علاقة الإسلام بالغرب من وجهة نظر صاموال هنتغنتون

د. زهير الخويلدي

 

الوعي بدون تماسك هو مصدر ضعف في الإسلام ومصدر تهديد للحضارات الأخرى

صاموال هنتغنتون/صدام الحضارات

 

استهلال:

من حيث المبدأ ينبغي أن يقوم حوار بين الثقافات وتفاعل بين الشعوب وتسامح بين الأديان والتقاء بين المجتمعات وترجمة ونقل بين اللغات من أجل بناء مشترك انساني كوني قيمي ولكن من حيث الواقع وبكل أسف ثمة تصادما بين الدول وسوء تفاهم بين الخصوصيات وحروب ونزاعات بين الجماعات الكبرى في كافة أرجاء المعمورة ولعل العلاقة بين الغرب والإسلام لم تشذ عن هذه القاعدة حيث لم تبارح الأزمة مكانها منذ تشكل هذه العلاقة بالرغم من تقاسم الانتماء الروحي والجغرافي للطرفين والتشارك والاحتكاك الطويل بينهما. ان مظاهر هذه الأزمة كانت في ما عرف بالانتشار الإسلامي أو الفتح والتي رد عليها الغرب بما يسمى الحروب الصليبية والاسترجاع والتي خفت حدتها مع الحداثة والتنوير وبروز الدولة الأمة لتعاود الظهور بشكل أكثر حدة مع الاستعمار السياسي والهيمنة العسكرية المباشرة في عصر الإمبراطوريات وحتى نيل بعض الدول لاستقلالها وتمتعها بحق تقرير مصيرها من الجانب الإسلامي و رغم تقيد الدول الغربية بمنظومة حقوقية إنسانية فانه لم ينه حالة الاحتقان والتشنج البادية على المعسكرين والتي تجلت في تبادل مشاعر الكراهية والحقد والاعتداء على الرموز الحضارية للطرفين وممارسة الإقصاء والتهميش.

في هذا الإطار تبدو مهمة العلماء والمثقفين من الجانبين حاسمة وضرورية من أجل إزالة حالة الالتباس وتنقية الأجواء وتحكيم العقل وتقديم صورة مقبولة للآخر بالنسبة للأنا ولكن البعض منهم انساق وراء الدعايات المغرضة ونذر نفسه من أجل تغذية هذه الصراعات والمدافعة عن الهوية ومعاداة كل ماهو غيري، ومن بين هؤلاء المنظرين نذكر صاموال هنتغتون في كتابه صدام الحضارات والذي تناول في مواضع ثلاثة منه ظاهر الإسلام بالنقد والتشريح والتفكيك لا لشيء الا للتهويل والتخويف والتحامل ومن أجل تحضير الأرضية الفكرية للقضاء على هذه الحضارة التي أفادت البشرية ونهل من معينها الغرب نفسه، لكن ماهي نظرة صاموال هنتغتون الى الإسلام؟ والى أي مدى كانت وجهة نظره عن العلاقة بين الغرب والإسلام صحيحة؟ ألا يمكن أن نتجاوز صدام الحضارات وتأسيس تحالف وحوار بينها؟

ما نراهن عليه هو تفكيك الأحكام المسبقة والصور المشوهة التي تحملها المجتمعات عن بعضها البعض للتخلص من الميراث في نظرة الى الآخر والعمل على بناء جسور التواصل مع الانسانية بغية إفادتها والاستفادة منها في المعارف والقيم والتقنيات التي تسهل الحياة وتشجع الإقبال على الوجود.

1- أسباب انبعاث الإسلام السياسي:

 الانبعاث أثر في المسلمين في كل دولة وفي معظم مظاهر المجتمع والسياسة في معظم الدول الإسلامية.

يرصد هنتغنتون حالة التشدد التي يبدو عليها الشرقيون ويفسر ذلك بالتطور الاقتصادي وبمحاولتهم التكيف مع التأثيرات التي أحدثها الغرب فيهم وبحثهم عن حل للمشاكل المطروحة في الساحة الدولية.

