إن كان لنا أن نسجل للأمم المتحدة والمنتظم الدولي من انجاز رئيس
على مدار سبعين عام من تأسيسها فهو تصفية الاستعمار والقضاء على أنظمة
وسياسات التمييز العنصري في العالم. فمنذ منتصف خمسينيات القرن الماضي
ظهرت حركات التحرر الوطني في دول أسيا وأفريقيا ضد الاستعمار الغربي
وخصوصا البريطاني والفرنسي حيث كانت هاتان الدولتان تستعمران عشرات
الدول الأفريقية والأسيوية من بينها غالبية الدول العربية، وفي موازاة
حركات التحرر في أسيا وأفريقيا كانت شعوب أمريكا الجنوبية وجنوب شرق
أسيا تشتبك في مواجهة ضد الهيمنة الإمبريالية الأمريكية. لم يكن أمام
الأمم المتحدة التي أسستها الدول المكتوية من نتائج الحرب العالمية
الثانية التي تسببت بها التطلعات الهيمنية للنازية الألمانية والفاشية
الإيطالية والعسكرتارية اليابانية، إلا أن تتجاوب مع تطلعات الشعوب في
الحرية والاستقلال من خلال اعتماد سياسة تصفية الاستعمار التي وجدت كل
دعم من المعسكر الاشتراكي ومنظومة دول عدم الانحياز.
في تلك الفترة فرضت إسرائيل وجودها كدولة موظِفَة نتائج الحرب
العالمية الأولى (اتفاقية سايكس – بيكو 1916، وعد بلفور 1917،
والانتداب البريطاني 1922)، وتوازنات الحرب العالمية الثانية ونتائجها
وما تعرض له اليهود من اضطهاد على يد النازية الألمانية. إلا أن الأمم
المتحدة التي منحت إسرائيل شرعية الوجود من خلال قرار التقسيم 181 لعام
1947 تحت تأثير هيمنة دول الغرب على المنظمة الدولية، نصت في نفس
القرار على قيام دولة عربية في فلسطين، بمعنى أن الأمم المتحدة لم
تُسقط الحق التاريخي والقومي للفلسطينيين في بلدهم فلسطين ولكنها أشركت
اليهود في هذا الحق معتبرة أن للطرفين حقوقا مستمدة من العيش المشترك
على نفس الأرض.
لن ندخل في جدل حول إجحاف قرار التقسيم بالحق العربي في فلسطين أو
حول سبب رفض العرب للقرار، ولماذا لم يساعد العرب الفلسطينيين على
إقامة دولة في الضفة وغزة التي بقيت بيد العرب – مصر والأردن- من عام
1948 وعام 1967 مع أن هاتين المنطقتين جزء من أراضي الدولة الفلسطينية
المنصوص عليها في قرار التقسيم؟. المهم قامت دولة إسرائيل على أكثر مما
يمنحها قرار التقسيم واختفت دولة فلسطين، وأصبح جزء من الشعب الفلسطيني
خاضعا لسيطرة دولة إسرائيل وبقية الشعب يعيش مشتتا في دول الجوار وبقية
دول العالم، واستمر الوضع كذلك حتى حرب حزيران 1967 حين احتلت إسرائيل
بقية المناطق الفلسطينية – الضفة وغزة – وأراضي عربية أخرى. بعد هذه
الحرب صدر القرار 242 عن مجلس الأمن الدولي الذي اعتبر الضفة وغزة
بالإضافة إلى سيناء والجولان أراضي محتلة وطالب إسرائيل بالانسحاب من
الأراضي العربية المحتلة، ثم القرار 338 الصادر إثر حرب أكتوبر 1973
الذي يؤكد على القرار السابق، ثم توالت القرارات الدولية التي تعتبر
إسرائيل دولة احتلال.
وهكذا فمنذ حرب 1967 باتت إسرائيل دولة استعمارية باعتراف الأمم
المتحدة التي استمرت بمطالبة إسرائيل الانسحاب من الأراضي العربية
المحتلة وأصدرت عشرات القرارات التي تؤكد على حق الشعب الفلسطيني في
تقرير مصيره الوطني وحقه بمقاومة الاحتلال، وكلها قرارات تؤكد على أن
العلاقة ما بين الفلسطينيين والإسرائيليين هي علاقة شعب خاضع للاحتلال-
الفلسطينيون - بدولة استعمارية – إسرائيل. وعندما انطلقت الثورة
الفلسطينية المعاصرة منتصف الستينيات تم تصنيفها كحركة تحرر وطني ووجدت
كل دعم ومساندة من الشعوب في أفريقيا واسيا وأمريكا الجنوبية بل ومن
قطاع واسع من شعوب أوروبا والأميركتين، الأمر الذي دفع الأمم المتحدة
لأن تعترف بمنظمة التحرير الفلسطينية عنوان حركة التحرر الوطني
الفلسطيني عضوا مراقبا في الأمم المتحدة عام 1974.
