قبل أسابيع احتفل في موسكو ودولا قليلة أخرى بالذكرى التاسعة
والستين ليوم النصر على ألمانيا النازية عام 1945، لكن كثيرا من الدول
والشعوب تناست المناسبة وربما تجاهلتها. ومن شاهد الاستعراض الشعبي
والعسكري الفخم للقوات الروسية في الساحة الحمراء للمرة الأولى لابد
شعر بالإعجاب لأجواء الاحتفال كأي مناسبة عابرة لكن ليس لذكرى النصر،
لأنهم ببساطة لم يعرفوا الكثير عن المناسبة وليس لهم أدنى فكرة عن ثمن
النصر الذي دفعته الدولة السوفييتية السابقة. وحتى الذين سمعوا عن
تضحيات الشعب والجيش السوفييتي في الحرب العالمية الثانية من أبائهم أو
أجدادهم لا يدور بخلدهم ربما أن دولا في عالم اليوم قد تجرأ على اعادة
الكرة والتسبب بحرب عالمية جديدة.
ففي شرقي وجنوب شرقي آسيا نسمع بتراشق اعلامي ساخن واستعراضا للقوة
في المياه الاقليمية حيث الصين الشعبية واليابان وكوريا الجنوبية
والفيتنام والفلبين واندونيسيا، لكن لم يسع أحد للتوسط في تهدئة
الأجواء هناك، ولم تجرِ محاولات لتقريب وجهات النظر حول المسائل موضوع
النزاع بين الدول المشار اليها. النزاع ليس وليد اليوم، بل مضت عليه
عقودا من الزمن يعود بعضها الى القرن التاسع عشر. وسبب النزاع هو
ادعاءات بمياه اقليمية وجزرا تعلن الأطراف ملكيتها لوجودها ضمن منطقتها
وحدودها الجغرافية وكل طرف يحاول فرض وجهة نظره على الطرف أو الأطراف
الأخرى.
ويبدو أن الأطراف جميعها غير واعية تماما لما يمكن أن يكون سببا
لكارثة انسانية، فاساءة تفسير المواقف وتجاهل التحالفات الاقليمية
السياسية والعسكرية قد يكون الشرارة التي تشعل الهشيم. واذا ما أخذنا
بالاعتبار مطالبة اليابان لروسيا بإعادة الجزر التي احتلتها خلال الحرب
العالمية الثانية فان المشكلة ستزداد تعقيدا. فالجزر موضوع النزاع مع
روسيا تنصرف الى مجموعة من الجزر وليس الى جزيرة واحدة. والجزر هي
كوريل، وايتوروفو، وكوناشيفي، وشيكوتان، وهابومي، وساخالين، وقد أقامت
روسيا هناك قاعدة عسكرية ضخمة ومنطقة مأهولة يزاول سكانها نشاطات
اقتصادية بصورة طبيعية، فالروس يعتبرونها جزء من أمنهم القومي رغم
احتلالهم لها ابان الحرب قبل استسلام اليابان للحلفاء في آب\أغسطس عام
1945.
أما الخلاف بين الصين واليابان فيمتد عميقا في تاريخ البلدين وبصورة
خاصة منذ عام 1930 عندما غزت اليابان الصين واحتلت الجزء الأكبر من
أراضي الصين وعززته خلال الحرب العالمية الثانية وعاملت شعبها بدونية
وعدوانية صعبة الوصف تركت جروحا لم يكن من السهل اندمالها. الجزر موضوع
الخلاف كانت تحت السيطرة اليابانية منذ 1895، وبعد الحرب وضعت تحت
الادارة الأمريكية، وفي عام 1972 تخلت عنها لليابان. الجزر التي تطلق
الصين عليها بجزر دياويو تسميها اليابان بجزر سينكاكاو رفعت حدة التوتر
بين البلدين الى مستويات خطرة بعد أن اعتبرت الصين ان تلك الجزر تابعة
لها. وتأكيدا للادعاء أمرت الصين كافة الطائرات الأجنبية التي تنوي
عبور الأجواء فوق الجزر المعنية أشعار الرقابة الجوية الصينية مسبقا
قبل المرور في سماء المنطقة. لكن الولايات المتحدة تجاهلت التعليمات
الصينية واستمرت بإرسال طائراتها العسكرية للتحليق في أجواء المنطقة
بطلعات قصد بها اذلال الصين والتذكير بأن الولايات المتحدة لن تتخلى عن
حلفائها.