يربط بين الانبعاث الإسلامي والأصولية والصحوة والإحياء ويعتبرها حركة ثقافية وفكرية ذات قاعدة اجتماعية عريضة وتحمل مشروعا سياسيا ويؤكد أن هذا التيار ليس متطرفا ولا معزولا بل هو معتدل ومنتشر مستعد لتكريم الإسلام والالتزام به واستعادته كمرشد في الحياة. ويكشف هنتغتون عن وجود مفارقات بخصوص علاقة الإسلام السياسي بالغرب، المفارقة الأولى تتمثل في قبول الشرقيين للحداثة والمنتجات التقنية وفي رفضهم الغربنة والأفكار السياسية والأخلاقية التي تبشر بها هذه الحداثة، المفارقة الثانية تتمثل في الانبعاث هو محاولة للتكيف مع العالم الغربي من جهة والبحث عن حل لمواكبة العصر بالاعتماد على الإسلام لوحده والتخلي عن الحلول التي يوفرها العالم الغربي.

يقول في هذا السياق: ان المسلمين بأعدادهم الهائلة كانوا في نفس الوقت يتجهون نحو الإسلام كمصدر للهوية والمعنى والاستقرار والشرعية والتطور والقوة والأمل. ويعرج هذا الكاتب على أهم قسمين يتحكمان في الشرق وهما ايران والسعودية ويشير الى شعار الإسلام هو الحل ويفسره بأنه دعوة الى اعتبار الإسلام ليس مجرد دين يعبد بل ينبغي تحويله الى وسيلة للتقدم ونهج في الحياة. فهل نفهم من هذه القراءة للانبعاث أن الكاتب يعتبرها ظاهرة تضاهي من حيث قيمتها الإصلاح الديني في أوروبا في العصر قبل الحديث والثورات الفرنسية والأمريكية والبلشفية في روسيا؟

لقد تجلى الانبعاث الإسلامي حسب هنتغنتون في الحرص على أداء الشعائر الدينية والتشبث بما يعتقد أنه الزي الديني مثل الحجاب عند المرأة والقميص عند الرجل وتكاثر الفضائيات والبرامج الإعلامية الإيمانية والعودة المكثفة الى التصوف والروحانيات وتبني بعض الدول شعارات دينية من أجل تقوية مشروعيتها وظهور نظم تربوية واقتصادية واجتماعية ذات منحى إسلامي. لقد أدرك الجميع القوة الكامنة في الدين بحيث أن الأنظمة الحاكمة والحركات السياسية المعارضة أصبحت تستمد منه سلطتها لتحافظ على بقائها ولتضمن التأييد الشعبي، وبالتالي طرحت الشريعة الإسلامية كبديل عن القانون الوضعي الغربي والتحالف بين الدول الإسلامية مكان الانتماء الى المنظومة الدولية.

 يفسر الأصولي ظاهرة فساد الوجود وانحدار الخلق نحو المهالك بأنه غضب إلهي نتيجة الابتعاد عن الصراط المستقيم ويعلق هنتغنتون: ان انتقام الآلهة ظاهرة عالمية ولكن الله قد جعل انتقامه أكثر انتشارا وتحققا في الأمة جماعة الإسلام. ولذلك فانه يدعو الى أخذ هذه الظاهرة بعين الاعتبار ودراستها دراسة جدية لأنها تشبه من حيث القيمة حركة الإصلاح الديني وتأثيرها على الفكر السياسي الحديث وتشبه كذلك تأثير الفلسفة الماركسية على السياسة الدولية المعاصرة.

يرى هنتغنتون أن الانبعاث الإسلامي الذي أثر تقريبا في كل مجتمع إسلامي ليس مجرد إصلاحا حقق تقدما بسيطا في بعض المجالات في مجتمع دون آخر بل هو تيار رئيسي ذو حركة معقدة تتكون من مجموعة من النصوص المؤسسة وتنطلق من نظرة متكاملة عن المجتمع المثالي ترد الفعل ضد ركود وفساد المؤسسات القائمة عن طريق العنف الثوري وترفض التنوع العقائدي والقوى المهيمنة وتسعى الى التغيير الجذري بالتوجه نحو الطبقة الصاعدة وتدافع عن العودة الى شكل نقي وطاهر من التدين.

