الذاكرة

اعداد: حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: كثيرا ما يجري الحديث عن الذاكرة الجماعية للشعوب، وهو حديث تثيره مواقف سياسية او ثقافية، كما حصل مؤخرا، حين نشرت مجلة "Business Insider" الأمريكية، تقريرًا حول 6 مشاهير حذفت صورهم مع قادة عالميين من الذاكرة التاريخية الرسمية لبلدانهم.

بدأت المجلة مع اخر حادثة من هذا القبيل، والتي جرت بعد الإعلان عن إعدام جانج سونج، عم الزعيم الكوري كيم يونج أون ومستشاره السياسي المقرب في العام 2013، حيث قامت وسائل الإعلام الكورية الرسمية بحذف صوره من الأرشيف الإلكتروني والمصور، لتصبح أكبر عملية حذف تتم في تاريخ وكالة الأنباء الكورية الرسمية.

مرورا برئيس الشرطة السرية الروسية في عهد جوزيف ستالين، نيكولاي إيفانوفيتش، الذي وصفه مؤرخو الفنون بـ "المفوض المتلاشي"، بعد اختفاء صوره منذ إعدامه في عام 1940.

وكذلك جوزيف جوبلز وزير الدعاية السياسية لأدولف هتلر الذي رافقه حتى الدقائق الأخيرة من حياته، إلا أنه تم حذف مشهد ظهوره في إحدى الصور الشهيرة له مع "هتلر" التي تم التقاطها في عام 1937 بمنزل الفنانة الألمانية ليني ريفنستال.

وهناك ايضا ليون تروتسكي رفيق فلاديمير لينين قائد الثورة البلشفية الروسية، الذي تم حذفه من الذاكرة المصورة من قبل ستالين، ونُفيَ تروتسكي في نهاية المطاف من الاتحاد السوفيتي تماما.

وايضا القائد العسكري الصيني "بو جو" الذي خرج من صورة مشتركة جمعته مع الزعيم الصيني.

واخيرا جريجورى نيلوبوف رائد الفضاء الروسي الذي تم طرده من برنامج الفضاء السوفيتي، بسبب تعاطيه الكحول، وهو ما يرجح حذف صوره من سجلات البرنامج، وتوفي في حادث قطار اعتبر في نهاية المطاف انتحارًا.

اربعون عاما هي المدة الحاسمة في عمر الذكرى الجماعية، كما يذهب الى ذلك (يان أسمن) في كتابه (الذاكرة الحضارية). وهو يميز بين اربعة مجالات للبعد الخارجي للذاكرة الإنسانية هي:

الذاكرة القائمة على التقليد، وهي التي تختص بالفعل الذي نتعلمه عن طريق التقليد.

ذاكرة الاشياءالتي تعكس صورة للانسان عن نفسه.

الذاكرة الاتصالية، التي تقوم على اللغة والاتصال، وهما لايطورهما الانسان من داخله، وانما بالتبادل مع الاخرين.

الذاكرة الحضارية، وهي الاطار الذي تلتقي فيه المجالات الثلاثة المذكورة اعلاه.

ما هي الذاكرة؟

عملية عقلية عليا في حياة الانسان، تعتمد عليها عدد من العمليات (الإدراك، والوحي والتعلم والتفكير وحل المشكلات والتحدث). الوجه المقابل للذاكرة هو النسيان.

يرتبط بالنسيان، ابادة الذاكرة والهوية، وهو ماتقوم به الكثير من النظم السياسية المهيمنة والمستبدة، ويتجلى ذلك، في نظام معسكرات الاعتقال حيث تقوم السلطات قبل تصفية المعتقلين الجسدية، بازالة اسماء هؤلاء المعتقلين، باعطاءهم ارقاما بدل اسمائهم، وتكون الابادة هنا هي معاداة الذاكرة، كما يذهب الى ذلك بوريس هالبوكس في كتابه (الاطر الاجتماعية للذاكرة).

