شبكة النبأ: البناء نوعان، بناء مادي
نراه بالعين ونلمسه باليد، وبناء روحي ندركه من خلال الادراك العقلي،
ولكننا لا نستطيع رؤيته بالعين كرؤية الاشياء المادية، ويحتاج الانسان
بطبيعة الحال الى كلا النوعين من البناء، بمعنى أدقّ، أن الانسان لا
يستطيع أن يستغني في حياته عن احد النوعين المذكورين، بسبب حالة
التوازن التي يحتاجها الانسان عبر مسيرة حياته، وعندما يحدث خلل في هذا
التوازن، قد يصاب الانسان بنوع من الاحباط، وربما يتعرض للارباك، وعدم
فهم الامور، وقد لا يتمكن من بناء نفسه بصورة متوازنة، فلا يستطيع
التعامل من مفاصل الحياة بصورة جيدة أو متوازنة.
فعندما يهمل الانسان بناء النفس الروحي، فإنه سوف يكون عرضة لكثير
من المخاطر والاضرار، أكثرها خطورة أنه يتحول الى ما يشبه الآلة، ويخسر
الجانب الانساني في تشكيل شخصيته، فلا يهتم بالمشاعر الانسانية، ولا
يعبأ بقضية التعاون المتبادل، وينظر الى جميع التعاملات مع الآخرين
نظرة مادية بحتة، وهي نظرة الخسارة والربح المادي، ولا يترك هامشا
للرحمة، أو الموقف الانساني، فالامور عنده تُقاس بقضية الربح المادي،
وما عداه بالنسبة له مضيعة للوقت!.
لذلك يحتاج ترويض النفس وبناؤها الى سعي وجهد كبير وتمسك متواصل
بالورع، وتمرين وسعي لتحقيق هذا الهدف بسبب صعوبته، كونه يتعلق بكبح
جماح النفس الامارة بالسوء، وترويضها والسعي لبنائها بالصورة الصحيحة
التي تحقق التوازن بين المادي والروحي، وهذا لا يتحقق إلا بعد أن يبذل
الانسان ما يكفي من الجهد والتمرين المتدرج والمتواصل.
يقول سماحة المرجع الديني الكبير، آية الله العظمى، السيد صادق
الحسيني الشيرازي (دام ظله)، حول هذا الموضوع، في كتابه القيّم،
الموسوم بـ (حلية الصالحين): (هل يحصل الورع عند الإنسان بمجرّد أن
يرغب به؟ بالطبع لا، لأنّ هناك موانع كثيرة تقف في طريقه، كالشيطان
والشهوات والنفس الأمّارة بالسوء).
وما اصعب الموانع التي تقف في طريق الانسان لبناء الذات، ولكن ليس
ثمة مناص من تحقيق هذا الهدف، كونه يتعلق بمصير الانسان، نجاحا أو فشلا!.
التمرين وانتهاز الفرص
غالبا ما تتوافر الفرص للانسان، كي يوازن بين الجانبين المادي
والروحي في تحقيق البناء الذاتي المستقر، ولكن الانسان يغض الطرف، لان
البناء الروحي يستدعي نوعا من الكفاح والمواظبة والتمرين المتواصل،
بمعنى يحتاج الانسان الى جهد اكثر مما يتطلبه البناء المادي، لأن
الاخير ينطوي على فوائد آنية تتواءم مع رغبات الانسان الآنية وتحقق ما
تهفو إليه غرائزه، كالملذات وما شابه، أما الجانب الروحي فهو يستدعي
قمعا متواصلا للخطأ والمسارات المنحرفة للفكر والسلوك والخروج على
القيم والضوابط، لذلك يحتاج الامر الى تمرين متواصل، بالاضافة الى
القضية الأهم، وهي أهمية انتهاز الانسان للفرص التي تتاح له بخصوص
البناء الروحي.
