شبكة النبأ: تزامن دخول الحاكم
العباسي "هارون" الذي يُسمى بـ "الرشيد" الى الحرم النبوي الشريف في
المدينة المنورة، مع دخول الإمام موسى بن جعفر عليه السلام. وأمام حشد
كبير من الزائرين والحاشية والشرطة وغيرهم، توجه هارون الى المرقد
الشريف يريد السلام على النبي الأكرم، صلى الله عليه وآله، فقال:
"السلام عليك يا عم..!، لكن لم يلبث لحظات حتى تقدم الإمام الكاظم،
عليه السلام، للسلام بالقول: "السلام عليك يا جدّاه..".
بعض المؤرخين يشيرون الى هذه الواقعة معتبرين أنها كانت من أهم
الاسباب التي جعلت هارون العباسي يقرر إبعاد الإمام من المدينة المنورة
ثم اعتقاله، كما هنالك أدلة وشواهد أخرى ربما تشكل مجتمعة، عوامل دفعت
السلطة العباسية لاعتقال الامام وابقائه لسنوات طويلة في احد مطامير
السجون ببغداد.
لمن يلاحظ الظروف السياسية التي أحاطت باستشهاد الامام الكاظم عليه
السلام، ويقارنها بالظروف المماثلة التي أحاطت بواقعة الطف في كربلاء،
يجد أن تفجير قنبلة اللاشرعية السياسية بوجه الحكام، هو القاسم المشترك
في حياة كلا الإمامين عليهما السلام. فقد فجّر الامام الحسين عليه
السلام، نهضته المدوية بوجه الحكم الأموي، معلناً للمسلمين والعالم
بعدم شرعيته، مع ما لها من انحراف سافر وطغيان لا يُحد. وهي الحجة
البالغة التي لم يصمد أمامها "يزيد" بعد استشهاده عليه السلام، حيث
حاول إلقاء تهمة القتل على ابن زياد، كما يشير بعض المؤرخين، مع تأكيد
البعض الآخر، الى انها ربما تكون نوعاً من التنصّل عن الأمر المباشر
بالقتل "إن لم يبايع.." الذي كتبه بيده الى واليه على الكوفة.
نفس اللغم القاتل سقط فيه هارون العباسي، عندما أقدم على الاصطدام
بالامام الكاظم عليه السلام، وهو عارف بمنزلته ومكانته الاجتماعية
والدينية، بل وأحقيته في الخلافة والحكم. والسبب في ذلك، أن العباسيين
في عهد هارون، بلغوا الذروة في القوة والاقتدار في المجالات كافة، ما
لم يصلوه من قبل، لذا يُسمي بعض المؤرخين ذاك العصر بـ "العصر الذهبي"،
حيث راجت العلوم والفنون وارتفعت إيرادات الدولة، لما كانت تحمله اراضي
الدولة الاسلامية من الثروات الطبيعية الهائلة من الزراعة والمعادن
وغيرها. لذا لم يكن المتسلقون الى قمة السلطة، يعيشون الأمن والاستقرار
أمام قوة الشرعية المتمثلة في الإمام الكاظم عليه السلام، حيث تؤكد
المصادر الى أن مدرسة أهل البيت، عليهم السلام بلغت من القوة والمتانة
والانتشار في هذا العهد بالذات، ما جعلها تخترق اجهزة الحكم ليصل عدد
من ابرز وجوه الشيعة الى مناصب عليا في الحكومة، أبرزهم التابعي
الجليل، "علي بن يقطين" الذي كان يُعد، حسب مصطلح اليوم، من الوزراء في
حكومة هارون. وهذا بفضل الجهود الجبارة التي بذلها والده الإمام الصادق
عليه السلام، بتأسيس أول مدرسة علمية في تاريخ الدولة الاسلامية تستقي
مناهجها من مصادر لا تشوبها شائبة. الى جانب ذلك تخريج عدد كبير من
الطليعة الرسالية والنخبة المثقفة التي أخذت فيما بعد على عاتقها حمل
لواء الإصلاح والتغيير بكل بسالة وتضحية.
من هنا كانت محاولات العباسيين لاستمالة الإمام واستيعاب التيار
الشيعي، بيد أن التفاوت والتعارض بين المنهجين لم يبق مجالاً لأي نوع
من التقارب، بعد ما أوغل الحكام السابقون وفي عهد هارون ايضاً في دماء
الاحرار والأباة من إتباع أهل البيت عليهم السلام، لاسيما من المنحدرين
من نسل علي وفاطمة عليهما السلام. مما كانت تؤدي بالمحاولات بالفشل.
علماً أن هارون كان يدّعي أن له صلى القربى مع الإمام من جانب الجد
الواحد (هاشم)، وربما تعلّم هذا الدرس من بعده ابنه "المأمون"، عندما
حاول – من خلال هذا الباب – الدخول الى قلب الإمام الرضا عليه السلام،
وكسب ودّه واسترضائه ثم الحصول على الشرعية الدينية في نهاية المطاف،
وهو لم يحصل لأحد من الحكام.
نعم؛ إنها مشكلة "الولاء" والقيادة التي طالما قضّت مضاجع الحكام في
عهد الأئمة المعصومين، وحتى اللحظات الأخيرة من وجود الإمام المهدي
المنتظر – عجل الله فرجه- بين المسلمين. وهي المنطقة الخطيرة والحساسة
التي كان يخشاها هارون وهو يقف على صفيح ساخن أمام الإمام الكاظم عليه
السلام. وبين فترة وأخرى كانت الأخبار الصاعقة ترد على مسامع هارون بأن
"موسى بن جعفر يُجبى له الخراج في المدينة، ويُدعى له، وانت في العراق
يجبى لك الخراج..". وهذه الأخبار لم تكن مجانبة للحقيقة، فقد كانت
الحقوق الشرعية تجبى للإمام عليه السلام، بل كانت تتكدس لديه، ولخوفه
على شيعته من عيون السلطة لفرقها بينهم، إلا انه كان يكتفي بالقليل ممن
يثق بهم وذلك ضمن اجراءات امنية خاصة.
