هي كلمة السر في خروج الامام السبط (ع) الحسين بن علي بن فاطمة
الزهراء بنت رسول الله (ص) عندما حصر فلسفته ورؤيته وعلة نهضته بقوله
في وصيته التي تركها في المدينة المنورة عند أخيه محمد بن الحنفية
{وإنما خرجت لطلب الإصلاح} فكيف ولماذا ومتى يتحقق الإصلاح في الامة؟.
اولا: انه يُطلب ولا يَطلب، فالأمة التي تسترسل مع الخطأ او يتراكم
عندها الانحراف بانتظار من يصححه لها، بفعل خارجي او بمعجزة من السماء،
ستدفع ثمن التصحيح غاليا جدا، ولذلك حذر الاسلام من (محقّرات الذنوب)
داعيا الى الانتباه لها وهي بعد صغيرة جدا، لان تركها تكبر وتكبر ستفرض
على العبد ثمنا غاليا اذا أراد ان يصححها، فقد ورد في الحديث الشريف عن
رسول الله (ص) {ان ابليس رضي منكم بالمحقّرات} وعن الامام علي (ع) قوله
{أعظم الذنوب عند الله ذنب صٓغُر عند صاحبه} وعن الامام الكاظم (ع)
قوله {لا تستقلّوا قليل الذنوب فان قليل الذنوب تجتمع حتى تكون كثيرا}
اما الامام علي بن موسى الرضا (ع) فيقول {الصغائر من الذنوب طرق الى
الكبائر، ومن لم يخف الله في القليل لم يخفه في الكثير}.
ان الإصلاح تبادر له الامة، فلا تنتظر من يقدمه لها على طبق من ذهب،
وان اكثر من يفكر به هم اصحاب الهمم العالية والرؤية الثاقبة، الصادقون
مع انفسهم ومجتمعهم، الحريصون على الصالح العام، ممن لا تستهويهم
انانياتهم ولا تكبّلهم أطماعهم، الم يقل امير المؤمنين (ع) {لاَ يُقِيمُ
أَمْرَ اللهِ سُبْحَانَهُ إلاَّ مَنْ لاَ يُصَانِعُ، وَلاَ يُضَارِعُ،
وَلاَ يَتَّبِعُ الْمَطَامِعَ}؟.
وان اكثر عمليات الإصلاح في تاريخ الانسانية، تبادر لها ثلة قليلة
قبل ان يتحول الى تيار هادر، فتراها تؤمن به اولا وتحدد الهدف ثانيا
وتستعد له بالأدوات المطلوبة ثالثا، وتستقيم عليها بلا خوف او تردد او
وجل او تراجع لأي سبب ومهما كان الثمن رابعا، وهو الامر الذي نقرأه في
سيرة سيد الشهداء الامام الحسين بن علي (ع).
وهناك نوع اخر من (المصلحين) الذين يبدأون المسير الا انهم لا
ينتهون به الى غاياته، اما خوفا او طمعا او لحاجة في انفسهم، ولذلك ورد
عن الامام علي (ع) قوله {قَلِيلٌ مَدُومٌ عَلَيْهِ خَيْرٌ مِنْ كَثِير
مَمْلُول مِنْهُ او منقطع}.
ثانيا: انه مطلوب في كل وقت، لان جوهر معنى الإصلاح فيه بعدان،
وهما؛ التصحيح والتحديث، الاول يتحقق اذا شخّص المجتمع الانحراف واعترف
به من دون تبرير او تحايل او تضليل، وهذا يتطلب:
الف: الشجاعة، فالمجتمع الجبان لا يمارس عملية التغيير الذاتي
ابدا.
باء: الحرية، فالعبد لا يغيّر شيئا من واقعه لانه يفتقد الى
الأهلية بالأساس، ولذلك أعاد الامام الحسين (ع) كل الامور اليها عندما
قال {إن لم يكن لكم دين وكنتم لا تخافون المعاد فكونوا أحراراً في
دنياكم} فالدين بلا حرية لا يفيد شيئا، ومخافة الله واليوم الاخر لا
تنفع شيئا بلا حرية، ولذلك أوصى الله تعالى رسوله الكريم ان لا يُجبر
احدا على قبول الاسلام وهو في حالة رعب وخوف وهلع فقال عز وجل في كتابه
الكريم {وَإِنْ أَحَدٌ مِّنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ
حَتَّىٰ يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذَٰلِكَ
بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَّا يَعْلَمُونَ}.
