الفلسفة اللاحديثة والفلسفة الحديثة

حاتم حميد محسن

 

فقد جون ديوي - وهو احد ابرز الفلاسفة الامريكيين في القرن العشرين مخطوطة كان يعمل بها لسنوات عديدة، وبعد ذلك مباشرة أعلنت صحيفة ذي نيويورك تايمز وبشكل دراماتيكي عن تلك الحادثة. الالتباس وعدم وضوح الحالة ترك الناس يتداولون العديد من قصص الاختفاء. جون ديوي ربما ترك الكتاب بطريق الخطأ في المقعد الخلفي للسيارة، او ربما وضع الكتاب في مكان جانبي خارج شقته في نيويورك. ايضا، هو ربما أضاع الكتاب اثناء اجازته الى كندا. لا يوجد اي تأكيد حول الكيفية التي ضاعت بها المخطوطة. ولكن ما نعرفه ان المخطوطة المفقودة اعيد اكتشافها مؤخراً من قبل فيليب دين Phillip Deen في ارشيف مركز دراسات ديوي بجامعة جنوب الينوس، كاربونديل. قام دين بمهمة شاقة في مراجعة النص، ونُشر في عام 2012. هذه القصة من الضياع والعثور هي ملفتة بذاتها، لكن الكتاب ايضا يجسّد تحديا مثيراً للوضع الراهن للفلسفة ايام ديوي. انه تحدي لايزال قائما اليوم.

بدأ جون ديوي العمل في الكتاب عام 1939. حيث مر النص عبر عدة تطورات متقطعة حتى ضاع اخيرا في عام 1947.العناوين التي وضعها ديوي للكتاب تعطينا فكرة عن تلك التطورات. في البدء وضع ديوي عنواناً "العلم الفلسفي" The Philosophical Science. بعد ذلك سماه "العلم الواضح". اخيراً استقر ديوي على اسم "الفلسفة اللاحديثة والفلسفة الحديثة". هذا الاسم الاخير يصف بشكل فضفاض فرضية الكتاب.

اعتقد ديوي ان الفلسفة في ايامه اصيبت وبعمق بمشاكل ورثتها من بداياتها اللاحديثة. هذا الخلل كان أكثر وضوحا في النمو التقني والتخصص المفرط المحيط بنظرية المعرفة. يرى ديوي وبما يثير الصدمة ان هناك قطيعة وعدم اتصال مع هذه المعطيات. حين كانت الاكتشافات العلمية تغيّر العالم، كانت الفلسفة لاتزال تغرق في المشاكل التي لم تتغير الا قليلا منذ ايام افلاطون. العلم جرى دفعه الى الامام بمجموعة من المحققين الذين يستخدمون طرقا تجريبية للاختبار، ويكتسبون المعرفة حول كل شيء تقريبا. الفلسفة كانت لا تزال تسأل حتى عن امكانية المعرفة. وما هو اسوأ، ان الاعتماد على طرق عفا عليها الزمن قاد الفلسفة الى سلسلة من الثنائيات غير المثمرة مثل داخلي/خارجي، ذهن/جسم التي يمكن تعقبها الى تراثها اللاحديث.

أعلى وأدنى

الكتاب المعاد اكتشافه يحتوي على جزئين متميزين. الاول تاريخ ثقافي يصف (حسب ديوي) الكيفية التي انبثقت بها مشاكل فلسفية محددة ومعاصرة (لديوي) من المحاولات القديمة ومحاولات القرون الوسطى لفهم وتصنيف العالم. النصف الثاني من الكتاب يعرض استجابة ديوي لما يراه مزيجا غير صحي للفلسفة الحديثة وغير الحديثة.

جوهر النقاش في النصف الاول من الكتاب يسهل توضيحه، لكنه يصعب قبوله. الصعوبة تبرز بسبب ان نقاش ديوي يسير بالضد من معظم احكامنا الشائعة حول الواقع.

يبدأ ديوي بالقول ان الثقافة القديمة هي التي صممت الفلسفة القديمة، وليس العكس. فمثلا، هو اعتقد ان التقسيم الفكري والاقتصادي والسياسي لليونان القديمة (الى ارستقراطي وعسكري وتجار وعبيد) انتقل ليصبح من مرتكزات فلسفة افلاطون وارسطو(اللذين كانا ارستقراطيين).

