يعاني العالم اليوم من تفشي الأمراض النفسية وارتفاع تكلفة
فاتورتها. فعلى سبيل المثال يزيد عدد المصابين بالاكتئاب عالميا بحسب
منظمة الصحة العالمية عن 350 مليون شخص. ويعد هذا المرض – بحسب
إحصائيات المنظمة ذاتها- من بين الأسباب الـ 10 الرئيسية لسنوات العمر
المفقودة عالمياً وإقليمياً، ومن المتوقع أن يكون من بين الأسباب
الثلاثة الأولى لسنوات العمر المفقودة بحلول عام 2030. إذ إن السنوات
التي يصاب فيها الإنسان بالاكتئاب لا تُعد من عمره، بل تعتبر عمرا
ضائعا ومفقودا من عمره الذي قد يقصر أصلا بسبب الوفاة المبكرة. يضاف
لذلك أن نسبة كبيرة من حالات الانتحار التي تحدث في العالم مردها إلى
الاكتئاب.
هذا المرض كما يقول المختصون عبارة عن اضطراب نفسي يمنع الفرد من
أداء وظيفته كما ينبغي، وهو واحد من عشرات الأمراض النفسية التي تفتك
بإنسان اليوم. ومن سوء الحظ أن الثقافة النفسية للمجتمعات بشكل عام لا
تزال متدنية جدا، مما يتسبب في عدم مراجعة العيادة النفسية إلا بعد
استفحال المرض واستشرائه. يقول الدكتور شيخار ساكسينا، مدير إدارة
الصحة النفسية ومعاقرة مواد الإدمان في منظمة الصحة العالمية، إن "لدينا
بعض العلاجات الناجعة للغاية من الاكتئاب. ولكن للأسف، فإن عدد الذين
يعانون من الاكتئاب ممن يتلقون الرعاية التي يحتاجون إليها يقل عن
النصف، بل إن هذه النسبة تقل في كثير من البلدان عن عشرة في المائة".
الكثير من المصابين بالأمراض النفسية يخشون أن يوصموا بذلك،
فيتجنبون الذهاب للعيادة المختصة، وقد يلجؤون بسبب ضعف الوعي للمشعوذين
والمحتالين الذين يجنون أموالا طائلة تفوق ما يحصل عليه أشهر الأطباء
النفسيين. يكتب استشاري الطب النفسي ابراهيم الخضير: وقد شاهدت ذلك
كثيراً في عيادتي خاصةً بين السيدات حيث يأخذهن أقاربهن إلى المعُالجين
الشعبيين الذين لا يعرفون في الأمراض النفسية أو العقلية شيئاً وكل ما
لديهم إما عين أو سحر أو جن. وأغلب هؤلاء المُعالجين الشعبيين جهلة لا
يفقهون شيئاً في الأمراض أياً كان نوعها، فليس لديهم أسلوب مُقنن
للتشخيص والعلاج وكل الأمور تستوي عندهم.. سواء كانت الأمراض النفسية
أو العقلية أو العضوية.
لست بصدد الحديث عن الأمراض النفسية وعلاجها، فمختصوها أدرى
بشعابها، ولستُ منهم. ومع إيماني بأن مراجعة العيادة النفسية أمر ينبغي
تطبيعه اجتماعيا، تماما كما هو الحال مع الأمراض العضوية الأخرى، حتى
يتمكن ذو الاختصاص من تشخيص الحالة ومعرفة أسبابها ومن ثم وصف الدواء
المناسب لها. أقول: مع إيماني بذلك، إلا أنني أعتقد أن الدين، من خلال
منظومته المفهومية المتعلقة بالنظرة للحياة وما يجري على الإنسان فيها
من تقلبات الأحوال، يمكنه أن يؤدي دورا هاما في الوقاية من الأمراض
النفسية. مفهوم الرضا بالقضاء والقدر لعله من ألصق المفاهيم بالصحة
النفسية. فهو إذا تمكن من قلب الإنسان، وبلغ درجة اليقين، فإنه سيقوي
دون شك جهاز المناعة لديه في مقاومة القلق والتوتر والاكتئاب وغيرها.
