ذكريات الطائرة الورقية وأحلام العراقيين

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: قبل ايام اكتشفت متعة الجلوس في احدى الحدائق العامة والموجودة في منطقتي، كان مجموعة من الاطفال يلهون بطائرة ورقية سوداء، يتركون خيطها يفلت من ايديهم ثم يتراكضون للامساك به، كان معي اصغر ابنائي، اخبرني ان الاسواق الفلانية تبيع مثل هذه الطائرة، اشتريت له واحدة منها، لكننا حتى الان لم نجربها، لقد نسيها ابني او اهملها، لكنها لا زالت تلح علي، في تذكر سنوات سابقة طويلة، حين كنت الهو بواحدة من تلك الطائرات.

كان ذلك في سبعينات القرن الماضي، وكنت ادرج الى سنوات المراهقة، كانت كرة القدم تتوزع على كل ايام السنة، في المدرسة او الشارع او الساحات، بينما ينحصر لعبنا بالطائرات الورقية في العطلة الصيفية، ورغم شدة المنافسة بين اللعبتين، الا ان الطائرة الورقية كانت حاضرة بشدة في العابنا.

كنا نصنعها في منازلنا لتوفر كل موادها، من ورق وخيوط وخشب رفيع ولاصق ورقي، وكانت اشكالها بسيطة، تعبر عن بساطتنا وبساطة الحياة والاحلام التي تراودنا.

كانت سطوح منازلنا هي الساحة الاثيرة لدينا لتطيير تلك الطائرات، التي تحلق باحلامنا او ان احلامنا هي من كانت تحلق بالطائرات وترفعها الى الاعلى، بقوة الرغبة والشغف في ان نرى شيئا منا يحلق ويرتفع الى السماء، خارقا لقوانين الجاذبية التي اكتشفها نيوتن من خلال تفاحته الشهيرة. احد ابناء اعمامي سقط من سطح المنزل، لتتهشم جمجمته ويفقد حياته وهو يريد ان يرى حلمه طائرا، لكن هذا الحلم ارتد كابوسا علينا، وحتى الان ترافقني صورته في المشرحة ممددا على طاولة التشريح قبل استلام جثته ودفنه.

في نهاية السبعينات ومع اندلاع الحرب العراقية الايرانية، كنت شاهدا على اقلاع الطائرات الحربية العراقية من مطار كركوك العسكري حيث كنا نقطن وقتها في منطقة تسمى (الحمزلي) والتي ساوى صدام حسين واجهزته الامنية الكثير من بيوتها بالارض، بتهم متعددة ليس اقلها الانتماء الى حزب الدعوة او التبعية لإيران، او لتأثيرها على الجوانب الامنية للمطار.

كنا نتسلق حيطان السطوح لنرى بصورة اوسع، وكنا نراقب السماء مع انطلاق صافرات الانذار، وكنا شهودا على مبارزات الطائرات الحربية، او وهي تفلت من الصواريخ التي تطلقها عليها المضادات الارضية.

في تلك الاعوام انزوت طائراتنا الورقية بعيدا عن سطوح المنازل، ونحن كنا نرى احلامنا لا تتسع لها الارض فما بالك بالسماء. وفقدنا الرغبة في الحلم، الا حلم انتهاء الحرب والقتل والدمار، ولم نكن وقتها نمتلك قوة حتى لتحقيق حلم اطفاء الحرائق.

غابت في تلك السنوات الكثير من احلامنا الملونة التي كانت تحلق في السماء عبر طائراتنا الورقية، واصبحت تلك السماء تحتلها غربان الموت.

في التسعينات، وفي سنوات الحصار، حيث كل شيء محاصر لا يمكن له الخروج من دائرة الحصر والتضييق، انتعشت مرة اخرى صناعة الطائرات الورقية، واقول صناعة، لان الكثيرين من العراقيين توجهوا الى انشاء ورش منزلية تصنع تلك الطائرات، وتبيعها كمصدر للدخل محاولة منهم في تقليل حدة الحصار وانعدام الفرص للعمل.

في التسعينات، عادت الاحلام مجددا، تريد الانعتاق من اسر تلك الظروف القاسية والقاتلة، لكنها مجرد احلام، افتقرت للقوة من اجل تحقيقها، رغم توفرها على الرغبة في الانعتاق من الاسر ومن كل تلك القيود الضاغطة. لكنها كانت ترتد علينا بالمزيد من الوبال، ونحن نعيد طائراتنا الى الارض ومعها تعود احلامنا المجهضة، ونكتفي بتحقيق حلم واحد هو التحليق الى الاعلى.

بعد العام 2003 لم تعد الطائرات الورقية تحلق بكثرة في سماء العراق، ربما لان العراقيين قد امتلكوا القدرة على التحليق بأحلامهم في طائرات ضخمة عملاقة وهم يسافرون الى دول اخرى، او ربما ان حصولهم على الحرية التي تاقوا اليها كفيل بجعلها تحلق دون احلام تحملها تلك الطائرات الورقية وتتمايل بها يمينا ويسارا حيث تميل الريح التي تحملها. او ربما بالعكس احسوا بالفجيعة ترافق احلامهم، ولا تترك فرصة لها ان تجلب لهم الفرح، وتطرد عنهم القلق، الذي ترمز له الطائرة الورقية كما ترافق ذلك مع وجودها في الصين، حيث يطلق الناس الطائرات الورقية للتعبير عن رجائهم في ازالة القلق والدعاء من اجل السعادة.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 27/آيار/2014 - 26/رجب/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م