ان تصنيف الثقافة اليونانية القديمة لا غبار حوله. ديمقراطية اثينا القديمة والشهيرة كانت ديمقراطية فقط للنخبة الفكرية والاقتصادية. معظم العمل اليدوي الذي ساند تلك الديمقراطية تم من جانب اولئك الذين لم يكونوا قادرين على المشاركة السياسية. يرى ديوي ان افلاطون وارسطو بدءا اولاً بترقية هذا التصنيف كمثال ومن ثم قاما بتجسيده في فلسفتهما – هما خلقا "اعلى" و"ادنى" في فلسفتهما التي نمذجت ذاتها في ثقافتهما "العليا" و "الدنيا".

في هذا النموذج، كان عمل المفكر بلا شك هو الأعلى اما العمل التطبيقي للجسد كان الادنى. اولئك الذين استخدموا عقلهم والذين بامكانهم تجنب العالم التطبيقي المليء بالفوضى سوف يبقون بعيدين عن الضرر: ولذلك، فان منْ استخدم وقيّم الفكر سيبقى قريباً من الخير الذي يجسد أعلى المُثل لدى افلاطون. الصدق، الجمال، الواقع الحقيقي، وُجدت في هذا العالم المتعالي. العالم الادنى للتعدين والزراعة والبناء كان مهما للحياة، لكنه لا يقود ابدا نحو التجربة العليا. وهكذا فان التصنيف الثقافي لهما أنتج الاطار الفلسفي لافلاطون وارسطو فيما بعد.

هذه الخطوة الاولية في نقاش ديوي يمكن قبولها دون عناء. انها تبدو كما لو ان اي شخص يتأثر بثقافته في التفكير، وان افلاطون وارسطو لن يكونا مختلفين. الخطوة القادمة في نقاش ديوي هي التي تسبب بعض الصعوبة، كونها تفتح التحديات امام عقائدنا وثقافتنا العميقة.

ليست هناك مشكلة في نمذجة فلسفة افلاطون وارسطو ضمن ثقافتهما، وفي الحقيقة ان ديوي اعتقد باستحالة قيام الفيلسوفين بما يخالف ذلك. لكن المشكلة برزت عندما تبنّى فلاسفة القرون الوسطى والثيولوجيون الانقسام الراديكالي بين أعلى افلاطون وادناه دون الاعتراف بالأسباب الثقافية للتمييز. وفيما بعد اصبحت الفلسفة المتحفزة بالثقافة التصنيفية تحظى بالقبول من جانب مفكري القرون الوسطى كرؤية للواقع. هم تبنّوا النموذج المبكر باعتبار كل ما هو متدني كان ساقطا، وكل ما هو متعالي كان دينياً. الصدق، الجمال، الواقع كان يمكن العثور عليه ليس في المزارع او المناجم، وانما فقط في السماء. هناك اصرار على ان هؤلاء المفكرين حوّلوا كل ما هو "خير" و "عالي" لدى افلاطون الى دين، لكن ذلك كان صدى للحقيقة.

يشخّص ديوي عدد من النتائج السيئة لهذه الحالة من التفكير غير العميق. ان فلسفة افلاطون وارسطو التي قبل بها مفكرو القرون الوسطى أنزلت الجسم الى ادنى مستوى. والاكثر اهمية، هما انزلا العمل الذي ينجزه الجسد الى مستوى أدني. الناس الذين دعموا وقادوا الثقافة والاقتصاد كانوا يُنظر اليهم بمرتبة متدنية. العمال، المزارعون، الاطباء، كانوا مرتبطين بالجسد. لذا فان نتائج عملهم لسوء الحظ لم تكن ابداً مرتبطة بالمعرفة. المعرفة تأتي فقط من أعلى المفكر، وليست من نتائج العمل التطبيقي للجسد. حسب رؤية ديوي كان هذا من اخطر الاخطاء. ذلك لا يعني ان ديوي لا يقدر قيمة العمل الفكري: هو كان فيلسوفا. وانما هو اعتقد ان الخطأ الجسيم هو بفصل الفكري عن التطبيقي ومن ثم الاعتقاد بان المعرفة يمكن الحصول عليها فقط من المجال الفكري الخالص. وكما هو يوضح، ان اعادة الارتباط الجزئي بين الفكري والتطبيقي هو الذي قاد الى الثورة العلمية في القرنين الخامس عشر والسادس عشر، ذلك ان الارتباط بين النظرية والتجارب العملية هو الذي خلق هذه الثورة. النمو الهائل في المعرفة لم يأت فقط من النظرية وحدها، وانما من ثنائية النظرية والتجربة. أي، ان ذلك جاء من اعادة الارتباط بين الاعلى والادنى. وفي إعلان مدوّي، يرى ديوي ان الثورة العلمية بقيت متخلفة قرابة عشرين قرنا بسبب ذلك الفصل المبكر بين الفكري والتطبيقي من جانب افلاطون.