يعرف نوربيير سيلامي الذاكرة في (المعجم الموسوعي في علم النفس، دراسات نفسية وفلسفية) انها (الوحدة الرئيسية للتعامل مع المعلومات عند الإنسان فهي التي تمر بها مراحل القرارات التي يتخذها الشخص سواء كانت قرارات معرفية، نفسية، اجتماعية أو حركية).

يرتبط بالذاكرة فعل (التذكر) والذي يعني (التفكير أو الإحساس بشيء ما، كان معاشاً في الماضي، ولم نحاول نحن أن نفكر فيه قبل ذلك. أي هو فعل إرادي مقصود وليس توارد خواطر يتم من تلقاء ذاته). كما يذهب الى ذلك وليم جيمس.

ولا يحدث التذكر، في معظم الأحوال، إلا إذا وجد مؤثر يستثيره. ولهذا السبب يعرف العلماء التذكر على أنه (استجابة مكتسبة لمؤثر سابق لها) كما يذهب الى ذلك، مصطفى حجازي في كتابه (سيكولوجية الإنسان المهدور ).

وغير التذكر، هناك التذكير وهو (عملية تحفيز خارجي من مؤثر آخر يقوم بدفعك للتذكر طوعا أو كرها، حيث يستعين الإنسان بمن يذكره على ما نساه في بعض الأحيان أو ان يقوم الآخر بعملية التذكير من تلقاء نفسه لأغراض مختلفة).

في التفريق بين الذاكرة والتاريخ، يستحسن ان نعود الى ماكتبه المؤرخ الفرنسي، (جاك لوغوف)، الذي وصف الحالة المعرفية لكلٍ منهما: (يغلب على خطاب الذاكرة التاريخية الجماعية، سواء جاءت تعبيراتها شفوية وبالرواية المحكية، أو جاءت نصوصاً متواترةً ومتناقلة بالإسناد، يغلب عليه (أي على خطاب الذاكرة) السمات التالية: الأسطرة، خلط الأزمنة، بل أيضاً استحكام المخيال فيه و(استدخاله) انفعالات وعواطف هي من إنتاج حاضر اشتغال الذاكرة وإحيائها في لحظة من لحظات الزمن، حيث تستحضر خزانة الذاكرة من صورها، ما يفرح أو يريح إذا كانت لحظة الاستحضار في الزمن المعني مفرحة أو مرضية، أو تستحضر ما يحزن وما يغضب وما يثير إذا كانت لحظة الاستحضار مؤلمة ومؤججة للصراع والعنف).

أما التاريخ، والمقصود هنا علم التاريخ، فهو البحث الهادف إلى معرفة وضعية للظروف والعوامل والسياقات مساعدة على فهم الذاكرة وصورها وطريقة اشتغالها لموضعتها في مكانها وزمانها، وعقلنتها، وهضمها. إذاً الذاكرة قد تكون، ولعله من الضروري أن تكون موضوع درسٍ للمؤرخ، لا مرجعية معرفية معتمدة.

ما الذي يدفعنا الى التلاعب بالماضي وبالتالي الى تغيير الذاكرة؟ يتساءل ريتشارد لونثال، في كتابه (الماضي في بلاد أجنبية). ويجيب بقوله: إننا نغير الماضي لكي نصبح جزء منه، ولكي نجعله أيضا ملكا لنا.. وغالباً ما نغير الماضي من اجل (تحسينه) بتضخيم الجوانب التي نجدها ناجحة أو فاضلة أو حسنة، وبالاحتفاء بما نفخر به، وبإهمال كل ما هو وضيع وقبيح ومخجل فيه.

ماذا عن الذاكرة والتاريخ في الحالة العراقية؟

يمكن ان نلمس ماقامت به الدولة البعثية التي امتلكت القدرة الدولة على تحقيق الإجماع حول رؤيتها للماضي وسهلت إنشاء مجموعة من الأساطير التأسيسية الجوهرية للشعور بالهوية الجماعية.

