لم تقم إسرائيل وفي عِلمها أنها ستكون على تلّة ممهدة وهادئة، فهي
وإن اعتبرت نفسها بأنها تعود إلى الحياة من جديد على أرض الآباء
والأجداد، وأن قيامها كان بشكل قانوني، ووصفت ذاتها منذ البداية بأنها
دولة (الجنغرلاند-Jngrland) الجيّدة وسط الغابة السيّئة، إلاّ أنها
تعلم يقيناً، بأنها ستكون بأرجلٍ مرتعشة على أرض رخوة – متحركة –عاصفة
- وملتهبة في ذات الوقت – وهي مضطرة طوال مكوثها، إلى مواجهة التهديدات
المتكاثرة، التي تتربص بها من قِبل العرب عموماً ومن قِبل من قامت
بسلخهم عن وطنهم ومقدراتهم ومقدساتهم على نحوٍ خاص.
فمنذ البداية أقامت الدول العربية قوة عسكرية، تهدف إلى استرجاع
الأرض والإنسان، وكانت تأمل أن ذلك لا يحتاج الكثير من الجهد والوقت،
لإزالة الكيان الصهيوني ومحو آثاره، ولكنها بعد محاولات عسكرية هجومية
عِدّة، لم تستطع إلى ذلك سبيلاً، بسبب أن إسرائيل قد احتاطت للتهديدات
القائمة من خلال اتكائها على القوى الغربية – فرنسا على رأسها، التي
دعمت وناضلت وكانت أكثر إسرائيلية من الإسرائيليين أنفسهم في ذلك الوقت-
حيث أقامت لمواجهة التهديدات العربية الواردة منظومة أمنيّة قوية،
أتاحت لها صد وإحباط كافة المحاولات العسكرية التي قامت بها الدول
العربية والقوات الشعبية والجهادية العاملة آنذاك.
ما إن أدركت الدول العربية بعدم تكافؤ القوة، قامت إلى اعتماد (نظرية
المقاومة) المتعددة الأوجه، - المسلحة والحصار وتلك الخطوات التي تقود
إلى مقاطعة الشركات المتعاملة والتجائر الإسرائيلية المختلفة-،
باعتبارها تجمع بين نشاطات الدول والقوات الشعبية والجهادية العربية
الأخرى.
في فترة متقدمة، وطبقاً لما أملته الضرورات وأوجدته التطورات
السياسية والعسكرية المرقوبة والمفاجئة، درجت غالبية الدول العربية، لا
سيما القوية والمأمول فيها، إلى استبدال نظرية المقاومة بنظرية السلام،
بعد تمزيق أكثر الملفات شهرةً والذي كان محفوظاً فيه ثلاث كلمات وهي لا
للاستسلام، ولا للصلح، ولا للاعتراف بإسرائيل. باعتبارها العدو الأول
لاغتصابها الأرض الفلسطينية والعربية، وارتكابها جرائم حرب ومجازر
دمويةّ رهيبة وما إلى ذلك. حيث بدأت مصر- أكبر دولة – وبطريق علنيّة،
بعقد اتفاقية السلام مع إسرائيل في العام 1979، وتلتها المملكة
الأردنية من خلال خطة سلام في أواخر 1994، ثم بطُرق سريّة أقامت العديد
من الدول العربية علاقات مختلفة جيدة معها.
إسرائيل لم تلتقِ تلك العلاقات بما يناسبها، ووجدت في ضوء تلك
العلاقات أن لديها فرصة أخرى، للتمدد في المنطقة بكافتها سياسياً
واقتصادياً وأمنياً ومخابراتياً، حيث قامت بذريعة وبأخرى، وأهمها،
عمليات فدائية محدودة ضد أهداف تابعةً لها، من شن المزيد من الحروب
العسكرية وإحداث المزيد من الضرر بالنسيج العربي بشكلٍ عام.
فالأجهزة الأمنيّة والعسكريّة لديها، عكفت على بناء ردود سريعة
وجادّة وملائمة في نفس الوقت، وحروبها المتتالية (لبنان 1982، ضد
المنظمات الفلسطينية ولبنان الثانية 2006، ضد تنظيم حزب الله، والرصاص
المصبوب 2008، وعمود السحاب 2012، ضد حركات المقاومة وعلى رأسها حركة
حماس) واعتداءاتها القائمة على العنصرية والأبرتهايد، - وهناك أمثلة لا
متناهية في هذا الصدد- وكل ما تقوم به من جهود تخريب وتعطيل داخل الدول
العربية، جميعها ما هي إلاّ جزء من عملية بناء إسرائيل الكبرى أو
إسرائيل اليهودية.