يعرض ديوي العديد من الامثلة الاخرى لدعم نظريته. معظم النصف الاول من الكتاب يهاجم الفلاسفة الغربيين الارثودكسيين ومشاكلهم. ثنائية العقل/الجسد لدى ديكارت تتعرض الى الهجوم بشكل مشابه للهجوم على افلاطون. يرى ديوي انه ليس مصادفة ذلك الفصل الذي أقامه ديكارت وبشكل مشابه لفصل افلاطون، كذلك ليس من باب المصادفة ان نرى ديكارت لايزال يربط القيم العليا بالعقل او (الروح) كأساس للهوية، ويحيل الجسد الى منزلة اشبه بالماكنة. لذا فان الافتراضات الاساسية للفلسفة لم تتغير ابدا بمرور الزمن، انها نمت فقط لتصبح اكثر تعقيدا. فلاسفة اخرون كانوا عرضة ايضا لنقد مشابه. جون لوك، هيجل، عمانوئيل كانط كلهم كانوا اهدافا لديوي. كل واحد منهم مذنب بطريقة ما كونه ارتبط بإحكام بطريقة فلسفية مشتركة لا تحمل اي تشابه مع الحياة التطبيقية كما تُمارس. بل والأسوأ انها لا تحمل اي تشابه مع طرق العلم.

حل ديوي

ان الكتاب ليس فقط تفكيك لتاريخ الفلسفة. ديوي عرض حلا ايجابيا لمشاكل الفلسفة هذه، وجعل من حجته هامة اليوم كما كانت في اواسط القرن العشرين. اقتراحه كان ان الفلاسفة يجب ان يتبنّوا ميثدولوجيا اكثر شبها بتلك التي يستخدمها العلماء. هذا الاقتراح في ذاته لم يكن راديكاليا كما كان مرة، لكن ديوي اراد ان ياخذ الاشياء الى ابعد مما هي عليه اليوم. لكي نتفادى الكثير من المعارضة الشائعة، لابد من ملاحظة ان ديوي لم يرغب في ان يصبح الفلاسفة علماء. وانما هو اراد من الفلاسفة ان يتبنّوا الطريقة العلمية الناجحة ويكيّفوها الى الفلسفة. هذه الطريقة سوف تُطبق في كل مجال من مجالات الفلسفة، دون اي استثناء. السياسة، الاقتصاد، الجماليات، وحتى الاخلاق، سوف تُفحص من خلال هذه الطريقة الفلسفية/العلمية.

اعتقد ديوي ان اعادة الارتباط بين النظري والعملي هو الذي جعل العلم مفيد جدا. يتبع هذا، ان الطريقة الفلسفية يجب ان تكون مزيجا طبيعيا للنظرية والتطبيق. وكما في العلم، يجب ان تبدأ الفلسفة في المشاكل بعرضها بواسطة التجربة، ثم وضع الافتراضات للحلول، والعودة للتجربة لفحص هذه الحلول، وهذه العملية سوف تتكرر كضرورة. ومن المهم ايضا، يجب على الفلسفة الاعتراف بإمكانية الخطأ في كل خطوة من هذه العملية، وايضا لا تسمح بالحجج المتجاوزة للطبيعة. هذه الثقة في الطريقة، وفي امكانية الخطأ، والاعتماد الكلي على الحجج الطبيعية، سوف يساعد في تطعيم وحماية الفلسفة ضد الطرق السامة لبداياتها غير الحديثة. كتاب ديوي المُكتشف (الفلسفة اللاحديثة والفلسفة الحديثة)، رغم تأخير نشره، لايزال يتحدى الفلسفة المعاصرة. هو يتحدى الفلاسفة ليكونوا نقديين صارمين لتقدمهم التاريخي، هو يتحدى الفلاسفة ليعترفوا بنجاح طرق العلم وليكونوا برجماتيين، وهو يتحدانا لإستعمال هذه الطريقة لخلق فلسفة حديثة حقا.

........................................................

Philosophy Now, May/Jun 2014.

كتاب "الفلسفة اللاحديثة والفلسفة الحديثة"، لجون ديوي، صدر عن SIU press،عام 2012 في 351 صفحة.

 ...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 4/حزيران/2014 - 5/شعبان/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م