الهدم والبناء والقابلية على العنف

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: حين تكون القدرة على الهدم لدى الانسان اكبر من قدرته على البناء، يحدث العنف وقتها.

في لحظة ما، حملت انتفاضات الربيع العربي، وهي انتفاضات لم تأخذ حيزا كافيا من الاهتمام بها ودراستها، لأننا لازلنا تحت تأثير مفعولها "الاسلاموي السياسي"، وما جرّته من مفاعيل اخرى ليس اقلها حدوث شرخ معمق في بنية النسيج المجتمعي للشعوب العربية.

في لحظة ما حملت تلك الانتفاضات، حلما بالخلاص من كل القيود التي كبلتنا طيلة عقود طويلة، لكن تسارع الاحداث كشف لنا كم اننا شعوبا لا نتقن غير الهدم، ولا نحسن البناء فوق ما نهدمه.

قد يكون صحيحا القول ان كل الثورات والانتفاضات في التاريخ، تستدعي بشكل واخر مقدارا معينا من العنف المكبوت الذي ينفجر في لحظة ثورية معينة، ويطمح الى أن يزيل من أمامه كل ما ثار ضده، لكن يصح ايضا، ان كل الثورات والانتفاضات تقوم من اجل بناء عالم اخر مغاير يسبق لحظة انطلاقها، وتؤسس معابر اخرى لانسداد الافاق امامها قبل لحظة التغيير.

لكن واقع الحال في بلدان تلك الانتفاضات والثورات يشي بغير تلك البديهيات المعروفة عن جوهر الفعل الثوري.

لعل العنف الذي بلغ مستويات مفزعة كنتائج اولية لهذا الحراك الثوري، يستبطن في داخله حجم العنف الذي حاولت الانظمة المستبدة السيطرة عليه من خلال احتكارها هي نفسها للعنف الشرعي وهو عنف سلطاتها واجهزتها القمعية.

وكأننا ينطبق علينا القول (لا تكن كحمار الرحى يسير، والمكان الذي ارتحل إليه هو الذي ارتحل منه).

نحن عند نقطة الانطلاق بل ربما بعدها بمسافة كبيرة، وكأن حلم الخلاص قد تحول في لحظة الى كابوس مقيم. هل لهذا يترحم الكثيرون على انظمتهم السابقة، رغم استبداها وبطشها، كالعراقيين مثلا؟

ليست الثورات والانتفاضات هي وحدها التي ساهمت بهذا الكم من العنف المنفلت، رغم تزامنهما معا، سبقها ولحق بها، عنف كثير وزع خرابه ودماره على اكثر من مكان في عالمنا، وكأن هؤلاء الذين يمارسون هذا العنف لا يتقنون لغة اخرى غيره، فالهدم اسرع في التأثير، وهو الابقى في الذاكرة، تلك الذاكرة التي ترتق ما تهدم من بنيانها بمزيد من التهديم.

في السنوات الاخيرة من القرن الماضي، وفي سنوات المفتتح من القرن الحالي، احتكرت القاعدة مشهد العنف، ثم تآكلت تدريجيا لتظهر داعش وتسيطر على هذا المشهد العنفي، الذي اخرجته الى السطح الاحداث السورية على انقاض انتفاضة، لم تجد غير السلاح لغة لشعاراتها، حين اختطف الاسلاميون في لحظة معينة تلك الشعارات وشرعوا برفع بنادقهم لاجل الهدم، هدم كل ما امامهم. وهو في صلب فلسفة تلك الحركات، معاداة الجميع والغاءهم، وهدم كل اختلاف او تعدد.

في المشهد وحتى في خلفياته، ما يثير الدهشة حقا، تكشف احدى الوثائق الرسمية الباكستانية، أن 60 في المئة من الذين تمت تبرأتهم من تهم الإرهاب، يشاركون اليوم في أنشطة إرهابية ضد السلطة الباكستانية. وتكشف احدى وثائق وزارة الداخلية العراقية، أن 4000 عربي فجروا أنفسهم في العراق حتى الآن.

ما تكشفه تلك الارقام، وارقاما اخرى قد نجده في دول عربية ومسلمة غير باكستان والعراق، ان هؤلاء الذي يعاودون القيام بنفس الافعال التي ادينوا بها ويطلق سراحهم، لا يعرفون غير لغة الهدم في معارضتهم لسطات بلدانهم، ولا يعرفون غير تلك اللغة، التي تهدمهم وتهدم حياة غيرهم في العراق، ولم يوفروا لانفسهم لحظة واحدة للبحث عن طريق اخر، لانه باعتقادهم طريق صعب الاجتياز وهو طريق البناء.

على المستوى الروحي والمعنوي، يعيش الانسان متلازمة الهدم والبناء في جميع ادوار حياته، فهو يبني ويهدم، يهدم ويبني، أفكارا ومعتقدات واعرافا وتقاليدا، من خلال محيطه الاجتماعي، الذي يأخذ منه الكثير في تكوينه الروحي والمعنوي والنفسي.

على هذا المستوى، تكون درجات القلق والتوتر في اقصى مدياتها، لكنه قلق وتوتر يستنهض ارادة البناء على ما يمكن تهديمه، لاجل الافضل، وهو ما يكون هاجس الانسان السوي.

لكن اخرين بالمقابل، يكون القلق والتوتر منصبا على تحطيم وتهديم كل خير في نفوسهم اولا، ولما كان الهدم والتحطيم والغبار المتصاعد منهما يحجب الرؤية، فانه يمتد الى الاخرين، لمصادرة القدرة على البناء منهم. في تلك اللحظة المتعارضة يحدث العنف.

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 20/آيار/2014 - 19/رجب/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م