لقد عادت أسواق المال إلى منح القروض لذوي الملاءات المالية
الضعيفة، ولأولئك أيضاً، الذين يتسمون بمخاطر عالية، وباتت تغري
المستثمرين بـ"الأصول السامة" وتمارس من جديد عمليات "التوريق"
(Securitization)، أي عادت أسواق المال تتعامل بالأوراق المالية، التي
رأى وارن بافيت (Warren Buffett) – أحد أساطين عالم المال وواحد من
أنجح المستثمرين ورجال الأعمال في العالم – أنها تشكل "قنابل موقوتة
للمتعاملين بها وللنظام المالي". ففي شباط/فبراير من عام 2003، ألقى
وارن بافيت خطابه السنوي أمام الجمعية العمومية لشركته بيركشاير هاثواي
(Berkshire Hathaway) وراح يتنبأ أن هذه الأوراق المالية "مثل جهنم:
يسهل الدخول إليها ويكاد يستحيل الخروج منها"، وختم تعليقه، من ثم، بأن
هذه السندات: "أسلحة مالية من أسلحة الدمار الشامل". وكان خطر التعامل
بهذه البضائع المالية يكمن في أنها غامضة الخلفيات، وغالباً ما تكون
مضمونة بقروض رديئة، عالية المخاطر، أي مضمونة بقروض ليس بالمستطاع
استردادها، وذلك لعجز المدينين عن تسديدها.
فخلال الأزمة المالية، التي اندلعت بين العامين 2007 و2008، كانت
الرهون العقارية المرتبطة بالمقترضين من ذوي الملاءة المالية الضعيفة،
أو الذين لا يتمتعون بسمعة ائتمانية جيدة، قد تسببت بخسائر مدمرة، دفعت
قيادات المصارف التجارية ومديري الأصول في هذه المصارف، إلى الإعلان
بأنهم لن يقتربوا مرة أخرى من المقترضين من ذوي المخاطر العالية، ولن
يكرروا الأخطاء التي شكلت فصلاً أسوداً في تاريخ الصناعة المالية
الأمريكية. فبين العامين 2005 و2008، حصل المستهلكون الأمريكيون على
قروض زهيدة الكلفة. حصلوا على قروض خصوصها لشراء العقارات السكنية، وإن
كانت ملاءاتهم المالية تشهد على أنهم لن يستطيعوا تسديد ما بذمتهم من
قروض. وهكذا، كان من حق المرء أن يعتقد، وقت ذاك، أن سوق القروض عالية
المخاطر قضت نحبها، وأمست من مخلفات التاريخ.
والكثيرون منا لا يزالون يتذكرون أن عملية توريق القروض العقارية
الأمريكية عالية المخاطر كانت قد أضرمت النار في الاقتصاد العالمي.
فمصارف الاستثمار ابتدعت، وقتذاك، صيغة جديدة: تكوين حزم من مشتقات
القروض، تكوين حزم تضم كل واحدة منها مئات أو آلاف القروض العقارية
التي منحتها المصارف، وذلك من أجل تحويل حزم القروض هذه إلى أوراق
مالية (إلى سندات) تُباع إلى المستثمرين. وبهذا النحو، تسترت مصارف
الاستثمار على المخاطر الكامنة في القروض الضامنة لهذه الأوراق المالية
وتخلصت من الخسائر الناجمة عن عجزها عن استرداد ما منحت من قروض.
وبالتالي، فحينما انهارت سوق العقارات في الولايات المتحدة، خسر الكثير
من المستثمرين ثروات تقدر بمئات المليارات من الدولارات الأمريكية.
واختفت من الساحة كبرى بيوت المال: فمصرف ليمان برذارز أعلن الإفلاس
ومصرف ميريل لينش تم بيعه، وغولدمان ساكس ومورغان ستانلي تحولا إلى
مصرفين قابضين متواضعين، نعم بعد ستة أعوام على انهيار أعظم مصارف
العالم، استسلم مركز الرأسمالية للمكتوب، استسلم للمكتوب هذا المركز
المالي، الذي كان، حتى ذلك الحين، مفخرة أمريكا، والمكان الذي كان يحدد
للاقتصاد العالمي شروط اللعبة، ويرمز إلى عجرفة وغطرسة الولايات
المتحدة الأمريكية. فمصارف الاستثمار درت، على مدى عقود كثيرة من
الزمن، مالاً وفيراً، وكانت الآلة السحرية، التي تكفلت بخلق المال بلا
انقطاع. وشعر العالم برمته بآثار الصدمات، التي نشأت عن هذه الأزمة:
فسرعان ما انهارت أسواق المال في كافة بقاع المعمورة، وهرب المستثمرون
بأموالهم من بلدان الاقتصاديات الناشئة، وصاروا يرتابون بأكبر المصارف.
