ممارسة التسامح في مجتمعات الشنآن

قبسات من فكر المرجع الشيرازي

 

شبكة النبأ: يتكون المجتمع من مجموعة أعضاء، أو مجموعة أفراد، تحكمهم منظومة من القيم والاعراف والمعتقدات، قد ترفعهم الى مصاف الركب المتقدم للمجتمعات، وربما تهبط بهم الى المجتمعات المتخلفة!، يحدث هذا بطبيعة الحال، وفقا لشخصية الفرد وكيفية بنائها، وماهيّة القيم التي تحكمها، فإذ كانت المعايير جيدة، سوف يميل المجتمع الى التماسك والتعاون، وإن يحدث العكس، ويكثر وجود وتأثير (أهل الشنآن)، وتسود البغضاء، والعداوة، وسوء الخلق، بين أفراد المجتمع، في علاقاتهم مع بعضهم، فإن المجتمع سوف يكون متفككا، جاهلا، ينتشر فيه الظلم والبغي والحسد، وكل الامور التي تضعه في حقل المجتمعات الرديئة والضعيفة في وقت واحد.

لذلك لابد أن نتجنب (الشنآن)، لأنه كما يؤكد سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق الحسيني الشيرازي (دام ظله)، في كتابه القيم الموسوم بـ (حلية الصالحين)، على أن المعنى اللغوي لمفردة (الشنآن)، هو اجتماع البغض والعداوة وسوء الخُلُق، في شخصية الانسان، وهذا النوع من الناس هو أخطرهم على غيره وعلى نفسه، بل على المجتمع أجمع، ولذلك هناك حاجة كبيرة لتجنب الاذى الذي يبدر من شخصيات كهذه!، وهذا يُصعب تحقيقه من دون اللجوء الى الدعاء والاستفادة من نتائجه المضمونة.

لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال بكتابه نفسه: (إنّ الدعاء والتوجّه إلى الله تعالى هو الكفيل بأن يخلّص الإنسان من شرور أشخاص كهؤلاء، لأنّ كثيراً من الناس لا يدرون من الذي يتربّص بهم ليوقعهم في حفر المشاكل والمصائب). ويضيف سماحته: (إنّ دعاءً صغيراً - قد لا يستغرق دقائق - يتوجّه به الإنسان إلى الله تعالى كفيل بأن ينجيه من الوقوع في مشاكل قد تدوم عقوداً ولا يعرف كيف الخلاص منها).

وهذا يؤكد أهمية الجانب الروحي في صناعة المجتمع المتماسك، من خلال صنع الفرد الذي يسمو بذاته، وينتظم تحت منظومة من القيم السامية، فيمضي الى التعاون مع الجميع، من اجل البناء الامثل للمجتمع ككل، وهذا يؤكد ايضا أن الجانب المادي العملي لا يكفي وحده لتحقيق البناء المجتمعي او الفردي الصحيح، فلابد أن يرادف العمل إيمان عميق، لذلك نقرأ في كتاب سماحة المرجع الشيرازي نفسه: أن (الدعاء والعمل يكمل أحدهما الآخر ولا ينفع أحدهما من دون الثاني).

الإحسان الى المسيء

الاخلاق عامل جوهري في تهذيب الفرد والمجتمع، وعندما يكون الانسان خلوقا مؤمنا، فإنه سيكون متعاونا متسامحا مع الآخرين، ولا يحمل ضغينة او حقدا على أحد، ولا يشغل قلبه في حسد الآخرين، ويتعامل مع الجميع (بالتي هي أحسن)، هذا النوع من التعامل هو ما نحتاج إليه فعلا (ونعني بذلك المجتمعات الطامحة للتغيير والتطور)، لأن التعامل الحسن، يسهم بقوة في نقل المجتمع الى خانة التحضّر.

كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي في قوله: إن (النتيجة من الدفع بالتي هي أحسن، أشارت إليها الآية في قوله تعالى - فَإذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ- أي أنّه سيحبّك بقلبه ويدرأ عنك بجوارحه وطاقاته).