في الوقت الذي كانت فيه فلسطين تعزز حضورها كحركة تحرر وطني، كانت
إسرائيل تصطف إلى جانب الدول الاستعمارية والإمبريالية وتتحالف مع
النظام العنصري في جنوب أفريقيا ومع الأنظمة الدكتاتورية والاستبدادية
في المنطقة كنظام الشاه في إيران ونظام هيلاسلاسي في أثيوبيا، وناصبت
شعوب المنطقة وحركاتها التحررية العداء. كانت علاقة إسرائيل مع النظام
العنصري في جنوب إفريقيا – بريتوريا – تكشف حقيقة إسرائيل العنصرية،
فأن تتحالف إسرائيل مع أسوء الأنظمة العنصرية التي عرفها العالم وأن
يدعم كل منهما الآخر بالسلاح والتكنولوجيا وخصوصا النووية، أمر لم
تستوعبه حتى الدول الغربية التي أسست النظامين في نفس العام 1948،
فانطلقت حملة شعبية ورسمية ضد النظامين آلت لاحقا إلى انهيار وسقوط
نظام الأبارتيد في جنوب أفريقيا 1994، وبالنسبة لإسرائيل تضافرت جهود
الشعوب ومؤسسات المجتمع المدني عبر العالم لفضح السياسة العنصرية
الإسرائيلية، وصدر قرار رقم 3379 عن الجمعية العامة للأمم المتحدة في
10 نوفمبر 1975 يعتبر الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية والتمييز
العنصري، واعترفت العديد من الدول بمنظمة التحرير ممثلا شرعيا وحيدا
للشعب الفلسطيني، وتم فتح سفارات وممثليات في أكثر من مائة دولة في
مختلف القارات.
لم يكن الموقف الشعبي وحتى الرسمي الدولي – عدا واشنطن وبعض الدول
الأوروبية – المعارض والمنتقد لإسرائيل سببه فقط علاقة إسرائيل
المشبوهة بالأنظمة العنصرية والدكتاتورية بل أيضا ممارسات إسرائيل ضد
الفلسطينيين سواء الذين بقوا في فلسطين بعد قيام دولة إسرائيل، وما زال
العالم يذكر يوم الأرض 30 مارس 1976 ردا على وثيقة (كينج) العنصرية )،
أو سكان غزة والضفة بعد حرب 1967 وما تعرضوا له من استيطان وتهويد
وتدنيس للمقدسات وبناء جدار الفصل العنصري والاعتقالات الخ، وجميعها
ممارسات تصَنَف كجرائم حرب وإبادة للجنس البشري. إلا أن إسرائيل تمكنت
وبسبب علاقاتها الإستراتيجية مع واشنطن ودول الغرب وبما تملك من نفوذ
وهيمنة مالية وإعلامية من التهرب من تنفيذ عديد القرارات الدولية بشأن
احتلالها للأراضي العربية والحيلولة بين الشعب الفلسطيني وحقه في تقرير
مصيره على أرضه، بل استغلت واشنطن الفوضى التي أعقبت انهيار المعسكر
الاشتراكي وحرب الخليج الثانية لتدفع الجمعية العامة للانعقاد للتصويت
على قرار يلغي القرار الذي يعتبر الصهيونية شكلا من أشكال العنصرية،
وقد انساقت واشنطن في ذلك وراء إسرائيل التي جعلت من إلغاء القرار 3379
شرطا لمشاركتها في مؤتمر مدريد 1991. وتم الإلغاء بموجب القرار 46/ 86
الصادر بتاريخ 16 ديسمبر 1991.
عملت إسرائيل على تضليل العالم ومحاولة إخفاء حقيقتها وممارساتها
الاستعمارية والعنصرية طوال أكثر من عقدين مستغلة عملية السلام في
الشرق الأوسط التي انطلقت من مؤتمر مدريد أواخر 1991. وللأسف ساعدها في
ذلك نصوص اتفاقية أوسلو التي تعاملت مع الضفة الغربية وقطاع غزة كأراضي
متنازع عليها، وإبعاد الأمم المتحدة عن المفاوضات و عملية التسوية، إلا
أن تعثر عملية التسوية وتهرب إسرائيل مما عليها من التزامات حتى بمقتضى
اتفاق أوسلو كشف مجددا حقيقة إسرائيل الاستعمارية والعنصرية.
