نزيف المال العراقي إلى أين؟

 

شبكة النبأ: بهدوء تام، ودون ضجيج اعلامي وردود فعل رسمية او شعبية، يتواصل نزيف المال العراقي ليهدد البلد بالموت البطيء بخلاف الموت السريع وبالجملة الذي يحصد أرواح المئات من العراقيين يومياً. هذا الموت غير محسوس، لا علامات او عوارض واضحة عليه، تنذر الشرفاء والحريصين على "المال العام"، بالخطر المحدق والماحق، لأن بحيرة النفط التي نعيش عليها، ربما تخفف من مشاعر الخطر، او تغيب هاجس الموت..! وحسب بعض المعلومات، فان آخر قطرة نفط تستخرج في العالم، ستكون من أرض الرافدين.

ليس هذا فحسب؛ إنما العراق غني بمياهه وأرضه الخصبة ومعادنه الغنية، يضاف اليه العنصر الأهم؛ الطاقة البشرية الشابة والقدرات الذهنية الخلاقة.. كلها عوامل من شأنها ان تضع العراق على مرقاة التقدم نحو مراتب الدول المتطورة في المجالات كافة.

تغيرت كثير من الامور منذ تاريخ 9-3-2003 إلا امراً واحداً وهو، الهدر المستمر للثروة الوطنية، فبعد سنين عجاف من الحروب والقرارات الدولية الجائرة، وديون بعشرات المليارات من الدولارات ودمار هائل في العهد البائد، وتبديد الثروة الوطنية تحت شعارات قومية، من قبيل "تبني القضايا العربية"، نلاحظ اليوم عجزاً واضحاً في معالجة هذا النزيف رغم انتفاء الاسباب المعروفة، فلا مغامرات وحروب، ولا توزيع اموال العراق على الشخصيات والكيانات السياسية والمؤسسات الاقتصادية والاعلامية العربية، ولا "كوبونات نفط" وغيرها كثير، إنما مؤسسات دستورية ونظام حكم ديمقراطي مكون من جماعات واحزاب سياسية تدّعي، بل وتتنافس على "الوطنية" و "الجماهيرية" رغم اختلاف افكارها ومناهجها.

وحسب آخر الاحصائيات يبلغ حجم متوسط صادرات العراق النفطية حوالي (2.165) مليون برميل يومياً، وما يعود الى العراق شهرياً حوالي (7) مليارات دولار، وهذا يعني ان مجموع صادرات العراق النفطية السنوية تبلغ 85 مليار دولار.. هذه الأرقام، نقلتها وسائل الاعلام عن علي الشكري وزير التخطيط العراقي. وبموازاة هذا، هنالك احصائية من هيئة النزاهة في العراق، تشير الى رقم مهول عن حجم الاموال المهربة من العراق خلال السنوات الماضية، وتصل الى حوالي تريليون دولار، أي ألف مليار..! وهي حصيلة أعمال فساد واختلاس جرت على مستويات عالية وواطئة في الدولة، وفي المجالات كافة.

لم يقتصر الأمر على المال، إنما شهدنا مؤخراً تطاولاً آخراً على الثروة العراقية في مياهه العذبة عندما أقحمت هذه الثروة والمادة الحيوية والغالية عند جميع شعوب العالم، في خضم الفتن السياسية والطائفية والمناوشات العسكرية، فكانت المفاجأة أن تصل أيادي عصابات "داعش" الى بوابات سد على نهر الفرات بالقرب من الفلوجة، وتغلقه وتغير مجرى الماء باتجاه المناطق السكنية والشوارع والمناطق الزراعية، وتتشكل مأساة جديدة لأهالي تلك المناطق، حيث الفيضانات عمّت كل مكان، وتحولت تلك المياه العذبة والنعمة الكبيرة، الى نقمة كبيرة. وحسب بعض المصادر، فان هذه الجريمة تمخضت عن هدر مياه على مساحة (15) كيلومتر مربع من الاراضي الزراعية والسكنية. ولنتصور حجم الكارثة!.