وطالما أن الانسان يستمر ضاربا في الارض، بحثا عن رزقه، لإدامة حياته وعائلته، فإنه سوف يواجه أنواعا مختلفة من الناس، ويتعرض الى إساءات ربما تؤدي الى اصابته بأذى نفسي كبير، فضلا عن الاذى المادي، لذلك لابد أن يعتمد الانسان على الصبر، لمواجهة المسيئين له، ويدرب نفسه على مسامحة الآخر الذي أساء له، فليست هناك طريقة لبناء المجتمع، من دون الاعتماد على منهج التقارب، ونشر التسامح، والتعاون، والتكافل، والصبر على الاساءة، علما أن هذا المنهج الانساني الراقي، يحتاج الى تدريب النفس عليه، ويتطلب درجة عالية من التحمّل والصبر على الأذى الذي يلحقه به الآخرون.

لذلك يؤكد سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال قائلا بكتابه نفسه: (لا يخفى أنّ الإحسان إلى المسيئين يحتاج إلى عزيمة قوية؛ ولذلك عبّرت الآية نفسها عن هذه الخصلة بقوله تعالى: وَمّا يُلَقَّاهَا إلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيم﴾.

التعامل مع أهل البغي

كلما كان الانسان أكثر قدرة على الصبر في مواجهة الاذى والاساءة، كلما كانت النتائج جيدة جدا، في مجال تحسين العلاقات الاجتماعية، ودفعها نحو التغيير الأفضل، وعندما يتمكن الانسان من الوصول الى هذه الدرجة العالية من الصبر، فإن النتائج ستكون عالية جدا، كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي في قوله: (بقدر ما يكون الصبر على الإساءة تكون النتيجة مُرضية، وإنّ هذا التوفيق الإلهي وإن كان يحتاج إلى حظّ عظيم إلاّ أنّ مفتاحه بيد الإنسان نفسه).

الباغي هو الظالم، والظالمون هم أهل البغي، كما نقرأ ذلك في قول المرجع الشيرازي بكتابه المذكور نفسه: (البغي أصله من الحسد، ثمّ سمّي الظلم بغياً؛ لأنّ الحاسد يظلم المحسود). لذلك فالانسان المؤمن عليه أن يتخلص من مخاطر أهل البغي عليه، والسعي في الوقت نفسه لاصلاحهم، لان هذا الهدف، يصب في صالح بناء المجتمع، ولكن ينبغي أن يلجأ الانسان الى الدعاء والعمل معا.

كما يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي بقوله: (لا يكفي الدعاء وحده بل لابدّ للمؤمن أن يسعى بعمله لتجنّب أهل البغي وتبديل حسدهم إلى مودّة). وعندما يتحقق هذا الهدف، ويتمكن الانسان المؤمن، من تحويل حسد أو إساءة الظالمين الى انسجام وعدل ومودة، فإن الامر سوف يصب في صالح الجميع، ويُسهم في صناعة المجتمع المتماسك حتما.

وفي كل الاحوال، يبقى الصبر على الاساءة مطلوبا، وإن كان الامر غاية في الصعوبة، ولكن إذا أراد الانسان أن يسهم في بناء نفسه، وبناء المجتمع، بطريقة صحيحة، لابد له أن يعتمد الصبر الكبير، وتدريب الذات على تحمل إساءة أهل ابغي، لأنه هو السلوك الأصلح، والأصعب في الوقت نفسه، كما نقرأ ذلك في قول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الموضوع في كتابه المذكور نفسه: (أمّا كيف نتصرّف مع أهل البغي، فلنا في أئمّة الهدى صلوات الله عليهم قدوة، فلنقتدِ بأئمّتنا وعلمائنا من بعدهم؛ لأنّ ردّ الصاع بصاعين سهل إذا كانت لدى الشخص المقدرة، ولكنّ الصبر أصلح وأجدر أن يعمل به، وإن كان أصعب).

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 5/حزيران/2014 - 6/شعبان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م