وهكذا ومنذ اندلاع انتفاضة الأقصى في سبتمبر 2000 بدأت الأصوات
ترتفع مجددا منددة بالممارسات الإسرائيلية الاستعمارية والعنصرية،
وكانت بداية الحملة عام 2001 بمقاطعة البضائع التي تنتجها المستوطنات
الإسرائيلية ثم توسعت لتشمل مجالات أكاديمية وثقافية ومطالبات بملاحقة
قادة الحرب الإسرائيليين كمجرمي حرب. لم تقتصر الحملة ضد الممارسات
الاستعمارية والعنصرية لإسرائيل على نشطاء عرب وفلسطينيين بل امتدت
لشخصيات ومؤسسات أجنبية بل ويهودية مرموقة.
ففي منتصف أبريل 2002 كشفت صحيفة الانديبندنت البريطانية عن خلافات
داخل الأوساط اليهودية في بريطانيا حول الممارسات الإسرائيلية بعد
الانتقادات الحادة للحاخام اليهودي الليبرالي البارز الدكتور ديفيد
غولدنبرغ لإسرائيل، ووصفه لها بالدولة الاستعمارية، كما رفضت الكاتبة
الأميركية أليس ووكر ترجمة روايتها الشهيرة "اللون القرمزي" إلى اللغة
العبرية، ووجهت ووكر رسالة إلى دار نشر "يديعوت الكتب" نشرت على موقع
"الحملة الوطنية للمقاطعة الأكاديمية والثقافية لإسرائيل"، شكرتهم فيها
على رغبتهم بترجمة روايتها "اللون القرمزي" التي أصدرتها عام 1982
وحازت بموجبها على جائزة بوليتزر، ولكنها اعتذرت عن قبول الترجمة بسبب
سياسة الفصل العنصري التي تتبعها إسرائيل.
وفي يونيو 2011 هاجمت السيناتور "مونيكا سارزييا بن غيغوآه إسرائيل
وقالت : (بأنها تتبني مواقف وآراء دولة استعمارية )، قالت ذلك خلال
استقبال كبار أعضاء مجلس الشيوخ الفرنسي أعضاء من "لجنة الخارجية
والأمن التابعة للكنيست". وفي ديسمبر 2012 نشرت لجنة الخارجية
بالبرلمان الفرنسي تقريراً شديد اللهجة ضد إسرائيل متهمة إياها بممارسة
أبرتايد (تفرقة عنصرية) بكل ما يتعلق بتقاسم المياه في الضفة الغربية,
وفق ما ذكرت صحيفة هآرتس العبرية. وأضاف التقرير الذي أعده النائب عن
الحزب الاشتراكي الفرنسي جان غلاباني أن المياه أصبحت سلاحا بخدمة
"الأبرتايد" الجديد.
وفي 25 أكتوبر 2013 قال الفيلسوف والسياسي الإيطالي، عضو البرلمان
الأوروبي، جاني فاتيمو: ( إن إسرائيل دولة عنصرية وتستغل المحرقة
اليهودية لتبرير ما تقوم به ضد الفلسطينيين)، وأكد فاتيمو، خلال مقابلة
بثها راديو 'سوله 24' الإيطالي، إن العنصرية الإسرائيلية تجاه الشعب
الفلسطيني تبرز من معاملتها له، وعبر فاتيمو عن صدمته من استغلال
إسرائيل للمحرقة على يد النازية الألمانية لتبرير ما تقوم به من قمع
وقهر ضد الشعب الفلسطيني، و أن ما تقوم به بحق الشعب الفلسطيني يؤكد
عنصريتها، مؤكدا أنه: ( لا يريد دولة طائفية وعنصرية مثل إسرائيل).
وفي نفس السياق جدد النائب البريطاني جورج جالوي موقفه ضد إسرائيل
ومواقفها العنصرية فردا على الانتقادات التي وُجِهت له لانسحابه من
مناظرة مع إسرائيلي في جامعة أكسفورد بداية مارس 2013 كتب على صفحته
على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك : (لقد رفضت في ذلك المساء في جامعة
أكسفورد أن أتناظر مع شخص إسرائيلي مناصر لدولة إسرائيل العنصرية.
