اسباب تصاعد النزعات القومية الحالية في اوربا؟

حاتم حميد محسن

 

ان تصاعد النزعات القومية في عدة اجزاء من اوربا مرتبط بتزايد الوعي الذاتي بالهويات الثقافية المحلية. البعض يرى ان انتعاش اللغات المحلية، مثل اللغة الايرلندية، والاسكتلوندية الغالكية واللغة الكاتولينية، والاهتمام المتزايد بالرموز الثقافية التقليدية، عزز الاحساس بالانتماء القومي في العقود الاخيرة. كان صعود الحزب الاسكتلندي القومي خصيصاً والتأييد لإستقلال اسكتلندا مترافقا مع انبعاث الشعور القومي هناك. وبالرغم من ان الاستقلال الاقتصادي لإسكتلندا لا يبدو راسخا في المدى البعيد لكن الاسكتلنديين اذا ارادوا حقا الاستقلال لأسباب سياسية وثقافية، فلا بد ان يسعوا اليه لأن كبريائهم الوطني يبقى فوق كل شيء آخر.

ورقة جديدة صدرت عن جامعة غلاسكو للكاتب Jim Tomlinson (1) ترى ان هذه الصحوة في المشاعر والتوجهات الانفصالية ربما تعود جزئيا الى عوامل اقتصادية. ان اكتشاف كميات هائلة من البترول تحت بحر الشمال في الستينات والسبعينات من القرن الماضي والأداء الفقير للاقتصاد الاسكتلندي في ظل ادارة تاتشر في الثمانينات عزز مشاعر الانفصال عن بريطانيا.

لكن السيد توملسون يذهب أبعد من هذا. يقول ان الانحدار في القطاع الصناعي الاسكتلندي وتأثير "التقوقع الاقليمي" deglobalisation(2) في القرن الماضي جعل الاسكتلنديين اكثر ميلاً للعزلة، وان ما يحدث في ادنبرة (عاصمة اسكتلندا) حاليا يبدو اكثر اهمية للاسكتلنديين العاديين منه الى ما يحدث في لندن او في نيويورك او كلكتا.

وحتى اواخر الخمسينات من القرن الماضي لم يكن الوضع هكذا، كانت اسكتلندا اكثر اجزاء العالم تكاملا مع الاقتصاد العالمي. في ذلك الوقت، انتجت اسكتلندا كميات من الفحم اكثر مما تحرق، ومن الستيل اكثر من حاجتها له، ومن السفن اكثر مما تحتاجه للابحار. كانت المواد الاولية تأتي من كل انحاء العالم لتتحول الى بضائع مصنعة لأغراض التصدير. وبالتالي، فان اسعار الفحم والستيل في امريكا والهند كانت اكثر اهمية للمواطن الاسكتلندي منه الى سلوك الطبقة النخبوية الحاكمة في ادنبرة اوغلاسكو.

الاتحاد مع باقي بريطانيا كان امراً حيويا لهذا النجاح الصناعي، كونه وفّر امكانية الوصول دون عوائق الى اسواق الامبراطورية البريطانية.

لكن، ومنذ الخمسينات من القرن الماضي، تغير الموقف حيث اصبحت القرارات الصادرة في ادنبرة – بدلا من بقية العالم – اكثر اهمية للرفاهية الاقتصادية للاسكتلنديين العاديين. الصادرات من البضائع المصنّعة انخفضت، خاصة في الستينات والسبعينات، نتيجة لإنهيار الامبراطورية البريطانية (التي كانت تاريخيا اكبر سوق لتلك الصادرات). العمالة الصناعية هبطت من 42% من قوة العمل عام 1951 الى فقط 11% عام 2007. قطاعات مثل التعدين والستيل تقريبا اختفت بالكامل خلال هذه الفترة.

 اما القطاع العام فقد نما في الحجم، حيث استوعب في عام 2011 من العمال ما يقارب 37% من سكان المدن مثل مدينة دوندي. واليوم تؤثر قرارات الإنفاق العام التي تتخذها الحكومة في ادنبرة وبشكل مباشر على الحالة الاقتصادية للاسكتلنديين العاديين اكثر من تأثير التقلبات في بقية الاقتصاد العالمي، وهو ما يساعد في خلق احساس بالهوية القومية حول العاصمة المحلية. هذا وفر زخما شعبيا للمطالبة بالاستقلالية الذاتية، نتيجة للرغبة بامتلاك المزيد من السيطرة على مسائل السياسة المالية ذات الاهمية المتزايدة.

وعلى الرغم من ان صعود القومية لا يمكن توضيحه كليا بالعوامل الاقتصادية، فان هناك دول اخرى مماثلة لاسكتلندا في اماكن اخرى من العالم. في الخمسين سنة الماضية وعبر البحر الايرلندي، تزايد عدد الناس الذين يعرّفون انفسهم بـهوية "ايرلندا الشمالية"، بدلا من الهوية القومية او الاتحادية، ترافق ذلك مع زيادة الحصة من اقتصاد الاقليم المُنتجة في القطاع العام(التي بلغت نسبتها مؤخرا 60% من المخرجات).

وفي كاتالونيا، ومنذ السبعينات، تزامن الهبوط في صادرات النسيج والنمو في عمالة القطاع العام مع تزايد الدعوات للسيادة الاقليمية، وحتى المطالبة بالاستقلال عن اسبانيا. من المفارقة الكبيرة، ان تعميق التكامل عبر الاقتصاد العالمي ربما ساعد في زيادة الرغبة بالعودة لزمن العزلة القومية القديمة.

....................................

المصدر: The economics of nationhood،عدد الايكونوميست البريطانية ليوم 6 مايو 2014.

الهوامش:

(1)J. Tomlinson, ‘The economic basis of Scottish nationhood c.1870- 2014’.

(2) مصطلح اللاعولمة (او المضاد للعولمة) Deglobalization يشير الى عملية اضمحلال التكامل والتعاون المتبادل بين دول معينة، خاصة الدول القومية. المصطلح استُخدم على نطاق واسع في وصف الفترات التاريخية التي شهدت هبوطا في الاستثمار والتجارة بين الدول. هو يشير الى عكس العولمة التي فيها تشهد الدول مزيدا من التكامل. المصطلح اشتُق من التغيرات العميقة في العديد من الدول المتطورة حين هبطت نسبة التجارة من مجموع الفعالية الاقتصادية بين الاعوام 1914-1970s. هذا الهبوط يشير الى ان اقتصاديات تلك الدول اصبحت أقل ترابطا مع بقية اقتصاديات دول العالم رغم النطاق العميق للعولمة الاقتصادية. واذا كانت العولمة تشير الى مجموعة ابعاد اقتصادية واجتماعية وتكنلوجية وثقافية وسياسية فان اللاعولمة تشير الى مجال الاقتصاد العالمي.

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- السبت 17/آيار/2014 - 16/رجب/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م