وإنما يفقد المرء الحرية اذا سكنت عقله وتفكيره الثالوث المشؤوم:
الشمولية: التي تُنتج عنده احتكار الحقيقة، وعبادة الشخصية: التي تُنتج
عنده الصنمية والتقديس الأعمى وتاليا ظاهرة (الإمّعة) وصناعة الطاغوت:
فتراه يدخل في معارك وحروب بالنيابة من دون ان يستفيد شيئا، ويبرر
للحاكم الظالم ولا يستوعب اي نقد او تنبيه.
ولقد أشار القران الكريم الى هذه الأمراض الثلاثة بقوله عز من
قائل:
{قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلَّا مَا أَرَىٰ وَمَا
أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشَادِ}.
{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ
اللَّه}.
{يُرِيدُونَ أَن يَتَحَاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَقَدْ أُمِرُوا
أَن يَكْفُرُوا بِهِ وَيُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَن يُضِلَّهُمْ ضَلَالًا
بَعِيدًا}.
ثالثا: وضوح الرؤية، التي وصفها القرآن الكريم بقوله {قُلْ هَٰذِهِ
سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ
اتَّبَعَنِي وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ}.
اما التحديث، والذي يعني التطوير، فيتطلب:
١/ المعرفة، التي تتطّلب ملاحقة تطورات الحياة المادية والمعنوية،
والتي تعتمد التفكير السليم والاستفادة من تجارب الآخرين ووعي المرحلة.
٢/ القدرة على التنفيذ والاستعداد لدفع الثمن، اذ لا إصلاح
بالمجان، ولا يحقق العاجز الإصلاح، وإنما حقق نبي الله تعالى يوسف عليه
السلام الإصلاح في مصر لانه كان كما وصف نفسه في قوله تعالى {قَالَ
اجْعَلْنِي عَلَىٰ خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ} ولكل
إصلاح علمه الخاص وأدواته والقدرات المطلوبة.
اذا لم يكن المصلح على أتم الاستعداد لدفع الثمن المطلوب، فلا يبدأ
به ابدا، ولذلك قال الامام الحسين (ع) لمن تبعه في خروجه بقوله {من كان
باذلا فينا مهجته، وموطنا على لقاء الله نفسه، فليرحل معنا} لان
المتردد يدفع الثمن بلا نتيجة.
ملاحظة اخرى بهذا الصدد، فان بعض المجتمعات تتصور ان الإصلاح مطلوب
فقط عند الفشل او الهزيمة، ابدا، وإنما هو مطلوب دائما، اما لتجاوز فشل
حاصل او لتجنب اخر قد يحصل، ولذلك حث الاسلام على المراجعة الذاتية كل
يوم فقد ورد عن الامام موسى بن جعفر الكاظم (ع) قوله {ليس منا من لم
يحاسب نفسه كل يوم، فان عمل حسنا استزاد الله منها، وان عمل سيئا
استغفر الله وتاب منها} ليقف على الخطأ لحظة المرور به، او لتلمس فشل
قادم قبل ان يحلّ عليه.
ان المجتمعات التي تنتبه لنفسها باستمرار، لا تحتاج الى عمليات
قيصرية للإصلاح، كما لو ان مريضا انتبه لحاله مبكرا، فسوف يعالج نفسه
بأبسط الطرق وأسهلها، وكلما استفحل المرض او تأخر الطبيب في تشخيصه
كلما احتاج الى ثمن أغلى للعلاج.
ان مشكلتنا في العراق، هي اننا ننتبه الى المشكلة متأخرين، وإذا
انتبهنا لها برّرناها، وإذا تمنّينا الإصلاح نرفض ان ندفع الثمن، وإذا
دفعنا الثمن فمن دمائنا وأرواحنا للاسف الشديد.
[email protected] |