وهذه القدرة يسميها غرامشي (الهيمنة) وهي محاولة من قبل النخب السياسية لتعميم مصالحها على الجماهير كافة، حيث لا تنطوي الهيمنة على مجرد سعي لاستحصال تأييد المجموعات المضروب عليها بالهيمنة عن طريق تشجيعها على تبني قيم النخب الحاكمة ومعاييرها حسب، بل أنها سعي أيضا لتوليد مجموعة من الأساطير التاصيلية التي تؤسس لمخيال وطني وتحدده.

يقوم (اريك دافيس) في كتابه (مذكرات دولة) بتفكيك هذه العلاقة بين الهيمنة والذاكرة الجماعية والتاريخ، التي مارسها حكم البعث العراقي، وهو يرى إن (المجتمع المتخيل) الذي تمت صياغته من قبل البعث كان اعتماده على المخيال التاريخي اكبر من اعتماده على الصياغة الأيديولوجية لمخططات دولة الأمة المعاصرة، وهذا المخيال الذي يركز دائما على ما يسميه العصر الذهبي للعرب أبان الإمبراطورية العباسية (750-1258) لم يكن يقصد منه ان يوحي بالتماثل بين عظمة الماضي والمجد الذي يفترض ان يحققه العراق في ظل حكم البعث حسب، بل قصد منه أيضا، ان يشجع على انعدام الثقة بين اثنيات العراق الأساسية. فاحدى استراتجيات انجاز الغاية الأخيرة تتمثل في اثارة الجدل على نحو غير مباشر بان (الشعوبيين)، وهم الشيعة الفرس المستعربون الذين كانوا يشكلون لب البيروقراطية العباسية، قد عملوا على نخر الامبراطورية من الداخل متسببين بانهيارها في النهاية، حيث كانت رسالة النظام إلى السنة في العراق تتمثل في ان الشيعة، الذين كانوا مزدوجي الولاء وليسوا محل ثقة في ظل الدولة العباسية، لا يزالون أيضا محل شك في الحقبة المعاصرة. اما رسالة الدولة للشيعة فتتمثل في انه ليس أمامهم سوى التبرؤ من تراثهم الثقافي لكي يصبح بإمكانهم ان يتمتعوا بالمزايا التي تمنحها الدولة، وفي الواقع، لم يحقق أي بروز سياسي في ظل البعث سوى أولئك الشيعة الذين فعلوا ذلك فكرسوا أنفسهم لخدمة النزعة القومية العروبية.

عدم الثقة هو ماعبر عنه مسعود برزاني في احد لقاءاته مع فضائية العربية السعودية بقوله: (الشيعة يخافون من الماضي والسنة يخافون من المستقبل والكورد يخافون من كل شيء).

ما الذي يمكننا عمله للخروج من تلك الذاكرة القاتلة؟

في بحثه المعنون (الذاكرة والتأريخ والنسيان) يذهب بول ريكور الى مايسميه (مشكلة واجب تحقق الذاكرة) أو (واجب أن لاننسى)، وهو ( غالبا مايكون هو تلك المطالب التي يتقدم بها ضحايا تأريخ أجرامي، وتسويغه الأعلي هو التحريض علي العدالة المستحقة للضحايا).

ويعتقد ريكور ان ممارسة العفو تأتي في المقدمة، وهي ممارسة اول مابدأت من خلال المرسوم الصادر في أثينا عام 403 قبل ميلاد المسيح الذي منع بموجبه ذكر الجرائم المقترفة من قبل الطرفين، جرائم نسميها ((تعاسة)) فقد نص التعهد الذي يجب أن يعلنه المواطنون واحدا واحدا ((لن أذكر التــــــعاسات)).

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 17/آيار/2014 - 16/رجب/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م