وحسب بعض المؤرخين فان التيار الشيعي بات من القوة والانتشار أن
تحول الى "دولة داخل دولة"، بيد أن الأمام وإتباعه كانوا يعيشون الحذر
الشديد من احتمال تعرض الكيان الشيعي للخطر اذا تم ضبطهم بالدليل
المشهود، لذا نجد في التاريخ معظم الاتهامات الي سيقت ضد الامام
واتباعه إنما كانت عبارة عن وشايات ونتاج اعمال تجسس رخيصة، كان بعضها
يرد الى نحور اصحابها، كما حصل مع علي بن يقطين، الذي منحه هارون ذات
مرة "درّاعة" ديباج سوداء منسوجة بالذهب، وصلت ضمن هدايا ملك الروم، ثم
لم يلبث هذا التابعي الوفي أن ارسلها الى الإمام عليه السلام، ولم
يبقها عنده او يتملّكها.
تقول المصادر أنه مضت علة الواقعة بضعة أشهر. وذات يوم، وفيما كان
علي بن يقطين عائداً للتو الى بيته، من عند هارون، إذ اتاه غلامه
بمظروف عليه ختم رطب، ولما فتحه إذا به كتاب الإمام عليه السلام، وفيه:
"يا علي هذا وقت حاجتك الى الدراعة، وقد بعثت بها اليك". وما هي إلا
ساعة، واذا بخادم هارون يدخل عليه البيت بغير اذن وبشكل غريب ويقول:
"أجب امير المؤمنين.."!. ولما صار امام هارون بادره بالسؤال المفاجئ:
ما فعلت بالدراعة التي وهبتك..؟ فقال ما عسى ان اصنع بها، البسها في
اوقات وأصلي فيها ركعات. عندها نظر هارون الى جليس بالقرب منه، وهو
الواشي على علي بن يقطين، وقال: يا عمر..! ما ينبغي ان تنقل على علي
بعد هذا شيئاً.. ثم أمر له بخمسين الف درهم، وأعاده اليه الدراعة.
إن الامام الكاظم عليه السلام، لم يكن يتطلع الى الحكم والسلطة،
إنما كان يريد ان يبين الخطوط المائزة بين الحق والباطل عندها تكون
مهمة المسلمين اتخاذ الموقف الحاسم الذي يقرر مصيرهم، وهذه من ابرز
مهام الأئمة المعصومين عليهم السلام، كما هي من فقرات النهضة الحسينية،
بينما كان العباسيون – تحديداً- يتصورون أن الأئمة واتباعهم من الشيعة
يخططون للسيطرة على الحكم، كما فعلوا هم مع الأمويين، لذا كانوا يشعرون
بخوف شديد من العواقب وما يمكن ان ينتظرهم من مصير مشابه لما حلّ
بالأمويين، وهذا تصور وخيال طبيعي ان يدور في مخيلة من يفعل كل شيء مع
اعدائه من اجل السلطة.
وما ينقل في هذا المجال الحديث الذي دار ذات مرة بين الإمام، عليه
السلام، وهارون، عندما حاول استمالته بإعادة "فدك" اليه، فامتنع الإمام
بدايةً، ولما أصرّ عليه، قال: "لا آخذها إلا بحدودها.." فقبل هارون، ثم
سأل عن حدودها فبدأ الامام يمسح خارطة الدولة الإسلامية شرقاً وغرباً،
شمالاً وجنوباً، عادّاً كلها من حدود أرض فدك.. الامر الذي أغاض هارون،
بيد ان الرسالة وصلت بليغة اليه والى الجميع، بأن الملك، كأن يكون
ارضاً او مالاً او سلطة، لا يساوي عند أهل البيت عليهم السلام، جناح
بعوضة، كما لم يساو عند أمير المؤمنين شيئا"، إنما الهدف هو تحكيم
القيم والمبادئ السماوية، وليس النوازع والرغبات النفسية للانسان.
ان الخشية والخوف من الحق كان تلاحق هارون العباسي، حتى مع استشهاد
الإمام عليه السلام، بعد اغتياله بالسمّ داخل السجن، فقد كان يخشى
الاتهام بتحميله مسؤولية الجريمة التي اقترفها بنفسه، وذلك خوفاً من رد
فعل الجماهير. وحسب المصادر فانه لما قضى الإمام، عليه السلام، جمع
هارون شيوخ الطالبية وبني العباس وسائر الاعيان، ووضع جثمان الإمام
امامهم، وقال: "هذا موسى بن جعفر قد مات حتف انفه وما كان بيني وبينه
ما استغفر الله منه في امره - يعني في قتله-".
هذا هو "هارون الرشيد" الذي يتزعم مملكة لا تغيب عنها الشمس، وصاحب
المقولة التي يخاطب بها السحاب: "شرقي.. غربي، أينما ذهبتي يأتيني
خراجك.."، يقف أمام جثمان الإمام متصاغراً محاولاً إبعاد التهمة عن
نفسه، بيد ان آثار السمّ على الإمام لم تخف على شيعته ومواليه، كما ان
التاريخ والاجيال لا تسجل جريمة الاغتيال في ذمة غلام مطيع ومنفذ مثل
"السندي بن شاهك" او غيره، إنما لمن تكون له المصلحة الكبرى في تصفية
الإمام الكاظم عليه السلام، والتخلّص من عقدة اللاشرعية في الحكم. |