توزيع القدرة.. من قاموس الإمام الشيرازي

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: منذ العام 2003 وبعد سقوط النظام السابق، يبحث العراقيون عن الاستقرار، لكنهم حتى الان وكما تشي به الاحداث قد اضاعوا بوصلة الطريق لهذا الاستقرار، رغم ما تحصلوا عليه من مقدمات ديمقراطية للتغيير، او بمعنى اخر، ما امتلكوه من ادوات قادرة على تغيير أوضاعهم وواقعهم باتجاه الاستقرار. 

العراق مثله مثل كل البلدان العربية والمسلمة، يمتلك منظومة ثقافية تتشابه في الكثير مع منظومات البلدان الاخرى، مثل الاجتماع والدين والسياسة، وهي تعد فاعليات لها تاثيرها الكبير في المجتمع العراقي، سواء في مرحلته الزمنية السابقة، او مرحلته الزمنية الراهنية، حيث اعادت امتلاك فاعليتها التي غيبتها عقود من الممارسات التعسفية والمستبدة لانظمة الحكم في العراق.

تتوزع في المجتمع العراقي، ثلاث قوى فاعلة، واتحدث عن الزمن الراهن، وهي:

(الفقهاء المراجع – والعشائر – والأحزاب). ولا يقتصر الامر على الأغلبية السكانية في العراق وهم الشيعة، بل يتعدى ذلك الى السنة كمكون مذهبي، والاكراد كمكون قومي، حيث تمتلك الفاعليات الثلاث القدرة على التاثير في حركة مجتمعاتها المحلية.

انشغل العراقيون، كافراد وجماعات، ومثلهم السياسيون في التنافس والصراع على السلطة والنفوذ طيلة السنوات اللاحقة على تغيير نظام الحكم، وهو تنافس وصراع ادى فيما ادى اليه، الى اقتتال طائفي بين ابناء البلد، وفي عقود سابقة الى اقتتال قومي، لم يحصد منه العراقيون سوى المزيد من الخراب والدمار.

في كل الأزمات، عادة ما تكون الحلول موجودة، لكن الجميع لا يحاول الاقتراب منها والاستفادة من فاعليتها، بل يعمدون الى البحث عن حلول من خارج النسق الثقافي او المنظومة الاجتماعية والدينية والسياسية للمجتمع العراقي تحت دعاوى عديدة، ليس اقلها انها تتنافى مع الدولة المدنية او حكم القانون او فصل الدين عن السياسة.

التجارب العديدة اثبتت ان كل حل بعيد عن الفاعليات الموجودة على الساحة العراقية، يزيد من تعميق الازمة، ومن النخر في النسيج الاجتماعي العراقي وزيادة الفرقة والتشتت.

حين كانت المعارضات العراقية في التسعينات من القرن الماضي، منشغلة باصدار البيانات النارية، ضد حكم صدام حسين، ظنا منها انها كفيلة باسقاطه، ولم تفكر يومها عن اللحظة الاتية للحظة الاسقاط، كان المرجع الراحل الامام الشيرازي (قدس سره) يفكر بتلك اللحظة، وينشغل بمآلات الامور وما يمكن ان تفرزه من تداعيات.

في كتابه (من عوامل الاستقرار في العراق) يتحدث الامام الراحل مبكرا عن مفهوم سياسي جديد افتقدت له الساحة العراقية، سواء في زمن النظام السابق، او زمن النظام السياسي الجديد، بعد بروز تلك الفاعليات واخذ دورها في التاثير على مجمل الاحداث.

انه مفهوم (توزيع القدرة) بين ثلاث طوائف رئيسية هم:

(الفقهاء المراجع – والعشائر – والأحزاب).

توزيع القدرة، هو المنافسة الايجابية على الفعل، والذي لا يكون الا بتعدد الفاعلين، وامتلاكهم للقدرة على هذا الفعل. وكان التعدد موجودا من خلال وجود أكثر من مرجع فقيه على الساحة الدينية، يتنافسون فيما بينهم على تقديم كل مامن شانه ان يرتقي بحياة مقلديهم وتابعيهم.

وهو تنافس (على البر والتقوى والتقدم والتقديم)، فكان كل واحد منهم يبني مدرسة ويربي طلبة ويهيّئ الكتب ويؤسس المكتبات وما إلى ذلك.

كل منافسة ايجابية، كما يذهب الى ذلك الامام الشيرازي، (توجب كل خير ورفاه، كما توجب تقديم الأفضل فالأفضل، والأكفأ فالأكفأ، بخلاف الاستبداد والدكتاتورية فإنه بالعكس من ذلك يوجب تقديم الأسوأ فالأسوأ والأقل كفاءة فالأقل، لأن ميزان المنافسة الحرة هي الحقائق والواقعيات والكفاءات).

الافضل والاكفأ، يقترن بالحرية وممارسة الاختيار للناس جميعا، وهذا الاختيار الحر يجعل من جميع الناس يقبلون (على مزيد من الفضيلة، بينما الاستبداد الذي يصادر حريات الناس في الاختيار، (يعطي الأفضلية لمن يصفق للرئيس أكثر فأكثر، ويمتثل أوامره أسرع).

الفاعل الثاني على الساحة، وهو الفاعل الاجتماعي، فهي العشائر التي كانت القوة الثانية التي أوجبت الاستقرار في العراق، من خلال تنافسها في الزراعة والعمارة والتجارة والثقافة وتقليد المراجع واتباع علماء الدين وإقامة الشعائر وما أشبه ذلك. 

الفاعل الثالث، وهو فاعل سياسي، يعبر عن نفسه من خلال الأحزاب شبه الحرة في العهد الملكي، وهي رغم انها لم تكن حرة بالكامل، كما يرى الامام الراحل، الا انها (كانت تتنافس بينها مما سبّب الاستقرار للناس وأمن البلاد نسبياً، فكل حزب كان يترصّد للحزب الآخر أي خطأ صغير حتى يريه للناس ليجلب الناس إلى نفسه).

ومن فؤائد وجود الاحزاب والتنافس بينها، انها تمنع من ظهور الحاكم المستبد، لهذا لم تعرف تلك الفترة، الا فيما ندر، ممارسات تعسفية ضد المواطنين، (ولم تكن في ذلك الزمان حادثة مصادرة أموال أو إعدام أو سجن أو ما أشبه إلا قليلاً وكانت الأسواق مزدهرة والبناء قائماً على قدمٍ وساق، والأمن مستتباً والتجارة تصدر وتستورد بحرية، والمدارس والجامعات والمكتبات وما إليها آخذة بالنمو وكذلك كان حال سائر المرافق أمثال الطب والهندسة والقضاء وغيرها).

النتيجة المتحصلة من توزيع القدرة التي يصل اليها الامام الراحل ويؤكد عليها، هي: (أن تقسيم القدرة بين هذه الطوائف الثلاث، ثم تقسيم القدرة التي بيد كل طائفة بين أحزاب وعشائر وعلماء ومراجع سبب استقرار العراق استقراراً قليل النظير وذلك رغم ارتباط الحكم بالاستعمار ورغم سلبياته الكثيرة إلا أن العلماء والعشائر والأحزاب كانت تقف سدّاً أمام تنفيذ كل مآربه، ولا يرجع العراق إلى الاستقرار إلا بهذه البنود الثلاثة وأمثالها).

شبكة النبأ المعلوماتية- الأربعاء 21/آيار/2014 - 20/رجب/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م