تصدير التطرف الديني والمردود الكارثي

محمد علي جواد تقي

 

شبكة النبأ: طوال الفترة الماضية، ربما كان المسؤولون السعوديون يشعرون بنوع من الفخر والاعتداد وهم يقلبون اسماء المدن والبلاد التي يسود فيها الفكر السلفي – الوهابي، في مناطق من العالم الإسلامي.. وكانوا يعدون انفسهم في مأمن من التأثيرات الخارجية على الذهنية العقائدية لديهم في الداخل، فلا خوف على "الوهابية" و"السلفية" في الداخل السعودي، بعد أن تمكنوا من تصديرهما الى الخارج، وهو ما يفترض ان يشكل امتيازاً يعزز الوضع الداخلي، بيد أن المفاجأة جاءت عندما يجدون أن القاعدة الجماهيرية التي يستندون إليها، عبارة عن أرض رملية ساخنة ومتحركة في آن، حيث يجدون في أرض الحرمين الشريفين وعلى مقربة من بيت الله الحرام، من يراجع نفسه وقناعته بكل ما سمعه عن الدين الاسلامي من رجال الدين التابعين للبلاط، ويشكك في صحة كل قيل ويقال عن الاسلام عندهم.

هنالك دوافع عديدة لنشر الفكر السلفي الى بعض البلاد العربية والإسلامية، وتحويلها فيما بعد الى "سلفية جهادية"، لعل أقربها الى التصور، حرص السعودية على ايجاد مساحات نفوذ تساعدها على تمرير سياساتها وفرض مصالحها على الآخرين. من هذه الدوافع، التنافس المحموم على النفوذ مع إيران، لاسيما في البلاد ذات الأهمية الإستراتيجية، مثل باكستان وأفغانستان ثم بلاد القوقاز، وفي مرحلة لاحقة، العراق ولبنان وسوريا، وحتى بلاد المغرب العربي وبعض البلاد الإفريقية.

لقد استغلت السلفية والوهابية الأجواء غير الطبيعية في بعض البلاد، حيث القمع والاضطهاد، والتمييز التهميش العرقي والطائفي، ربما مثالنا البارز هنا، بلاد القوقاز التي عانت طوال عقود من الزمن، من الاضطهاد والقمع الروسي، منها الشيشان وداغستان، وغيرها.. فعندما تتحدث السلفية عن "الجهاد" فانها تكون في نظر السكان المحليين المنسيين في القرى البعيدة، بمنزلة الفارس المنقذ، أو الطريق نحو استعادة كرامتهم. فمن القرى النائية في داغستان والشيشان، ترعرع الشباب الانتحاريون الذين نفذوا عملياتهم داخل روسيا، أو في العراق و سوريا.

وبما أن حالة الفقر والتخلف، تُعد من عوامل نشوء الإرهاب الطائفي، فقد استغلت السعودية هذه الثغرة لتكريس وجودها في مناطق الحرمان والتخلف، فنراها تبذل الملايين لبناء المساجد وتشييد المؤسسات الخيرية والتربوية، وتصدر رجال الدين (المبلغين) مع كميات هائلة من الكتب والاصدارات الثقافية، الى جانب المصحف الشريف الذي ثبتوا عليه اسم "الملك السعودي" على أنه الراعي لمشروع الطباعة والنشر والتوزيع المجاني. وهكذا وصل الفكر السلفي – الوهابي محمولاً على الريال السعودي ومختلف انواع المساعدات.

لكن يبدو ان المعنيين في الرياض فاتهم، أن هنالك فرقاً كبيراً بين الانسان الساكن في باكستان او في الشيشان او بعض المناطق الصحراوية المنقطعة عن الحضارة والعلم والمعرفة، وبين الانسان الساكن في السعودية، فاضافة الى دخول وسائل الاتصال السريعة والمجانية بفضل "النت"، فان المجتمع السعودي بالاساس يحمل جذور حضارية كونه يعيش على مقربة من مهد الحضارة الاسلامية، فمن المعيب ان يبقى متخلفاً ثقافياً، يُملى عليه من قبل عدد من مشايخ البلاط ما يجب عليه فعله او تركه، وما عليه سوى الطاعة.

ثم ان مفارقة مهمة على الصعيد النفسي والاجتماعي كانت عامل فجر ازمة الثقافة الدينية في السعودية، فالمجتمع السعودي يعد انه الاكثر حظوة بالكرامة والعزّ، نظراً لوضعه الاقتصادي والمكانة السياسية للبلد اقليمياً ودولياً، وإذا به يجد نفسه على حين غرّة، يتعرض لأبشع الاهانات والتعديات على يد عناصر "الهيئة"، الذين يرفعون شعار تطبيق إحدى فروع الدين، وهي الامر بالمعروف والنهي عن المنكر، لاسيما ما يتعلق بالمرأة و طريقة تحركها في الشارع او بعض الممارسات والسلوكيات للمواطن السعودي. وعلى مدى سنوات من التقاطع المستمر أدى تفاقم المشكلة لابتعاد لشريحة واسعة من المجتمع السعودي عن الدين لاسيما بين اوساط الشباب، فوجدوا ضالتهم في بعض المفاهيم الغربية مثل الليبرالية والعلمانية وحتى وصل الامر الى الإلحاد والتشكيك بوجود الخالق..! وما قضية قيادة المرأة للسيارة، إلا واحدة من افرازات هذه الازمة المستدامة بين المؤسسة الدينية المدعومة من البلاط، وبين عامة الناس.

