، حيث يتصور البعض، أن "حكومة الإنقاذ الوطني"، من شأنها ان تنهي حالة الفوضى السياسية والأمنية، وحل المشاكل التي تواجه البلد، في الخدمات والاقتصاد وغيرها. بيد أنها هي الأخرى، تخفق بقوة عندما تجد أن حقائق الواقع اكبر منها بكثير، حيث ان الاستحقاقات ليست بالسهولة التي يتصورها بعض الساسة ومحترفي السلطة وطلاب الجاه والمال. إنما الاستقرار والأمان والرفاهية تقوم على قاعدة ومنظومة متكاملة من القيم والمبادئ الإنسانية والأخلاقية التي هي الأخرى، بحاجة الى بناء حقيقي صادق، يجعل المطالبة بأي حق أنساني، مثل الحرية والعدالة والكرامة، امراً ميسوراً وممكناً. وإلا يكون الحديث مجرد لعب بالألفاظ وترديد شعارات جوفاء، ربما يكون لها مردود عكسي تثير اشمئزاز وغضب الناس!.

إن الانقاذ العالمي يوم الظهور الكبير، لهو إنقاذ حقيقي، ليس فقط للمسلمين ولإتباع الامام الحجة وشيعة أهل البيت عليهم السلام، إنما لجميع اهل الأرض. فعندما تكون الحرية والعدالة وسائر القيم والمبادئ، سائدة في العراق او لبنان او الخليج، فانها سائدة ايضاً في أقاصي افريقيا، وأعالي جبال الهملايا وفي أقصى جزيرة بالعالم. وهذا بفضل التوحد في مفهوم هذه المطالب لدى الجميع، لذا نقرأ في الروايات عن عصر الظهور، بأن "الشاة" او الحمل الوديع، يكون آمناً الى جانب الذئب الكاسر.. وهذا تجسيد واضح لا لبس فيه لمبدأ العدل والإنصاف، ونبذ الظلم والعدوان، ليس في هذا البلد دون ذاك، أو لهذا الشعب دون آخر، فاذا كانت المعادلة تنسحب على الحيوانات فما بالنا بالبشر؟.

ولعل هذا تحديداً، يعطينا دليلاً منطقياً على أن حكومة الإمام، إنما تكون "حكومة إنقاذ عالمية"، ولا تقتصر على المسلمين او الشيعة وحسب. وهذا بدوره يفند المقولة التي طالما سعى بعض الكتاب هنا وهناك، الترويج لها، بأن فكرة "المنقذ" إنما هي من بناة أفكار الشيعة لما لاقوه من اضطهاد وظلم عبر التاريخ، لذا يسعون لخلق صورة في الأذهان تصور وجود من ينتصر لهم وينقذهم من الإبادة والقتل والتشريد و... غير ذلك من التأليف والتصيّد في الماء العكر، مما يحتاج معه الى الردّ بقوة لتثبيت الحقائق للمسلمين وللعالم بأسره، وأن الظلم والإبادة التي واجهها الشيعة عبر التاريخ على يد الحكام الظلمة والطغاة وحتى اليوم، إنما هو لحجب العالم والمسلمين على وجه الخصوص، عن شمس الحقيقة، وإبعاد الشيعة والتشيع عن الحق المتمثل في كل القيم والمبادئ والتعاليم التي جاء بها الرسول الأكرم، صلى الله عليه وآله. فكل تلك التضحيات الجسام والدماء الزاكيات التي أريقت وما تزال، إنما هي ثمناً لتمسك الشيعة بالحق ورموزه، منذ عهد الامام علي، عليه السلام، ومروراً بعهد الأئمة المعصومين، عليهم السلام، وحتى عهد الغيبة والى يوم الظهور الموعود. حيث تتحقق الآية الكريمة: {ونريد أن نمنّ على الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين".

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 14/حزيران/2014 - 15/شعبان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م