قيم التخلف: تكريس الكذب

 

شبكة النبأ: الكذب مرض اجتماعي خطير، يفتك بالشعوب الفقيرة الضعيفة من حيث الوعي وقلة فرص التعليم والثقافة، لذلك تحاول المجتمعات الذكية أن تحد من تأثيره وتتخلص منه بشتى الأساليب والطرق، أولها منع الكذب عن الوصول تربويا الى الاطفال، عبر الحاضنة الأولى، في المحيط الاجتماعي الاول، ونعني به (العائلة)، فإذا كان الطفل محصّنا من هذا المرض الاجتماعي، منذ نشوئه في الحاضنة الاجتماعية الاولى، سوف تتوافر للمجتمع نسبة كبيرة في النجاح بالتخلص من الكذب، لاسيما إذا أعقب مرحلة النشوء والترعرع في العائلة، منهجا تربويا ناجحا ضد الكذب عندما يدخل الطفل مرحلة رياض الاطفال.

ثم ينتقل الطفل الى حاضنة ثالثة مهمة جدا في درء مخاطر الكذب، تلك هي مرحلة التعليم الابتدائي، هذه الحاضنة الثانية، ينبغي أن تخلو تماما من هذا المرض، وإذا أمكن ذلك فعلا، فإن الاساس الرصين للصدق، سوف يتأسس بقوة في شخصية الانسان، ولا يُخشى عليه من مرض الكذب إن تجاوز هذه المرحلة وفق قيم الصدق وبناء الشخصية الواثقة المتوازنة.

في بعض المجتمعات المتأخرة، يتحول الكذب الى قيمة خطيرة من قيم التخلف، تشد الفرد والمجتمع نحو قاع الحضيض دائما، فنرى الناس منشغلين بتوافه الامور، معتمدين الخداع والتحايل، أما الكذب فهو عنوانهم دائما، حتى أن بعض الامثال الشعبية تقدمت بدعوة صريحة لتغليب الكذب على الصدق! كما نقرأ في مضمون هذا المثل الشعبي: ( الجذب المسفّط أحسن من الصدك المخربط).

فكما هو واضح لنا، أن هذا المثل الشعبي لا يدين الكذب، ولا يرفضه، بل يؤكد أن الكذب إذا تم بطريقة منظّمة ومقبولة، فإنه أفضل من الصدق اذا جاء في طريقة فوضوية، وبدلا من الدعوة الى مساندة الصدق، وطرحه باسلوب مناسب ومنتظم، يدعو اصحاب هذا المثل الشعبي، الى تفضيل الكذب على الصدق! لمجرد أن قائله تفوّه به بطريقة منتظمة!.

مثل هذه القيم المتخلفة، هي التي تزيد من وطأة التخلف على الشعوب المتأخرة، وتضاعف من زمن تخلفها، وتجعلها مشدودة بقوة الى الواقع المتخلف، وتعمي بصائرها وابصارها، وتجعلها في حالة عماء دائمة، بحيث لا ترى ما هو أفضل من حالها وواقعها المأزوم، لذلك تبقى مثل هذه الشعوب تراوح في مربع الجهل والتخلف، ويُصعب عليها أن ترفع بصرها الى الأعلى لكي ترتقي الى واقع المجتمعات والدول المتطورة.

والمشكلة في الكذب، أنه لا يتسبب في أضرار تلحق بالآخرين فقط، بل يرى المعنيون الاجتماعيون، أن اول المتضررين هذه القيمة المتخلفة، قيمة الكذب، هو الانسان الكاذب نفسه، وقد صدرت امثل شعبية وحكم واقوال لمفكرين وغيرهم، تؤكد وتؤشر بدقة، ما يمكن أن يُلحق بالكذاب، بسبب تعاطيه الكذب بين الآخرين، فثمة مثل شعبي يقول:

(يفوتك من الكذاب صدق كثير)، بمعنى أن " الكاذب يضيع له صدق كثير!"، وهذا يتسبب بأضرار كبيرة تتعلق بشخصية الانسان ومكانته في المجتمع، فالذي يتعاطى الكذب اثناء نشاطه الاجتماعي والعملي، ربما يتفوّه ويتحدث بما هو صحيح وصادق، وقد يخبر الناس بأشياء حدثت فعلا، وربما ينقل وصية أو واقعة وما شابه من امور، لكنه ليس محط ثقة الآخرين، لهذا حتى قول الصدق لا يشفع له عند الناس، وهو السبب، لأنه هو الذي رسم شخصيته الكاذبة في اذهان وتصورات الآخرين.

وثمة أمراض أخرى تطول الكذاب بسبب كذبه، ومن أصعبها ايضا، أن الانسان الكذاب، بسبب تعاطيه الكذب، فإنه لا يستطيع أن يتصور الصدق في الآخرين، بمعنى أنه يظن أن كل الناس مثله يعتمدون الكذب في علاقاتهم مع الناس، وهذه مشكلة كبيرة، لا تؤذي الكذاب وحده، وانما تؤذي المجتمع برمته.

الكاتب جورج برنارد شو يرى أن: مأساة الكذاب ليست في أن أحدا لا يصدقه، وإنما في أنه لا يصدق أحدا.

أي أن الحالة هنا معاكسة، فهو يعتقد أن يستطيع أن يخدع الآخرين بكذبه، فيصدقون كل ما يقوله لهم، وفي الوقت نفسه يظن أن كل ما يتفوّه به الآخرون عارٍ عن الصدق!، هنا بالضبط تكمن مأساة الكذاب فعلا، ولكن لا ينتهي الامر عند هذا الحد؟، إن الضرر الفادح للكذب، هو ذلك الذي يسهم في زعزعة ثقة الناس في بعضهم، لذلك تعد قيمة الكذب من أخطر قيم التخلف على المجتمع، وتحاشيها ينبغي أن يتم منذ اللحظة الاولى لولادة الانسان، وهذه مسؤولية الحواضن الاولى ومن ثم اللاحقة، كما سبق القول، لتنقية المجتمع من الكذب والكذابين.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 11/حزيران/2014 - 12/شعبان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م