يعترف هنتغتون بأن مظاهر الانبعاث هي اجتماعية وتربوية وثقافية أكثر منها سياسية لأن اعتبار معظم الدول الإسلام كعنصر مركزي ليس مرده اعتماده كنظام في الحكم بل النظر اليه كعنصر أساسي في التحديث والتطوير وتمكينه لشرائح شبابية صاعدة من المشاركة الفعالة في هذا التحديث إذ يقول في هذا السياق: المظاهر السياسية للانبعاث هي أقل انتشارا من المظاهر الاجتماعية والثقافية ولكن ما زالت تعتبر التطور السياسي الوحيد الأكثر أهمية في المجتمعات الإسلامية في الربع الأخير من القرن العشرين.

لقد أقر هذا الكاتب توجه الإسلام السياسي نحو العمل الخيري الطوعي ومساعدة المجتمع عند حصول الكوارث الطبيعية والأزمات الاجتماعية من أجل توفير الرعاية الصحية المجانية أو بعض المساعدات التموينية للفئات التي تعاني من الخصاصة. المجالات الثلاث التي ركز عليها الإسلام السياسي شغله وانتباهه هي النساء والشباب والمهاجرين فقد أولى عناية فائقة بحقوق النساء وركز على العرض والدين والأخلاق واهتم بالطلبة والجامعات عبر الدعوة والتبشير والكتب المبسطة التي تركز على تربية الشباب وتوجيههم نحو الصلاح أما المهاجرون فقد هيأت لهم مركز عبادة تنحت هويتهم بمعزل عن المجتمعات الغربية وقدمت لهم مساعدات من حيث الشغل والتعليم.

يهتم هنتغنتون بوصول الإسلاميين الى الحكم في كل من ايران والسودان وتركيا والباكستان والمغرب والسعودية ويشير الى وقوع في خلط بين النظام الإسلامي والنظام غير الديمقراطي ويستنكر ممارسة هذه الأنظمة للسلطة بطريقة فردية وتسييرها للمجتمع السياسي على أسس عائلية عشائرية واستمرارها بتلقي الدعم الأجنبي وجنوحها النسبي نحو الشمولية والاستبداد ويستخلص ما يلي: معظم هذه الحكومات مع ذلك افتقدت أي أساس لتبرير حكمها في شكل قيم إسلامية ديمقراطية أو وطنية.

وعن سؤال من سيخلف هؤلاء على سدة الحكم بعد رحيلهم؟ يجيب هنتغتون بأنه نظام الحكم الإسلامي ويبرر ذلك بنجاح الحركات الاسلاموية في الهيمنة على المعارضة وبناء أنفسهم كبديل حيوي وحيد للنظم العاجزة ساهمت فيه أيضا سياسات تلك النظم.

ان عوامل نجاح الانبعاث الإسلامي حسب الكاتب هو الانفجار الديموغرافي في البلدان الإسلامية بحيث أن الفئة العمرية الشابة هي من الأعلى في العالم ومن المعلوم أن الشباب هم المؤيدون دائما للاحتجاج وعدم الاستقرار والإصلاح والثورة تاريخيا وجود شرائح واسعة من الشباب كان يميل الى التزامن مع مثل تلك الحركات.

 السبب الثاني هو إخفاق الديمقراطية الليبرالية في ترسيخ موطن قدم لها في محيط عربي إسلامي وتراجع الاتجاهات العقلانية والوضعية وتمكن الحكومات من إضعاف المعارضات التي تنهل من مرجعيات علمانية. في حين يتمثل السبب الثالث في لعب الإسلاميون دورا بارزا في معارضة الأنظمة الاستبدادية ودفاعهم عن الثقافة الوطنية لبلدانهم في وجه كل التهديدات الخارجية.

 السبب الرابع هو مساهمة الأنظمة في تعزيز موجة التدين وتشجيعها ثقافة الانتماء والدفاع عن الهوية وهو ما أضعف التيار العلماني وزاد من قوة التيار الإسلامي في الشارع يقول هنتغنتون في هذا الأمر: ان قوة الانبعاث وجاذبية الحركات الاسلاموية حفزت الحكومات على تعزيز الممارسات والمؤسسات الإسلامية وأن تدمج في نظامها الممارسات والرموز الإسلامية.