وتعين على الكثير من بلدان العالم أن تضخ مئات المليارات من الدولارات
في سوق الأسهم، وذلك بغية تهدئة خاطر المستثمرين والحيلولة دون تحقق
الانهيار التام. على صعيد آخر، ترنح في بريطانيا وألمانيا وهولندا
وبلجيكا ولوكسمبورغ عديد من المصرف.
إلا أن عالم المال، سريع النسيان على ما يبدو. فبعد ستة أعوام على
اندلاع هذه التطورات المرعبة، عادت المصارف تمنح القروض لذوي الملاءات
الضعيفة بنحو متصاعد. والقروض المعنية هنا، ليست لها علاقة بالعقارات،
بل ببضاعة أخرى قد يكون الأمريكيون أكثر شعوب العالم شغفاً بها وهي
السيارة. وهكذا، فإن من ملامح الفقاعة الجديدة أن المستثمرين يحرصون
على اقتناء سندات مضمونة بقروض السيارات على غرار السندات السابقة التي
كانت مضمونة بالقروض العقارية السامة الشهيرة. ومن البيانات التالية
يتبن لنا تسارع هذا التطور: ففيما نما حجم القروض المرتبطة بتمويل شراء
السيارات بوتيرة متواضعة خلال معظم فترة العقد الماضي، طفر حجم قروض
السيارات من مبلغ إجمالي قيمته 700 مليار دولار في عام 2010، إلى 900
مليار دولار خلال الثلاثة أعوام الماضية. والأمر الجدير بالذكر، هو أن
أولئك الزبائن، الذين عجزوا في سابق الأيام عن تسديد ما بذمتهم من
قروض، قد حصلوا، الآن، على 34 بالمائة من هذه القروض، وذلك لإنفاقها
على شراء سيارات جديدة الصنع. أما بالنسبة للقروض الممنوحة لاقتناء
السيارات المستعملة، فإن حصة القروض عالية المخاطر بلغت الآن 62
بالمائة من مجمل القروض الممنوحة لتمويل شراء السيارات. وغني عن
البيان، أن التوسع في تمويل هذه القروض ينطوي على خطر عظيم، فارتفاع
معدل الفائدة بمقدار ضئيل، أو الالتزام بإنفاق مبلغ ما كان في الحسبان،
يمكن أن يتسبب في عجز المقترض عن تسديد ما بذمته من قرض.
وغني عن البيان، أن هذا التوسع في منح قروض السيارات، قد يعود
بالنفع الكبير على شركات تصنيع السيارات وأن نسبة عالية من مبيعات
سيارات جنرال موتورز يتم تمويلها من خلال قروض ذات مخاطر ذات عالية.
ففي الوقت الراهن، فإن 10 بالمائة من القروض الجديدة يحصل عليها
مستهلكون لم تكن لديهم فرص تذكر للحصول على التمويل والقروض فيما مضى
من الأيام، لاسيما أن مداخيل الأسر الفقيرة إما بقيت على ما كانت عليها
في سابق الزمن، أو أنها انخفضت بنحو ملموس في السنوات الماضية.
وهناك أسباب عديدة لتسارع حجم قروض السيارات. والسبب الأول يتمثل في
أن المستثمرين في وضع حرج فعلاً. فتدني أسعار الفائدة بلغ مستوى صار
يدفع مديري الأصول لاقتناص كل أشكال السندات. وينطبق الأمر ذاته على
صناديق المعاشات التقاعدية وشركات التأمين. فهذه المؤسسات أمست مجبرة
على الاستثمار في مجالات عالية المخاطر، وذلك لكي تجني معدلات الربحية
التي تعهدت بدفعها إلى زبائنها. على صعيد آخر، فإن المستثمرين حريصون
على اقتناء السندات المضمونة بقروض السيارات، لاسيما أن أداءها لا يزال
أفضل من أداء السندات التي كانت مضمونة بالرهون العقارية خلال أزمة
الائتمان الأخيرة. ومن الواضح أن تميز أداء السندات المضمونة بقروض
السيارات – مقارنة بأداء سندات القروض العقارية – قد ولد اعتقاداً
قوياً بأن المستهلكين الأمريكيين شغوفون بالاحتفاظ بسياراتهم لدرجة
ستدفعهم إلى فعل كل ما بمستطاعهم من أجل تسديد القروض المرتبطة
بسياراتهم.