رسالة الدعم الأمريكية لليابان هذه موجهة كذلك لكل دول المنطقة التي
لها مشاكل حدودية مع الصين مثل الفلبين واندونيسيا وفيتنام. لكن النزاع
الأشد خطورة هو بين الصين واليابان الذي استغلته الأخيرة للخروج من
عزلتها الدولية ووظفته لبناء استراتيجية العودة الى الساحة الدولية
بأسرع ما يمكن من الوقت. وتنفيذا لتلك الاستراتيجية دخلت اليابان في
سباق مع الزمن لإعادة بناء قدراتها العسكرية، وفي هذا يكمن الخطر
الأعظم. والآن وبعد أن اعطت الولايات المتحدة الضوء الأخضر لليابان
لدخول ميدان الصناعة العسكرية التجارية فان ميزان القوى سيتغير لصالحها
ليس فقط في محيطها الجيوسياسي بل على المستوى العالمي. وعلينا أن نعلم
انها ما كانت ستدخل هذه المنافسة لولا التخطيط الأمريكي لوضعها على
الطاولة ليس فقط وجها لوجه مع الصين بل في مواجهة روسيا الاتحادية
أيضا.
فللمرة الأولى في تاريخ اليابان تشارك في المعرض العسكري الذي يقام
كل سنتين في باريس الذي ستشارك فيه أهم شركات صنع الاسلحة اليابانية
وهي توشيبا وميتسيو بيشي وكاواساكي لعرض نماذج من منتوجاتها والتعاقد
مع بلدان العالم على بيع أخر ما تنتج من أسلحة. ان التغير الجديد في
سياسة اليابان الخارجية يعني تخلي اليابان عن سياسة التعايش السلمي
التي انتهجتها بعد الحرب العالمية الثانية. وسيمهد هذا لعودتها غير
المتوقعة كلاعب دولي في ميزان القوى الاقليمية التي ستثير توترا جديدا
مع كل من الصين الشعبية وكوريا الجنوبية والشمالية. السماح لليابان
لدخول ميدان التسلح سيقود الى سباق تسلح غير مسبوق على حساب جوع وفقر
مئات الملايين من شعوب آسيا والعالم وبذلك تثبت الولايات المتحدة أكثر
من أي وقت مضى انها لم تغادر تاريخها الامبريالي أبدا لأنها من يقف
وراء هذا التصعيد الذي لن يخدم السلام في العالم.
فخلال الخمسين عاما الماضية ركزت اليابان حول اقتصادها الداخلي
ودفاعاتها الداخلية، أما دخولها الى ميدان التنافس التجاري في الانتاج
العسكري فان وجد فلا يستحق الذكر. لكنها الآن ترفع المنع على صادرات
السلاح الى الخارج وتتعاون مع كل من بريطانيا والولايات المتحدة في
تطوير مختلف الأسلحة. وبالنسبة للولايات المتحدة تشكل الأحداث حول
الصين قلقا يستحق منها اعادة توزيع سفنها العسكرية في المنطقة وتعزيز
قواتها في قواعدها العسكرية المنتشرة في اليابان وكوريا الجنوبية
والفلبين وتمتين علاقاتها مع دول المنطقة التي لها اتفاقات عسكرية
معها.
فالاتفاقات التي وقعتها اليابان بعد استسلامها للدول المنتصرة في
الحرب فرضت عليها عدم تطوير اسلحة هجومية وان يقتصر انتاجها على
الأسلحة التي تمكنها من الدفاع عن النفس بما فيها الجوية والأرضية
والبحرية. ووفقا لتلك الاتفاقات أمكن لها أن تحتفظ بـ 300 طائرة مقاتلة
وصواريخ مضادة للصواريخ الباليستية وعلى 240000 ألف عسكري وثلاث حاملات
طائرات و40 مدمرة.
لكنها منذ خمس سنوات تعيد دراسة الوضع الأمني في محيطها من حولها.
فكوريا الشمالية قامت بتجارب على السلاح النووي والصواريخ الحاملة لها
بعيدة المدى. روسيا أصبحت في السنين الأخيرة أكثر نشاطا في الشرق
الأقصى وحيث قاعدتها العسكرية في جزر كوريل وساخالين دون اشارة على
استعدادها للتفاوض للانسحاب منها. أما الصين فان ميزانياتها العسكرية
في تزايد باضطراد منذ عام 1989 وبالمقارنة بالصين فان ميزان القوة بين
البلدين يميل لصالح الصين بنسبة 1: 4.
زيادة التسلح يصب في مصلحة الاقتصاد الأمريكي، لأن الطاقات
الانتاجية لمصانع السلاح سترفع الى أقصاها لتواجه طلبات تلك الدول على
السلاح كواحدة من الحلول للأزمة الاقتصادية والبطالة الواسعة. يحاول
البعض تشبيه الوضع السائد حاليا في جنوب شرقي أسيا بالوضع الذي كان
سائدا في أوربا عشية الحرب العالمية الأولى، فألمانيا حينها كانت القوة
الصاعدة كما هو الحال مع الصين الشعبية اليوم. لكن الصعود الألماني
حينها قد كرس لاحتلال أراضي الغير واستغلال مواردها الاقتصادية لأغراض
استعمارية وهذا يتنافى تماما مع ما تحاول الصين التوصل اليه بالوسائل
السلمية مع الدول التي لها معها مشاكل حدودية على اليابسة أو في المياه
الاقليمية.