بدورها، النظرية السياسية التي اختارتها القيادة الفلسطينية
لتجربتها في شأن إنهاء الصراع مع الإسرائيليين، والتي بدأت منذ إعلان
الجزائر عام 1988، ومؤتمر مدريد للسلام 1991، واتفاق أوسلو عام 1993،
والمفاوضات اللاحقة التي أعقلتها، ثبُت بأنها أيضاً لم تسفر عن شيء،
وليس هذا وحسب، بل لم يربح الفلسطينيين أي شيء، وبالمقابل إسرائيل كسبت
كل شيء.
الأمر اللافت، هو ليست نسبة المرارة التي تلقاها الفلسطينيين، بعد
عقدين من الزمن، والتي تجعل لهم من الحق أن يُعانوا جيداً من جراءها،
كونهم راهنوا على هذه النظرية والآن سقطت أمام أعينهم كجثة هامدة، لكن
الإسرائيليون أنفسهم يعتبرون أنفسهم هم من خسروا الرهان، في بذل جهدهم
من أجل السماح بتواجد سلطة فلسطينية هنا، ثم لا يجدون منها أيّة
مساهمةً في شأن التوصل إلى حل وإنهاء الصراع.
الرئيس الفلسطيني "أبومازن" وجد عزاءه الوحيد في التوجه للأمم
المتحدة، على الرغم من اعتقاد الكثيرين في كل الأوساط السياسية بلا
استثناء، بأن المكاسب التي يمكن جنيها، ليست بالمقنعة تماماً ولا تشفي
غليل، وربما (تُصاحب) أو تنعكس منافعها إلى دوارب تكون بلا حلول، وليس
من بدائل أخرى في الأمام أيضاً.
وحتى المؤشرات التي ظهرت خلال الفترة الأخيرة، من قِبل بعض دول
الاتحاد الأوروبي ومنظمات مؤيدة للقضية الفلسطينية، ضد إسرائيل، والتي
كانت نتيجة لضغوطات عربية وإسلامية وليونة واضحة من الفلسطينيين، في
أمور متعلقة بالمقاطعة الاقتصادية والسياسية والأكاديمية، وأيضاً
بدرجةٍ أشد، تهديدات في شأن إضعاف شرعية إسرائيل ككيان سياسي قائم،
باعتبارها مغايرة من حيث الجوهر بالمقارنة مع التهديدات السابقة – بسبب
أنها تحمل مميزات معنوية وماديّة وساحة العمل هي دول العالم
ومواطنيها-، في سبيل الضغط عليها أو تخويفها، يبدو أنها – المؤشرات -
لم تفلح إلى هذا الوقت أيضاً.
من جانبه رئيس الوزراء الإسرائيلي "بنيامين نتانياهو" لم يكن
مرتاحاً لنتيجة المفاوضات وهو يصارع نفسه من تلقاء نفسه، نتيجة لحالة
الجمود السياسي الراهنة، وهو قلق أكثر من تداعياته لجزمهِ، بأن الوضع
القائم ليس أمراً جيداً وقد يؤدي إلى دولة ثنائية القومية.
وعلى الرغم من تعنيفه لمسؤولة المفاوضات "تسيبي ليفني" بسبب لقائها
بالرئيس "أبومازن" في العاصمة البريطانية لندن، وبأنها لا تمثل إلاّ
نفسها، لكنه كان بانتظار سماع حرفاً واحداً، يدل على ليونة فلسطينية،
بسبب أن يشعر بأن هذه الحالة لن تستمر طويلاً بناءً على كلمات الرئيس
الأمريكي "باراك أوباما" من أنه يريد رؤية الطرفين الفلسطيني
والإسرائيلي، يألمان مدّة من الزمن فقط، نتيجة إفشالهما معاً، العملية
السياسية، وإذهاب الأشهر التسعة المقررة لإنهاء المفاوضات هدراً.
"نتانياهو" وعلى الرغم من خشيته بأنه سيلاقي المزيد من اللكم
السياسي من جهات داخلية وخارجية مختلفة، مازال يتعمّد القوة والعناد
معاً، يتوضحان في تلويحه ببدائل أخرى عن المفاوضات ولا يهمّه فيما إذا
كانت مؤذية، فقد أعلن بأنه يريد سماع أفكار جديدة من وزرائه في
الائتلاف، حول خطوات سياسية بالإمكان اتخاذها، في ضوء تجميد المفاوضات،
واتفاق المصالحة بين حركتي فتح وحماس، وبرغم عدم لجوئه إلى التحديد
حينها لطبيعة الخطوات السياسية التي يرغب بدراستها، لكن أطلق عدة وزراء
تصريحاتٍ، تشير إلى أن الحكومة تدرس بدائل لعملية المفاوضات، ونضح عنها
ما يتواءم مع أفكاره والتي تشير إلى فرض حلول أحادية، والتي ستعمل في
حال القيام بها، على جلب تهديدات أخرى، وعلى نطاقٍ أوسع، وهي ليست
بالضرورة تلك المنحصرة في الإطار الرسمي، والتي ربما لن تكون لها أيّة
حلول. |