أما السبب الخامس الذي قوى ظاهرة الانبعاث الإسلامي فهو تراجع الثقافة الغربية وانحسار تأثيرها في الشريحة الشابة بحكم سياسة المكيالين والتناقض بين الوعود والانجازات وبين الشعارات والممارسات وبحكم رغبة بعض الأنظمة الغربية فرضها عليهم بالقوة، حول هذه الرأي يقول هنتغتون: كان الإحياء الإسلامي نتاجا لاضمحلال قوة ومكانة الغرب...فعندما تخلى الغرب عن سطوته فقدت مثالياته ومؤسساته بريقها، وخاصة كونية حقوق الانسان والديمقراطية التي شوهها الغرب بالتدخل بالقوة في شؤون الآخرين وميله الى العدوان والاحتكار والاستغلال.

 لكن هذا الانبعاث الإسلامي واقترانه بالشباب والتعليم والهجرة سيطرح عدة تحديات تضغط نحو الداخل من أجل الاندماج والمشاركة ونحو الخارج من أجل البحث عن فرص أفضل للحياة قد لا يقدر أي نظام سياسي على مجابهتها ويذكر هنتغنتون واحدة منها: التوسع السريع في محو الأمية في المجتمعات العربية أيضا يخلق فجوة بين الجيل الأصغر المتعلم والجيل الأكبر غير المتعلم في معظمه وبالتالي فان انفصالا بين المعرفة والسلطة يميل الى أن يضع توترا على النظام السياسي.

2- صورة الإسلام عند هنتغنتون:

اذا سئلت هنتغنتون عن فهمه للإسلام فانه سيجيبك على التو بأنه وعي بلا تماسك ويقصد بذلك أن أساس الوحدة بين العرب والمسلمين هما الدين والعرق لأنهما يلعبان دورا هاما وحاسما في تمتين الروابط الاجتماعية والصلات الروحية بين الأفراد والمجموعات وهو عكس الولاء في الغرب الذي يكون عادة للدولة القومية وبمعزل عن العرق والدين بل تكون جميع الولاءات الأخرى خاضعة للسلطة السياسية. يقول هنتغنتون حول هذا الموضوع: الجماعات الممتدة فيما وراء الدول القومية – الجماعات اللغوية أو الدينية أو الحضارتية – كانت قد طالبت بولاء والتزام أقل حدة. على طول سلسلة من الكيانات الممتدة من الأضيق الى الأوسع، الولاءات الغربية بالتالي تميل الى أن تظهر بارزة في وسط تلك السلسلة ومنحنى شدة الولاء يشكل الى حد ما منحنى على شكل حرف U معكوسا أو مقلوبا.

 في العالم الإسلامي تركيبة الولاء كانت قريبا على العكس من ذلك تماما. الإسلام توجد به ثغرة في الوسط في نظامه التراتبي للولاءات...ان التركيبتين الجوهرتين الأصليتين المستمرتين كانت العائلة والعشيرة والقبيلة من ناحية وتوحدات الثقافة والدين والإمبراطورية الممتدة على نطاق واسع من ناحية أخرى.

يقر هنتغنتون أن الإسلام يهمش الشعور القومي السياسي لأن الهويات القومية لم يكتب لها وجود ولأن طوال الإسلام كانت الجماعة الصغيرة والإيمان العظيم والأمة هي بؤر التركيز الأساسية للولاء والالتزام وكانت الدولة القومية أقل أهمية.

يحمل هنتغنتون الامبريالية الأوروبية مسؤولية تقسيم الأمة العربية ووضع حدودا وهمية ومنع تكون دولة عربية واحدة تشمل كل العرب وتتجسد على أرض الواقع ويرى أن الدولة القطرية القائمة تعاني من مشاكل في الشرعية لوجود عدة أقليات مضطهدة ولكونها نتاج تعسفي لمصالح غربية وللتناقض بين مبدأ سيادة الشعب و الحاكمية لله. ويرجع ضعف الدولة القومية في الإسلام الى انتصار الانبعاث الإسلامي على دولة الخلافة الدينية وتفضيل التيار الماركسي الأممية العمالية ودفاعه عن مصالح العمال أينما كانوا وتفجر نزاعات حدودية بين عدة دول عربية.

هكذا بدأ الحديث عن التقارب الإسلامي بدل التمسك بمبدأ الوحدة العربية وقد ساعد الاستقلال من الاستعمار والنزوح نحو المدن وتصنيع الحياة والطفرة النفطية وثورة الاتصالات على هذا التحول نحو تعزيز الروابط بين المجتمعات على أساس رابطة الدين والإيمان على حساب اللغة والعرق والتاريخ.