والسبب بسيط: لا اعتراف، لا تطبيع. فقط المقاطعة وسحب الاستثمارات
والعقوبات حتى تنهزم دولة الفصل العنصري. أنا لا أتناظر أبدا مع
الإسرائيليين ولا أتحدث إلى وسائل إعلامهم. وإن كانوا يريدون الحديث عن
فلسطين – فالعنوان هو منظمة التحرير الفلسطينية)، أما الكاتب الأمريكي
اليهودي ماكس بلومينثال فقد وصف إسرائيل بأنها : (دولة عنصرية تمارس
القمع والتطهير العرقي والقتل ضد الفلسطينيين، الذين يعانون بشكل مستمر
ومزمن من آلة القمع الوحشية الإسرائيلية، وأن هذا النهج العنصري
لإسرائيل يصعب إصلاحه). وفي كلمة ألقاها مغني الجاز الإسرائيلي الأصل
"جلعاد اتزمون" في اجتماع نظمته جمعية "مظلوم دار " الخيرية التركية
يوم 26 أبريل 2014 قال: (إسرائيل نظام عنصري يسعى للتطهير العرقي ضد
الفلسطينيين، وهو لا يختلف بذلك عن النازية الألمانية).
ما سبق مجرد نماذج قليلة لآلاف المواقف المشرفة التي كشفت عنصرية
الكيان الصهيوني وطابعه الاستعماري. كانت حملات المقاطعة التي باشرنها
مؤسسات أكاديمية ومؤسسات مجتمع مدني ودول ضد جامعات ومنتجات إسرائيلية
بل وملاحقات قضائية لقادة حرب إسرائيليين من أكثر الإشارات دلالة على
توجه العالم نحو التأكيد مجددا على عنصرية الكيان الصهيوني وكونه دولة
احتلال، الأمر الذي دفع الكاتب الأمريكي اليهودي توماس فريدمان للقول
بأن حملة مقاطعة إسرائيل بمثابة الانتفاضة الثالثة ضد إسرائيل !.
لم يقتصر الأمر على المؤسسات والكتاب بل إن جون كيري وزير الخارجية
الأمريكي قال في أواخر أبريل 214 بأنه لا بديل لحل الدولتين للشعبين
الإسرائيلي والفلسطيني محذرا من تحول إسرائيل إلى دولة تمييز عنصري
فيها مواطنون من الدرجة الثانية ما لم يتم تحقيق هذا الحل، ومحاولة
الخارجية الأمريكية تصحيح ما قاله كيري لا يغير من الحقيقة شيئا،
وخصوصا أن الزعيمة الصهيونية تسيفي ليفني أبدت تخوفات شبيهة قبل أشهر
من تصريحات جون كيري حيث نقلت صحيفة هآرتس عن تسيفي ليفني قولها في
بداية يوليو 2013 : (لا يمكننا التعامل مع المسائل الاقتصادية وتجاهل
المسألة السياسية وأهمية حل الدولتين) مضيفة : (أوروبا تقاطع البضائع،
صحيح إنها بدأت بالمستوطنات ولكن مشكلتهم هي مع إسرائيل التي يعتبرونها
دولة كولولنيالية أو ما تعرف باسم دولة استعمارية ولن يقتصر الأمر على
المستوطنات فحسب بل سيصل إسرائيل كلها).
اليوم وبعد وصول عملية التسوية لطريق مسدود وانكشاف مجددا حقيقة
إسرائيل كدولة استعمارية عنصرية، وحالة المقاطعة المتصاعدة من شعوب
ودول العالم ضد السياسة الإسرائيلية، مطلوب وقفة فلسطينية وعربية جادة
تعيد تحديد العلاقة بين الفلسطينيين والإسرائيليين كعلاقة شعب تحت
الاحتلال- الفلسطينيون - بدولة احتلال – إسرائيل-، ليس دولة احتلال كما
شهد العالم مع الاحتلال التقليدي بل احتلالا عنصريا استيطانيا إجلائي
يعمل على نفي هوية وثقافة بل وإنكار الوجود التاريخي للفلسطينيين في
بلدهم.وهذا يتطلب مراجعة النهج التفاوضي الذي سار عليه الفلسطينيون
طوال عقدين من الزمن، حيث من العار والمخجل أن تتصاعد المواقف الدولية
المناصرة لحقنا والمقاطِعة لإسرائيل التي تواصل احتلالها لفلسطين فيما
النخب الفلسطينية تتصارع على السلطة والوزارات، ومن المخجل أن تكون
مواقف شعوب بل ودول أجنبية أكثر تقدما وغيرة على الحق الفلسطيني من بعض
المواقف الفلسطينية والعربية.
Ibrahemibrach1@gmail.com
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة
النبأ المعلوماتية |