أضف إلى هذا وذاك، أن شركات الملكية الخاصة (Private-Equity)
وصناديق التحوط (Hedgefonds) قد قفزت على الموجة وعززت تمويل شراء
السيارات، وراحت تروج القروض للمستهلكين بطرق مبتكرة، توحي بالتساهل مع
المقترضين. ففيما يدفع المستهلكون معدل فائدة قد يصل إلى حوالي 20
بالمائة على القروض عالية المخاطر، لا تزيد تكاليف شركات التمويل على 2
بالمائة في كثير من الحالات.
وحتى الآن، لا يزال معدل العجز عن سداد قروض السيارات عند مستويات
منخفضة وفق المعايير التاريخية. أضف إلى هذا أن انفجار فقاعة أزمة قروض
السيارات لن يكون بالضرورة ذا تأثير كبير على النظام المالي، وذلك لأن
هذه الأزمة ستكون، بكل تأكيد، أقل خطراً من حيث الحجم.
إلا أن هذه الحقائق لا يجوز أن تحجب عن ناظرينا، أن الانتعاش الحالي
في الاقتصاد الأمريكي مبني على أسس رخوة بعض الشيء. على صعيد آخر،
تذكرنا هذه التطورات، بأن الجشع والمال الرخيص يخلقان تشوهات في مختلف
النشاطات الاقتصادية.
وبات المهتمون بالتطورات التي تشهدها أسواق المال، يتساءلون كم
سيستغرق الأمر هذه المرة حتى تنفجر الفقاعة الجديدة؟ وتتسبب بموجة أخرى
من الضحايا، ليس فقط بين المستهلكين السذج، بل وبين المستثمرين، أيضاً،
المتعاملين في أسواق المال المحلية والعالمية.
وفي أوربا أيضاً، وبرغم تجارب الماضي المرة، عادت المصارف التجارية
والمصارف المركزية والدوائر السياسية، تتداول مصطلح "التوريق" في
الآونة الأخيرة، مشيرة إلى ضرورة بث الروح في سوق التوريق.
ففي مطلع نيسان/أبريل من العام الجاري، قال وزير المالية الألماني
فولفغانغ شويبله أمام البرلمان الاتحادي، إن وزارته تدرس حالياً سبل
تسهيل توريق القروض الممنوحة إلى الشركات متوسطة الحجم. ومضى شويبله
يقول: إني أعترف طواعية بأن أدوات التوريق قد لعبت، في الأزمة
الاقتصادية الأخيرة، دوراً لا تحمد عليه أبداً. بيد هذه الأدوات - بحد
ذاتها - لم تكن هي المسئولة عن اندلاع الأزمة. إن إساءة استعمال هذه
الأدوات هو الأمر الذي أدى إلى اندلاع الأزمة.
على صعيد آخر، تناقش المفوضية الأوربية مشروعاً يسمح لمصارف
الاستثمار توريق القروض متدنية المخاطر، ويجيز لها بيع الأوراق المالية
المضمونة بهذه القروض في أسواق المال.
كما يؤيد رئيس المصرف المركزي الأوربي، ماريو دراجي (Mario Draghi)
بعث الحياة في سوق التوريق، مؤكداً أن المصرف المركزي الأوربي يساند،
أيضاً، هذا التوجه ويناشد بتنفيذه بأسرع وقت ممكن.
ويرى المدير أندرياس دومبرت (Andreas Dombret)، المدير التنفيذي في
المصرف المركزي الألماني (البندسبنك) أن عمليات التوريق تنطوي على نفع
كبير، إذا ما تم تنفيذها بالنحو السليم. فهي تنشط عمليات منح القروض
للشركات عامة، وللشركات المتوسطة الحجم بنحو مخصوص.
ورب سائل يسأل عن سبب هذا الشغف الأوربي بعمليات التوريق. للوقوف
على مغزى هذه عملية، دعنا نفترض أن أحد المصارف الأوربية العملاقة قد
منح شركات متوسطة الحجم 3000 قرض بقيمة إجمالية تبلغ مليار يورو. وأنه
استعان بعملية التوريق، وراح بالتالي، يبيع هذه القروض في أسواق رأس
المال بهيئة سندات دين. وهكذا، سيتمكن مستثمرون، من قبيل شركات التأمين
وصناديق المعاشات التقاعدية، توظيف رؤوس أموالهم في هذه السندات،
لاسيما أن هؤلاء يتطلعون، حالياً، بفارغ الصبر، للاستثمار في مناحي تدر
عليهم معدلات فائدة تفوق المعدلات المفرطة في التدني السائدة، حالياً،
في أسواق المال.
