كانت اول طبعة لـ "مبادئ الاقتصاد السياسي" لجون ستيوارت مل صدرت
عام 1848، ثم توالت عدة طبعات للكتاب كان آخرها الطبعة السابعة عام
1871. "الاقتصاد السياسي" كان مصطلح القرن التاسع عشر استخدمه الكتّاب
للاشارة الى دراسة الحقل الذي نسميه اليوم بالاقتصاد الكلي
macroeconomics، غير ان ممارسي هذا العلم، مثل آدم سمث ومل وديفد
ريكاردو وكارل ماركس كانوا فلاسفة اكثر مما هم تجريبيين قياسا
بالاقتصاديين المعاصرين.
في هذا الكتاب، يختبر مل العمليات الاقتصادية الاساسية التي يقوم
عليها المجتمع وهي: الانتاج، التوزيع، التبادل، تأثير التقدم الاجتماعي
على الانتاج والتوزيع، ودور الحكومة في الشؤون الاقتصادية.
الجزء الاول يتعامل مع الانتاج ويبدأ بتحديد المتطلبات الاساسية
لوجود الانتاج وهي: العمل والاشياء الطبيعية. العمل ربما يُعرّف كوكيل
او عنصر اساسي للانتاج، مع انه ليس كل عمل يقود الى انتاج اشياء مادية.
العمل ينتج ثلاثة انواع من المنافع. الاول هو خلق اشياء لإستعمال
الانسان، حيث يمنح العمل للاشياء المادية الخارجية خصائص تجعل منها
اشياءاً قابلة للاستعمال. ثانيا، بعض الاعمال تجعل الانسان قادراً على
خدمة المجتمع بالاضافة الى خدمة نفسه، مثل عمل المعلمين والاطباء.
المنفعة الثالثة هي العمل الذي يمنح المتعة والتسلية، وهو لا يجعل
الناس الاخرين اكثر انتاجية ولا يؤدي الى خلق سلعة ملموسة. بالاضافة
الى العمل والاشياء الطبيعية، يتطلب الانتاج رأس المال، الذي بدونه لا
يمكن ايجاد انتاج. من حيث الجوهر، يُقصد برأس المال المخزون المتراكم
من ناتج العمل.
بعد ان يناقش مل مظاهر وتجليات رأس المال، مثل رأس المال الثابت
مقابل المتحرك، يبدأ بفحص الاشكال الاجتماعية للانتاج، مثل التعاون،
تركيبة العمل والانتاج على نطاق صغير او كبير الحجم، وزيادة العمل،
التي تؤدي الى زيادة رأس المال بالاضافة الى زيادة الانتاج. اخيراً،
يفحص مل الانتاج من الارض ويعترف بان مثل هذا الانتاج يختلف عن الانتاج
الناجم عن العمل ورأس المال، طالما ان الانتاج من الارض محدود ولا
يُحتمل ان يزداد كثيرا.
الجزء الثاني من الكتاب يعرض التوزيع كما يتجلى في تخصيص الملكية
والناتج. يناقش مل تأثير توزيع مثل هذه العوامل كالمنافسة، العادات،
العبودية، ملكية المزارعين، ومختلف انواع العمالة، الاجور، الارباح،
والايجارات. يعترف مل بالفرق بين العمال والرأسماليين (هو يضع مالكي
الاراضي في هذا الصنف)، كلا الصنفين يتقاسمون ناتج العمل.
في الجزء الثالث، يعالج مل موضوعات التبادل والقيمة، معرّفاً
الاخيرة بعبارات العرض والطلب. يرى مل ان القيمة نسبية، لأنها تعتمد
على كمية شيء آخر او اشياء اخرى. لا توجد هناك زيادة عامة او هبوط عام
في القيمة، لانها تزداد فقط عندما يُفترض الهبوط وتهبط فقط عندما
تُفترض الزيادة. يدرس مل النقود وعلاقتها بالعرض والطلب، كلفة الانتاج،
والائتمان(الذي هو بديل للنقود). كذلك، هو ينظر بتأثير الائتمان على
الاسعار، وظيفة العملة، التجارة الدولية والقيم، واسعار الفائدة.
الجزء الرابع يتعامل مع العلاقة بين تقدم المجتمع وشؤونه
الاقتصادية. يعرّف مل التقدم الاجتماعي بعبارات من زيادة المعرفة،
الحماية الجيدة للمواطنين والملكيات، وتحويلات الضرائب لتكون اقل ظلما،
تجنب الحرب، وزيادة رفاهية الناس الناتجة عن تحسين قدرات الاعمال، بما
فيها الاستخدام الفعال للمواطنين من خلال التعليم. يلاحظ مل ان التقدم
الاجتماعي ليس بلا حدود وان الظروف العامة السائدة ربما تصبح جامدة اذا
لم يتحسن الانتاج واذا توقف تدفق راس المال من الدول ذات الوفرة في رأس
المال الى الدول الاقل وفرة. هذا الاعتراف بحالة الجمود يقود مل
للتفكير في مستقبل طبقات العمل، والتي يتوقع مل ان ترتفع فوق القيم
البطرياركية للمجتمع وستصبح متحررة بالتعليم. الطبقة العاملة الجديدة
المتحررة سوف تخلق تغيرات هائلة في المجتمع.