وذات مرة، تحدث احد الشباب الذين تتهمهم السلطات السعودية بالتجديف والإساءة الى الدين، في مقطع فيديو على النت، عن حسرته الكبيرة لعدم سماعه يوماً احد رجال الدين السعوديين يتحدث عن "المواطن السعودي" وهمومه ومشاكله وطموحاته.. وهنا مربط الفرس.. حيث تصورت المؤسسة الدينية السعودية، ان ما توفره الحكومة من مستوى جيد من الخدمات وتوفير حياة مرفهة لشريحة خاصة من المجتمع، يغنيها عن ايجاد جسور العلاقة مع المواطن السعودي، وربما رسمت له صورة ذهنية، بانه ليس سوى مجموعة من الغرائز والنزعات والحاجات اليومية، ولا وجود للعقل والتفكير، علماً ان السعودية تعاني منذ فترة طويلة من معضلة البطالة في صفوف الشباب الى جانب عجز الحكومة عن السيطرة على الاسعار في السوق، حتى بلغ الامر سوءاً ان يتدخل الملك عبد الله بنفسه لأن يدعو التجار الى التخفيف من حدة ارتفاع سعر الأرز، والامثلة على ذلك كثيرة، في مجتمع يعتمد في دخله القومي على النفط بنسبة كبيرة، فيما تبقى نسبة بسيطة على الانتاج والتصدير. وعدم وجود التخطيط الصحيح والبرمجة لتوفير فرص عمل للخريجين والشباب، الامر الذي خلق مساحة واسعة جداً من الفراغ النفسي والشعور بالضياع واللامسؤولية والعبثية، وهو بدوره مهد الطريق لأن يتقبل المجتمع السعودي مختلف الانماط السلوكية والثقافات الوافدة عبر وسائل الاعلام والاتصال السريعة.

واذا كانت بعض وسائل الاعلام الغربية تتلهف في نشر اخبار وتقارير عما تصفه بانتشار حالة "الإلحاد" في السعودية، فان الحقيقة ربما تكون أقل مما يُشاع ويهدف اليه الاعلام الغربي، من وجود تراجع في الايمان والعقيدة في بلد يدّعي انه يحتضن قبلة المسلمين، فالاحاديث التي يدلي بها الشباب المتذمر والمتمرد في السعودية تعبر بوضوح عن حالة الكبت والتهميش وهدر الكرامة التي أدت بهم الى نتائج ربما لم يكن يتوقعوها. فمنهم يتحدث بتهكم عن الفارق بين "عيد الحب" الذي يحتفل به الكثيرون في العالم، وبين "هيئة الامر بالمعروف معلمتنا الفضيلة والحريصة دائماً على أن يكون جميع افراد الشعب السعودي من أهل الجنة.."!. هذه العبارات رصدتها الجهات الامنية السعودية من مواقع الكترونية للمدان بالإلحاد "أحمد رائف"، وعلى اساسها تمت ادانته والمطالبة بإعدامه.

وبالامكان متابعة ما يكتب من أمثال "أحمد رائف" في المدونات ومواقع التواصل الاجتماعي وملاحظة حجم الفراغ العقائدي والنفسي وتأثرهم بالافكار الفلسفية والغربية ومحاولتهم صياغة وعي وثقافة جديدة حتى وإن كان مصدرها يتنكر للدين الاسلامي ولقيمه ومبادئه، لأنهم بالاساس لم يجدوا الصورة المشرقة لهذا الدين خلال حياتهم. يقول أحدهم لوسائل الاعلام: ".. ان الحيرة والشك جاء بسبب إغلاق منافذ الفكر وتطبيق الدين بطريقة قاسية ومتشددة لا تراعي عقلياتنا نحن الشباب، ولا تتماشى مع أسلوب حياتنا الجديدة التي تفضل حوار العقل والمنطق".

ان الفكر السلفي – الوهابي الذي لا يعترف بالمؤسسات الاجتماعية والعمل المنظم وإعمال الفكر والتدبّر في الحياة، ويعد الجميع مثل قطيع الماشية يُساق حيث يُراد له، هو الذي يدفع -بالحقيقة- أولئك الشبان من أقصى القوقاز الى أقصى نيجيريا وفي بلاد اخرى الى الانتحار تحت شعارات دينية، والهدف هو تحقيق الذات بالموت العنيف والبشع، والخطأ نفسه يقع فيه المواطن السعودي، عندما ينتحر فكرياً وعقيدياً وللهدف نفسه، فهو لا يعبأ بأن يتهم – ربما جزافاً- بالإلحاد والتنكّر للدين، علماً ان معظم هؤلاء الشباب يقولون انهم "مسلمون" ويلتزمون بالأحكام الدينية.

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 21/آيار/2014 - 20/رجب/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م