يكشف هنتغنتون عن وجود تناقضين في فكرة حركة الإسلام من الوعي الى التماسك:

التناقض الأول هو وجود مراكز قوى متنافسة على تحقيق هذه الوحدة المنشودة من أجل تحقيق أقصى المصالح القطرية الممكنة وبالتالي فان كل دولة تحاول الهيمنة على الهوية الإسلامية من أجل القيادة.

التناقض الثاني يظهر بين فكرة الأمة الجامعة واللامحدودة وفكرة القومية الحصرية والمحدودة ومن المعلوم أن الجماعة في الإسلام موحدة دينيا وسياسيا وأنها تجسدت في الماضي عندما وقع الجمع بين السلطان الروحي والسلطان الزمني وأنه وقع إلغاء الخلافة وضياع السلطان الروحي بعد انهيار الإمبراطورية العثمانية وبالتالي يصعب إعادة الربط بين البعدين مجددا.

النتيجة التي يخلص إليها هنتغنتون أن الدول العربية والإسلامية ضعيفة وليس لها أي وزن استراتيجي في العلاقات الدولية وذلك لعدم وجود دولة واحدة تمتلك موارد القوة العسكرية والاقتصادية والتنظيمية يجعلها تكون إقليم قاعدة للوحدة المنشودة وحتى إندونيسيا وتركيا وإيران فهي على هامش المحيط العربي الإسلامي وليس في قلبه أو أحد نقاط مركزه. في هذا السياق يصرح: ان غياب دولة إسلامية هو عامل رئيسي في الصراعات السائدة الداخلية والخارجية التي تميز الإسلام. الوعي بدون تماسك هو مصدر ضعف في الإسلام ومصدر تهديد للحضارات الأخرى. ويقصد أن المسلمين واعون بضرورة أن يتوحدوا ولكن حالة التشرذم والتفرق والضعف التي هم فيها بسب غياب قوة جاذبة الى المركز يجعلهم في حالة دفع مستمرة لكل من جاورهم. فهل هذه الظروف ستبقى مستمرة؟ وهل يمكن لأحد الدول الصاعدة مثل ايران أو تركيا أن تقوم بهذه المهمة؟

ايران لديها الموقع المركزي والشعب والتقاليد التاريخية والمصادر النفطية والاقتصاد المستقر محترم وهو ما يؤهلها لتكون دولة أساسية، كذلك السعودية فهي الموطن الأصلي للإسلام ويوجد فيها الحرمين الشريفين مكة والمدينة ولغتها العربية لغة القرآن وفيها أكبر احتياطي للنفط في العالم والباكستان لديها قوة عسكرية ضاربة وتمتلك حجما وسكانا ولها نفوذ وروابط مع بلدان أخرى وأخيرا تركيا تحوز على مجموعة من المؤهلات مثل الجغرافيا والسكان والتاريخ والتمدن والقدرات العسكرية والنمو الاقتصادي السريع والنظام الإداري العلماني المتطور والتحالفات مع أوروبا والعالم الغربي مما يؤهلها لتكون الدولة الأساسية في الإسلام، فماذا لو أعادت ايران مشروع تصدير الثورة في ظل غياب عراق صدام حسين القوي؟ ألا يستقيم الأمر أكثر مع تركيا خاصة عندما تقوم بإعادة تحديد نفسها في علاقة بالاتحاد الأوروبي وآسيا الوسطى والجامعة العربية وإفريقيا والعالم الهندي؟

3- من الصدام الى الحوار بين الإسلام والغرب:

 الحضارة الإسلامية والحضارة الصينية تختلفان أساسا في إطار الدين والثقافة والبناء الاجتماعي والتقاليد السياسية والفرضيات الأساسية لأصل الحياة وطريقها وربما من المحتمل أن يكون بينهما القليل من القواسم المشتركة أكثر لكل واحد منهما مع الحضارات الغربية.