الجزء الخامس يحلل تأثير الحكومة على المجتمع، مجادلاً بان وظيفة
الحكومة يمكن تقسيمها الى ضرورية واخرى اختيارية. الضرورية هي تلك التي
لا تنفصل عن جوهر فكرة الحكومة، مثل الأمن والحماية والضرائب. جميع
الاشياء الاخرى التي تقوم بها الحكومة هي اختيارية وعرضة للتساؤل.
يختتم مل بدراسة موضوع تدخّل الحكومة في حرية الفرد. حيث يزعم ان
الحكومة يجب ان تقيد نفسها دائما لتقوم فقط بعمل ما هو ضروري. اولاً،
يجب على الحكومة ان تمنع وتعاقب السلوك الفردي الذي يؤذي الناس الاخرين،
مثل استخدام القوة، الغش، او الاهمال. ثانيا، الحكومة يجب ان تعمل
لتقييد وحتى ازالة الطاقات الكبيرة التي تنفقها دولة معينة في ايذاء
دولة اخرى. ثالثا، الحكومة يجب ان تحول مثل هذا السلوك المدمر الى
تحسين في اوضاع الانسان، اي، تحويل قوى الطبيعة لتعمل من اجل تقديم
اعظم الخيرات المادية والمعنوية. اخيرا، يقترح مل ان الحكومة يجب ان
تتبنّى سياسة عدم التدخل في خيارات الافراد ومنحهم حريات غير مقيدة لكي
يستطيع الناس العيش بسعادة دون قيود.
تحليل
في "مبادئ الاقتصاد السياسي" يحوّل مل الاقتصاد الى مجال فلسفي حيوي
للتحقيق عبر استكشاف ما يريده الناس حقا وما يمكن ان يقيسه الاقتصاد
ويقيّمه. اتجاه مل في الاقتصاد مرتكز على الايمان بتفوّق الاشتراكية،
التي يتم بها الانتاج الاقتصادي عن طريق التعاونيات المملوكة للعمال.
لهذه الغاية، يجادل مل بان قوانين الانتاج ربما تكون قوانين طبيعية،
لكن قوانين التوزيع تُسن من جانب الانسان. وبكلمة اخرى، الثروة هي
الغاية النهائية لناتج العمل، لكن توزيع الثروة يتم ويتقرر بقرارات
ورغبات الناس (النخب) وهو ليس جزءاً من نظام الطبيعة. مل يذهب بعيدا في
هذه الفكرة، مؤكدا ان قوانين الانسان والمؤسسات يمكن ويجب ان تقرر
كيفية توزيع الثروة. وهكذا، بالنسبة لمل، الاقتصاد يرتبط بإحكام
بالفلسفة الاجتماعية والسياسة.
يعتقد مل ان المجتمع سوف يستمر بالنمو والتغيير، لكنه يعترف ان مثل
هذا التغيير هو مقيّد بمقدرة الارض والعمل، كلاهما يجب التعامل معهما
بعناية طالما اي منهما لا يستطيع الاستمرار بانتاج كمية متزايدة لكي
يشبعا الطلب المتزايد. يوافق مل مع توماس مالتس بان السكان يجب السيطرة
عليهم لكي لا يصبح عددهم اكبر من الطعام المتوفر.
يناقش مل فوائد المنافسة الحرة وفوائد الطاقات الاجتماعية المفضلة
التي تطلقها المنافسة. هو يذهب الى ان المجتمع حين يتخندق لحماية
اعضائه من المنافسة، ستكون النتيجة جمود وكسل لدى افراده. ولذلك، من
المهم تشجيع المبادرات الذاتية والمسؤولية الفردية، واعتماد سياسات
حكومية لا تضعف او تثبط هذه القوة الايجابية. ورغم ان هذا لا يعفي
الدولة من مسؤولياتها في توفير الامن والرفاهية لمواطنيها، فان مل فعلا
يعدّل موقفه العام من عدم تدخل الدولة بالقول ان الاحتكارات الخاصة يجب
منعها، الفقراء يجب العناية بهم، وتعليم الاطفال يجب ان يكون متوفرا
بالشكل المناسب. يعتقد مل بحزم ان المواطن المتعلم جيدا والمتنور هو
وحده يستطيع مساعدة المجتمع في النهوض والنمو وفي خلق التغيير والتقدم.
كذلك، يسمح التعليم للطبقات الدنيا لتصبح أكثر نشاطا اجتماعيا وأكثر
مسؤولية.
احدى اهم الملاحظات على المبادئ هي انه يدعو الى حقوق متساوية
للمرأة. وكما ان الفقراء بحاجة للتحرر من اعتمادهم على المجتمع المركب
طبقيا، ذو التوجهات البطرياركية، كذلك المرأة تحتاج للتحرر من الاعتماد
على الرجل. وهكذا، يدعو مل الى عدم منع المرأة من البحث عن عمل في
المجالات المحسوبة للرجل.
أهم مظهر في كتاب "مبادئ الاقتصاد السياسي" هو استخدام الطريقة
العلمية في تحليل السياسة، وبهذا فهو يطرح تطبيقاً عملياً لأفكار
نظرية. هذا أعطى دفعة جديدة للفكر الليبرالي وذلك بوضع مختلف مفاهيمه
وقيمه ضمن عالم الفعل السياسي والاجتماعي، وبالارتكاز على صرامة العلم.
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة
النبأ المعلوماتية |