أما في أوربا فمن تابع الانتخابات المحلية في دول الاتحاد الأوربي
الـ 28 التي جرت في 25 مايو\أيار الماضي لاحظ الفوز الساحق الذي حققته
الأحزاب اليمينية المتطرفة. ففي بعض البلدان الأوربية تراجعت الاحزاب
السياسية العريقة من المحافظين والاحزاب الاشتراكية الديمقراطية الى
المرتبة الثانية والثالثة مثل اليونان وفرنسا وبريطانيا. ولا شك تابع
القراء مجريات الانتخابات تلك وما يجري من تطورات سياسية في البلدان
الأوربية الأخرى كهولندا والدول الاسكندنافية والأوربية الشرقية
وأوكرانيا. ففي هذه الأخيرة تتطور الحالة السياسية وميزان القوى
الطبقية فيها الى ما كان سائدا في ألمانيا ودولا أوربية أخرى عشية
الحرب العالمية الثانية عندما تصاعدت الاتجاهات النازية والفاشية وما
ارتبط بهما من تطهير عرقي ضد الشعوب والاقليات السامية وغير السامية.
وكان الاتحاد الأوربي قد تنبأ مسبقا بما جرى في 25 مايو\أيار الماضي
في قراره رقم 2889 بتاريخ 13\12\2012 حيث جاء فيه: " البرلمان الأوربي
شديد القلق بشأن تصاعد المشاعر القومية المتطرفة في أوكرانيا المؤيدة
لحزب الحرية والتي بنتيجتها سيدخل أحد الحزبين القوميين الجديدين
المجلس النيابي الأوكراني (Verkhovna Rada). الحزبان يرفعان شعارات
عنصرية وضد السامية بما يخالف قيم ومبادئ الاتحاد الأوربي ولذلك ندعو
الأحزاب الموالية للديمقراطية في مجلس النواب عدم تأييد أو الائتلاف مع
هذه الأحزاب."
فما جرى في أوكرانيا ليس فقط دخول القوى اليمينية البرلمان التي حذر
منها الاتحاد الأوربي بل سيطرتهم على السلطة فيها عن طريق الانقلاب
بدعم سياسي ومالي وعسكري أمريكي. ومنذ استيلائهم على السلطة يشنون
عمليات عسكرية ضد الأقلية الروسية في الشرق والجنوب الأوكراني بتحريض
واضع وتغطية اعلامية من قبل الدول الغربية. وبسبب ذلك زادت حدة التوتر
بين روسيا والولايات المتحدة على لسان رئيسها أوباما الذي منح لنفسه
الحق للتنديد بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين في عدة مناسبات منذ
استعادته جزيرة القرم في 16 مارس\أذار الماضي. ومن الواضح ان الرئيس
الأمريكي يبحث عن مبررات للضغط على الدول الاشتراكية السابقة الأعضاء
في الناتو لزيادة مساهماتها المالية في ميزانية الحلف واقناعها بأن لا
تخشى من نصب المزيد من قواعد الصواريخ البالستيكية الموجهة ضد روسيا
على أراضيها.
لكن ما يخشاه الاتحاد الأوربي لا يخيف الولايات المتحدة ولا يشعرها
بالقلق ما دام الذي يحدث في أوكرانيا يتم بعلمها ودعمها، وما يحدث في
أوربا يبعد عنها بحوالي ستة آلاف كم، ولولا الهجوم الياباني على ميناء
بيرل هاربور في شباط 1942 ابان الحرب العالمية الثانية لما شاركت في
الحرب العالمية الثانية ولما استجابت لتوسلات ملك بريطانيا حينها جورج
السادس للمشاركة في الحرب الى جانب بريطانيا. ومع ذلك لم تتخذ الولايات
المتحدة الأمريكية قرارها بالمشاركة في الحرب الا بعد عام 1943 وبعدما
بدى واضحا ان الهجوم الألماني على الاتحاد السوفييتي قد تم دحره على
أبواب ستالينغراد وأن الجيش السوفييتي يطارد فلول الجيش الألماني الفار
كالفئران نحو جحوره في برلين. النازيون الجدد يرفعون رؤوسهم عاليا بدون
خوف ويتحركون بكل حرية في عدد من البلدان الأوربية والشرق الأقصى،
وربما قريبا في مناطق أخرى من العالم.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة
النبأ المعلوماتية |