يرى هنتغنتون أن العالمية ستشهد تصدعا كبيرا واندلاع صراع بين الغرب والشرق وأكثر خطوط الصراع عنفا تلك التي ستكون بين الإسلام وجيرانه ويفسر ذلك بأن العجرفة الغربية التي تعتقد بضرورة التزام الشعوب غير الغربية بالقيم الديمقراطية الغربية والإصرار الصيني وانهيار الشيوعية وتخلي المسلمين عن تسامحهم بسبب انبعاث الإسلام السياسي وصعود الأصولية الاسلاموية الى السلطة عن طريق الانتخابات والالتزام بحكم القانون، إذ يقول في هذا الإطار: ان الطموحات العالمية للحضارة الغربية وانخفاض القوة النسبية للغرب وتزايد الإصرار الثقافي للحضارات الأخرى يؤكد بشكل عام صعوبة العلاقات بين الغرب وباقي العالم. ويعترف أن الغرب ستكون له علاقات متوترة مع العالم ولكن هذا التوتر سيكون أقل حدة مع الحضارة الموجودة في أمريكا اللاتينية وأفريقيا ولكنها ستصل مرحلة العداوة مع الحضارة الصينية والإسلامية لكونها حضارة متحدية لكونها تتضمن تقاليد عريقة وقيم ثقافية أفضل في عيون معتنقيها من الثقافة الغربية ولتناقض المصالح والأهداف بين الطرفين وكلما ازداد الإصرار والتصميم ازداد الصراع بين القيم والمصالح.

سبب الصراع بين الغرب والشرق هو افتقاد الإسلام لدولة أساسية يمكن للغرب أن يتفاهم معها ويقيم معها علاقات حسن جوار وتعاون وثيق حسب نظر الكاتب الذي يقسم دول العالم الى صنفين دول شقيقة للغرب ويمكن التواصل معها ودول الشتات وهي التي تمثل مصدر إزعاج للغرب ومن بينها الدول الإسلامية والعربية ولذلك ينصح بأن يحافظ الغرب على تفوقه العسكري بمنع انتشار أسلحة الدمار الشامل لدى الدول المعادية وأن يعزز الغرب ويعمق في الدول الأخرى قيمه السياسية الكونية وأن يحمل على حماية الوحدة الاثنية الثقافية والاجتماعية الغربية بتقييد الهجرة ومكافحتها.

يرفض هنتغتون فكرة كلينتون التي ترى أن العلاقة بين الغرب والإسلام ليست عدائية من حيث الجوهر وأن البعض من المتشددين الاسلامويين هم الذين أفسدوا هذه العلاقة عندما دعوا الى العنف ويرى عكس ذلك بقوله: العلاقات بين الإسلام والمسيحية كانت غالبا عاصفة، كل واحد كان آخر للآخر. ويقصد كل الصراعات التي حدثت بين الاتجاهات والتيارات هي مجرد إفراز للصراع الأبدي القائم بين الإسلام والمسيحية ويذكر الكاتب الانتشار الإسلامي الذي بدأ في منتصف القرن الثامن والذي انقلب مع القرن الخامس عشر لفائدة المسيحيين الذين استعادوا زمام المبادرة وتوجوا ذلك بتفوقهم في الحرب العالمية الأولى على الرجل المريض والسيطرة على ولاياته العربية الإسلامية عبر الانتداب والحماية والاستعمار المباشر والتي انتهت باستقلال هذه البلدان كل على حدة.

 يستخلص أيضا أن العلاقة بين الشرق والغرب تميزت على مر العصور بالطبيعة العنيفة ويفسر هذا العنف ليس بحدوث تحولات في دائرة المقدس وبالرجوع الى التناقض بين العقيدتين والخلافات حول علاقة الدين بالسياسة بل بالتطرق الى أوجه التشابه بينهما وخاصة الإيمان باله واحد ونفيهم الشرك والإيمان بأن الحياة الدنيا هي مجرد وقفة عبور وأن الآخرة هي الوجود الأبقى وأن دعوتهم الدينية هي دعوة عالمية وأن الإيمان الحقيقي يجيب أن تعتنقه كل الانسانية وبالتالي يرى كل من المسلم نفسه ملزم بأن ينشر رسالته عند غير المؤمنين، لكن لئن ربط المسيحي التبشير بعلبة الدواء ورغيف الخبز فان المسلم أراد ذلك بحد السيف وبمفهوم الجهاد.