لذلك يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (إذاً لابدّ من
ترويض النفس وتمرينها للتغلّب على كلّ الصعوبات والموانع التي تصادفه
في كلّ مجالات الحياة لعدم صمود استعدادات الإنسان من دون ممارسة
وتمرين). ويضيف سماحته قائلا حول هذا الجانب: (لينتهز كلّ منّا جميع
الفرص - لا سيّما أيّام شهر رمضان - من أجل بناء نفسه، فإنّه لا حدّ
لبناء النفس، ولا يتصوّر أحد أنّه سيصل الحدّ الذي يتوقّف عنده جهاد
النفس وبناؤها).
علما أن البناء ينبغي أن يتخذ طابع التدرّج، حتى يكون ثابتا مستقرا،
على العكس من التسرع الذي يتسبب بمخاطر العودة الى المربع الاول او
نقطة الشروع الاولى، لذا يقول سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال: (بالسعي
والتمرين يمكن أن يصل الإنسان إلى مرتبة - فهم والجنّة كمن قد رآها-
لأنّ هذا الأمر لا يتحقّق دفعة واحدة بل يتطلّب الممارسة والمواظبة من
أجل الصعود درجة درجة.(
الورع والظرف الطارئ
ربما يتحول الانسان فجأة نحو الافضل، بسبب موقف صدمه، أو حالة
عاشها، أو موعظة سمعها، فيتأثر بذلك فجأة ويتحول الى انسان متوازن،
ولكن هذا التغيير المفاجئ لصالح بناء الذات، لم يأت بالتدرج، ولم يتحقق
نتيجة لسعي الانسان في ترويض نفسه وبنائها البناء الامثل، انما جاء
بسبب موقف او كلمة أثرت بصورة سريعة في الانسان، لذا فإن هذا التغير
السريع في الانسان، لا يكون ثابتا مثل البناء الذي يأتي عبر التمرين
والمواظبة.
يقول سماحة المرجع الشيرازي حول هذا الجانب، في كتابه المذكور نفسه:
(قد تحصل عند الإنسان حالة من التغيّر بسبب حالات خاصّة أو ظرف طارئ أو
نتيجة التحرّز والاحتياط أو التأثّر بموعظة سمعها من خطيب أو وصايا
قرأها لأهل البيت سلام الله عليهم، وربما اجتمعت عوامل عدّة في خلق هذا
التغيير عند الإنسان، فيشعر أنّ قلبه قد تنوّر بعض الشيء، فينعكس هذا
على سلوكه ومشاعره نحو الأفضل، ولكن هذه الحالة قد لا تستمرّ معه
أبدا،ً وسرعان ما تبدأ بالذوبان كقطعة الثلج التي تذوب تدريجياً).
وبهذا لا يمكن تحقيق الترويض الصحيح من دون سعي في المواظبة،
واستثمار الفرص المتاحة لتحقيق هذا الهدف الصعب، ومن هذه الفرص كما
يؤكد ذلك سماحة المرجع الشيرازي، شهر رمضان، فهذا الشهر بما ينطوي عليه
من اجواء إيمانية، وما يتيحه من توجّه روحاني متواصل، يمثل فرصة مناسبة
جدا لتحقيق الدرجة المطلوبة من الورع وترويض الذات، خاصة أن هذا الشهر
الكريم يختلف عن التأثير المفاجئ في الانسان، لأنه مليء بالفيض الروحي
المتدفق طوال ايام هذا الشهر المبارك.
لذلك يؤكد سماحة المرجع الشيرازي في هذا المجال على:(أنّ الورع لا
يأتي من فراغ وهكذا اعتباطاً، كما تقدّم، ولا يكفي الدعاء أيضاً في
حصوله بل لابدّ من أن يسعى الإنسان لتحصيله عبر الممارسة والمواظبة
والاستفادة من المناسبات التي وفّرها الله تعالى للإنسان المؤمن
كمناسبة شهر رمضان المبارك مثلاً). |