يحصل كل هذا في ظل انعدام واضح للتخطيط الاقتصادي الرصين والقوانين الملزمة وغير الهشّة والإرادة الوطنية المخلصة. هذا الغياب ليس وليد الأمس، إنما يعود الى الايام الاولى لتشكيل النظام السياسي الجديد على أنقاض نظام صدام البائد. فقد كانت البداية امريكية، وليست عراقية، حيث وضع اللبنة الاولى والحجر الاساس، الحاكم المدني لقوات التحالف "بول بريمر"، عندما خوّل أمر المشاريع الخدمية الى ضباط عسكريين وأمنيين، ليتحولوا بين ليلة وضحاها من عسكريين مكانهم في المعسكرات ويؤدون مهام خاصة بهم، تتعلق بالامن والدفاع، الى مقاولين ورجال مال وأعمال يشرفون على تعبيد الشوارع وبناء المدارس والمستشفيات وغيرها من المشاريع الخدمية. وكان واضحاً محاولة الاسترضاء لهذه الشريحة التي لحق بها الظلم بسبب قرار حل الجيش والمؤسسة الأمنية برمتها. ومذ ذاك، كانت البذرة الاولى لـ"الرجل غير المناسب في المكان غير المناسب". ومذ ذاك؛ خسر العراق والعراقيون تلك الكفاءات العلمية التي توظف خيرات وثروات العراق في مصلحة العراق وليس في مصلحة غيره.

لقد كان السوء في حالة الاقتصاد العراقي، أن ينسي الكثير – إن لم نقل الجميع- استحقاق البلد من النمو الاقتصادي وتحريك عجلة الانتاج والبحث عن التقنية المفيدة والفرص الجيدة للاستثمار والتطوير لمواجهة التحديات الاقتصادية المتلاطمة في العالم. لنأتي بمثال بسيط، من الأزمة المالية العالمية التي هبّت رياحها من الولايات المتحدة عام 2008، فقد تأثرت معظم دول العالم، إلا العراق، بقي على حاله، فلا عملته تأثرت ولا اقتصاده واسواقه. والسبب كما اشار بعض الخبراء، الى انه خارج من اطار التعاملات التجارية والاقتصادية في العالم، بمعنى انه يعيش لوحده، يبيع النفط ويعيش على موارده..!

ولماذا يحصل التأثير..؟ فهنالك السيولة النقدية لدى الحكومة تتصرف بها كيف تشاء، لاسيما وان معظم الميزانية الموجودة هي "تشغيلية"، ولا حصة تذكر للاستثمار والانتاج، إلا الشيء البسيط. بل وان الحكومة ولفترات طويلة من الزمن كانت تتصرف بالمال العراقي حسب قناعات خاصة، مثل إطلاق مصطلح "المنافع الاجتماعية" للرئاسات الثلاث التي استحوذت على حوالي (20) بالمئة من الميزانية التشغيلية، الى جانب الامتيازات الباهظة للنواب والمسؤولين من رواتب ومخصصات، جعلت الوضع الاقتصادي امام خطر محدق.

إن إلغاء الرواتب التقاعدية او تعديل قانون ما بشأن الامتيازات والمخصصات لهذا المسؤول او ذاك وغيرها من القرارات الترقيعية التي يُراد منها امتصاص النقمة والتخفيف من حدة الفضائح المنتشرة هنا وهناك، لا تكون الوسيلة الناجعة لما يعانيه العراق من موت بطيء بجفاف ثرواته وخيراته تدريجياً، ما دامت فكرة "الثروة الوطنية" غير مترسخة في الاذهان، ولا تعدو كونها مفردة بين الشعارات البراقة، فيما الواقع يحكي حالات التكالب على الاموال والامتيازات تحت أي عنوان كان. ولعل آخرها قرار اللجنة المالية في مجلس النواب، بمنح كل من يدلي بمعلومات عن الاموال المهربة من قبل رئيس النظام البائد (صدام)، مكافأة بنسبة عشرة بالمئة من المبلغ الذي يتم العثور عليه. فاذا كان مليون دولار – مثلاً- تكون المكافأة (100) ألف دولار، وإن كانت مليار دولار، تكون (100) مليون دولار. وبمعنى أن الذي سيدلي بهكذا معلومات، ويكون على الاغلب قريباً من اللصوص، فانه سيحصل على ثروة هائلة بشكل قانوني، وربما يغسل بها يديه من السرقة وما جنت خلال السنوات الماضية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 11/حزيران/2014 - 12/شعبان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م