لقد تأثرت العلاقة بين الإسلام والمسيحية بعدة عوامل أهمها التطورات الاقتصادية والثورة التكنولوجية وشيخوخة الهرم السكاني في الغرب والانفجار الديموغرافي الهائل في الشرق مما خلق ضغطا هائلا من طرف العاطلين وولد ظاهرة الهجرة غير الشرعية وأدى ذلك الى اندلاع موجة من الصراع العنيف بين المعسكرين غذتها إيديولوجيا الإحياء الإسلامي التي أعادت الثقة للمسلمين بأن بينت لهم أهمية هويتهم وثقافتهم بالمقارنة مع الحضارة الغربية المادية الفاسدة في نظرهم، وحتى السياسة التي اتبعتها الدول الغربية فإنها قد زادت من حدة سوء التفاهم لأنها انصبت حول جعل القيم الغربية قيما كونية وحول المحافظة على التفوق العسكري والهيمنة الغربية على العالم.

تجدد الصراع بين الإسلام والغرب هو حول من يحكم العالم؟ ومن يمتلك المقومات الأساسية للقوة والثقافة لأن كلاهما رؤيتين مختلفتين عن الحقيقة وعن القيمة حيث أن الغرب سيبقى غربا والإسلام سيبقى إسلاما والصراع بينهما سيظل أبد الدهر مادمت العوامل المؤدية الى الصراع موجودة.

المشكلة ليس في غياب العلاقات الديبلوماسية بين الطرفين أو في وجودها بل في الصورة التي يحملها الواحد عن الآخر فهي لم تخلو من فردوسية الأنا وشيطنة الآخر إذ يرى المسلمون الغرب متكبرا متعسفا، وحشيا وماديا ويرى الغربيون المسلمين همج وسفاكي دماء وباحثين عن اللذة وهنا مربط الفرس وبيت القصيد لأن جميع المشاكل والتوترات نابعة من هذه الصورة المشوهة والمتعاكسة.

ما الذي يجب فعله حتى لا تتحول حدود الإسلام الى مسرح للحرب الدامية مع الغرب؟

الحل يوجد في تغيير الصورة والاعتراف المتبادل وإتباع سياسة الاحترام للآخر والإقرار بالاختلاف بين الإسلام والغرب وتنظيم الهجرة والتشجيع على التقارب والتعاون بتكثيف زيارات التعارف وأواصر الصداقة والقيام بتنوير ديني من الجانبين تنقد فيه الأحكام المسبقة عن الغير ويتخلى بمقتضاه عن فكرة أفضل الملل وينظر من خلاله الى تعظيم كل المقدسات والأنبياء على وجه المساواة والدخول في وضعية تفهمية حضارية شاملة تتمثل في: إعطاء فهم المسلمين والغربيين واحد للآخر.

يمكن أن نناقش تحليل هنتغنتون من عدة جوانب وخاصة ربطه بين العنف والإسلام وقراءته للانبعاث الاسلاموي على أنه حدث هام يشبه حركة الإصلاح الديني ودعوته الى ضرورة قيام دولة إسلامية قوية يمكن للغرب أن يتعامل معها كشريك فعلي وتضبط الاستقرار في المجال الحضاري الإسلامي وكذلك اعتباره الدول الإسلامية دول شتات وليست دول جوار وتنبيهه على أن حروب خط الصدع ستكون على حدود الإسلام الدامية زيادة على دعوته الى نهوض الوعي الحضاري الغربي عبر الصدام وتقليم أظافر الثقافات المعادية ونشر القيم الغربية في العالم وخاصة حقوق الانسان والديمقراطية.