ولأن الرضا درجات، لأنه يرتبط بمستوى عبودية الإنسان لله، فإن
المناعة درجات أيضا. يقول تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ
اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ
أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا
وَالْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ). ولأن مستوى العبودية
مقرون بمستوى الحب لله، لذا فإن أعظم الخلق حبا لله، أي الحبيب المصطفى
(ص)، كان دائما في قمة الرضا. يقول الإمام الصادق (ع): لم يكن رسول
الله (ص) يقول لشيء قد مضى: لو كان غيره. كما كان أهل البيت أيضا
متلبسين بالرضا في كل أحوالهم، فقد ورد عنهم: إنا قوم نسأل الله ما نحب
فيمن نحب فيعطينا، فإذا أحب ما نكره فيمن نحب رضينا.
قد يتبادر لذهن البعض أن الرضا يعني الاستسلام للواقع والخضوع
لإملاءاته. هذا تحريف لمفهوم الرضا ربما يشيعه ويروج له الذين يخشون
تغيير الواقع مهما بلغ من سوء. أما الرضا الحقيقي فهو الذي يمنح
الإنسان القدرة الهائلة في مواجهة التحديات والصعوبات والعقبات، ويجعله
يزداد تماسكا وصلابة في أحرج المواقف وأعقد الظروف. الرضا الذي نتحدث
عنه والذي هو توأم الحب هو ذلك الذي يحافظ على توازن الإنسان، فلا يكون
أسيرا لتقلبات الطقس الخارجي الاجتماعي أو المادي حوله. فمن يصل لمرتبة
الرضا يحمل طقسه معه أينما حل أو ارتحل.
يقول تعالى في سورة آل عمران متحدثا عن أصحاب اليقين الذي من ثمراته
الرضا، وكيف واجهوا وسائل التخويف والتثبيط: الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ
النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ
فَزَادَهُمْ إِيمَانًا وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ
الْوَكِيلُ (173) فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللَّهِ وَفَضْلٍ
لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللَّهِ وَاللَّهُ
ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174).
وعندما تعرض النبي المصطفى (ص) في الطائف لأنواع الأذى من ثقيف
وغلمانها، خاطب ربه الكريم راضيا باحثا عن الرضا، قائلا فيما قال: فإن
لم يكن منك غضب علي فلا أبالي، ولكن عافيتك هي أوسع لي. أعوذ بنور وجهك
الذي أشرقت به الظلمات، وصلح عليه أمر الدنيا و الآخرة، من أن ينزل بي
غضبك أو يحل علي سخطك. لك العتبى حتى ترضى.
ولأنه (ص) كان كذلك، لم يتراجع أبدا أو يضعف عزمه، وواصل مسيرته في
ثبات لا يتزعزع، "فَاضْطَلَعَ قَائِماً بِأَمْرِكَ، مُسْتَوْفِزاً (أي
مسارعا) فِي مَرْضَاتِكَ، غَيْرَ نَاكِلٍ عَنْ قُدُمٍ، وَلَا وَاهٍ فِي
عَزْمٍ" كما قال الإمام علي (ع) عنه.
وتأكيدا على الملازمة بين الرضا من جهة والمثابرة على العمل من جهة
أخرى يجيب جبرائيل (ع) على سؤال لرسول الله (ص) عن تفسير الرضا في حديث
طويل، فيقول له: الرَّاضِي لَا يَسْخَطُ عَلَى سَيِّدِهِ أَصَابَ مِنَ
الدُّنْيَا أَوْ لَمْ يُصِبْ، وَلَا يَرْضَى لِنَفْسِهِ بِالْيَسِيرِ
مِنَ الْعَمَلِ.
والرضا كما ورد في العديد من الروايات يورث الراحة البدنية
والنفسية. فعن الإمام علي (ع): من رضي من الله بما قسم له استراح بدنه.
وعنه أيضا: نعم الطارد للهم الرضا بالقضاء. وعنه: إن أهنأ الناس عيشا
من كان بما قسم الله له راضيا.
فلنحرص على تناول جرعة الرضا كل يوم، فإنها وصفة الحب التي لا تخطئ
العلاج أبدا.
https://www.facebook.com/Bader.AlShabib
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة
النبأ المعلوماتية |