ولما كان احتمال عدم استرداد القروض الممنوحة، أمراً تختلف درجته من
قرض لآخر، لذ لا يعرض المصرف التجاري المعني ما منح من قروض على شكل
حزمة واحدة، بل يعرض هذه القروض على هيئة حزم تتخلف باختلاف درجة
المخاطر الكامنة فيها: فالمستثمرون في الحزم عالية المخاطر، والبالغة
قيمتها 10 ملايين، مثلاً، يحصلون على معدل الفائدة السائد في السوق،
مضافاً إليه - على سبيل المثال - 6 بالمائة كعلاوة مخاطر. والمستثمرون
في الحزم التالية، أي الحزم المتوسطة المخاطر، والبالغة قيمتها 90
مليون يورو مثلاً، يحصلون على معدل الفائدة السائد في السوق مضافاً
إليه 3 بالمائة كعلاوة مخاطر.
أما المستثمرون في الحزم المتبقية، والبالغة قيمتها 900 مليون يورو،
فإنهم يحصلون على سعر الفائدة السائد في سوق المال، مضافاً إليه، على
سبيل المثال، 0,15 بالمائة كعلاوة مخاطر على سندات الدين المتدنية
المخاطر نسبياً. وهكذا، فلو صادف وأن عجز المقترضون عن سداد ما بذمتهم
من قروض، فإن المستثمرين هم الذين سيتحملون مخاطر الخسائر: في بادئ
الأمر الحزم ذات معدلات الفوائد العالية، أي الحزم عالية المخاطر، ومن
ثم الحزم المتوسطة المخاطر، وأخيراً الحزم المتدنية المخاطر. وبالنسبة
للمصرف المعني، تحقق عملية التوريق هذه نفعاً كبيراً، بلا أدنى شك.
فمصرف الاستثمار ما عاد يحتفظ في دفاتر حساباته مخاطر عدم استرداده ما
منح من قروض. فهذا الخطر ما عاد مشكلته، بل أمسى مشكلة الأطراف التي
استثمرت في سندات الدين المضمونة بقروض متدنية ومتوسطة وعالية المخاطر.
وبهذا النحو يتحرر جزء من رأس المال من القيود التي تحول دون التصرف به،
وذلك لأن مؤسسات الرقابة المصرفية تفرض على مصارف الاستثمار أن تحتفظ،
في المتوسط، برأسمال تبلغ نسبته 8 بالمائة من قيمة القروض الممنوحة،
وذلك لمواجهة عجز المقترضين عن تسديد ما بذمتهم من قروض (اتفاقية بازل
3).
وهكذا، فحين يقوم المصرف بتوريق القروض، أي حين يُصدر أوراق مالية (سندات)
بضمانة القروض الممنوحة (Securitization)، فإن المليار يورو، يصاحبها،
عملياً، تحرير رأسمال قيمته 80 مليون يورو من القيود التي تفرضها سلطات
الرقابة المصرفية – أي أن مصرف الاستثمار سيكون بمستطاعه تخصيص هذا
المبلغ لمنح قروض جديدة.
وغني عن البيان أن بث الروح في سوق التوريق، هدف يتطلع لتحقيقه
المصرف المركزي الأوربي بفارغ الصبر، وذلك لأن إحياء عملية التوريق
سينشط عمليات الإقراض في تلك الدول بالذات، التي انهارت فيها سوق
القروض: في جنوب أوربا بنحو مخصوص. ففي الدول المتعثرة مالياً، أمست
الشركات المتوسطة والصغيرة الحجم تواجه، في اليوم الراهن، مشاكل كبيرة
في الاقتراض من المصارف. فبرغم انخفاض سعر الفائدة إلى مستويات قياسية
في منطقة اليورو، لا تزال الشركات، في بعض دول اليورو، غير قادرة على
الحصول على ما تحتاج من قروض إلا قليلاً. ومع أن الشركات الألمانية لا
تعاني من هذه المشكلة، إلا أن المصارف تتطلع إلى إصلاح حال ميزانياتها
والتوسع في الحصول على الرأسمال الضروري لاجتياز الاختبارات التي
ينفذها، من حين لآخر، المصرف المركزي الأوربي، رغبة منه في مراجعة
أوضاع المصارف الكبيرة وحيازاتها، والتعرف على قوة هذه المصارف في
مواجهة الأزمات المحتملة (اختبارات الضغط). من هنا، فإن توريق القروض
وتصريفها في أسواق المال، يحرر رؤوس أموال معتبرة ويساهم في تحقيق فرص
النجاح في اجتياز اختبارات الضغط، ويصعد، أيضاً، من احتمال اندلاع أزمة
شبيهة بأزمة العقود العقارية.
* أستاذ جامعي من العراق
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة
النبأ المعلوماتية |