ان مستقبل البشرية متوقف على قيام تحالف بين الثقافات وليس مرتبط بما سماه هنتغنتون صدام الحضارات لأن مثل هذا الصدام قد يشرع للعنف ويؤدي الى القتل العشوائي ويخلف ضحايا أبرياء ويهدد النوع البشري بالاندثار ويكرس منطق الهيمنة والتفوق ويبرر السلوكات العنصرية والنزعات العدوانية أما منطق التخاصب والاندماج والتلاقح بين الخصوصيات من أجل الدفاع عن الهوية الانسانية الواحدة فانه يحاول جاهدا تقييد الطبيعة بالثقافة وإلجام الأهواء بالعقل وإرساء قيم التسامح والسلام الدائم بين الشعوب، ربما تكون نظرة صاموال هنغنتون واقعية تاريخية ولكنها نظرة متشائمة ومتحاملة على الإسلام لأنه نظر اليه من زاوية استشراقية ضيقة وأهمل فيه عدة تيارات معتدلة تنادي بالوسطية وتنبذ الحرب وتقبل فكرة الديمقراطية وتحترم الأبعاد الكونية والقيم المدنية العظيمة التي تدعو الى المحبة والتعايش وحسن الضيافة وترفض العنف والتعصب للرأي وتنأى عن منطق الإقصاء والتفوق وتطمح الى الشراكة والاندماج وتسعى نحو الحوار وإقامة سلم دائمة في المعمورة.

 ما رأيه فيما قاله أدريان رولاند في رسالته الدين المحمدي: لو كان الإسلام كما وصفه هؤلاء المهاجمين الأوروبيين المسيحيين فليس من المعقول أن كثيرا من الناس يمكن أن يعتنقوا دينا عبثيا ولا يمكن أن يفهم أن أتباع محمد كلهم أغبياء وحمقى، كما أنه ليس مسموحا لنا أن نشك ونحن نرجع الى آثار وكتابات هذه الملة والتي أخرجت عبقريات وعظماء لم ير العالم مثيلا لها في أي شعب آخر ان لم نقل أن العرب ولدوا بفضل هذا الدين امتلكوا ناصية العلم والفنون الجميلة لقرون عديدة لاسيما القرن العاشر بينما ترك المسيحيون كل شيء يذبل ويموت ويتبلد في غربنا؟

خاتمة:

لقد دعا بعض العلماء من الجهتين الى حوار الحضارات وخاصة الفيلسوف الفرنسي روجي غارودي الذي أكد على ضرورة صنع المستقبل المشترك عبر انجاز المشروع الكوني الذي يرتكز على اللقاءات القديمة والتحالفات الحديثة وتشجع عليه التربية غير القمعية وتبرزه الثورة الثقافية، إذ يقول حول هذا الموضوع: ان حوار الحضارات الملمع اليه يكافح عزلة أنا الصغيرة المتبجحة ويبرز واقع الأنا الحقيقي الذي هو بالدرجة الأولى علاقة بالآخر وعلاقة بالكل. وهو يعلمنا ألا نتصور المستقبل في شكل إيمان ساذج بالتقدم ولا في صورة فيض من انجاز مشاريعنا انجازا تقنيا بل على هيئة طفو حياة جديدة جدة بنسك اللاأنا واللاعمل واللامعرفة. ان حوار الحضارات هذا يساعدنا على أن ننفتح على الصعيد الثقافي على آفاق لا نهاية لها في المنظور الذي توحي به في جميع المجالات أحدثت تجددات الثقافة الغربية.

 لقد ارتبط حوار الحضارات عند غارودي بالحلف الثالث الذي يقول عنه: ان الحلف الثالث هو الوعي الذي ما يزال في حالة مخاض على السلم العالمي بأن علاقة جديدة بين الإيمان والتاريخ، بين الإيمان والعمل، بين الإيمان والعالم. انه وعي بأن كل إنسان قد لقي لقاح الإلهي في ما وراء جميع تخوم الطبقة والعرق والثقافة وأنه بهذا الاعتبار مسؤول مسؤولية تامة عن مصيره الخاص. وان إيمانه سيكون إيمانا خادعا اذا لم يكن باعث عمله اليومي أنه سيكون أفيونا اذا اعتبر أن ثقة بالإنسان وبكل إنسان أمر يتهدد الإيمان بالله. ان الحلف الثالث هو الإيمان الذي يعثر من جديد على جذوره في صميم الشعوب، والشعوب تمنح من إيمانها القوة والأمل بتغيير العالم والحياة. فماهي الشروط التي ينبغي أن تتوفر لكي يقوم حوار بين الحضارات جدي ومثمر؟ أليس الفرق بين من يقول بالصدام بين الحضارات و بين من يقوم بالحوار والتحالف كالفرق بين الواقعي المتشائم والطوباوي الحالم؟

 ثم متى يفهم البعض من علماء الغرب أن نظرتهم للإسلام ورموزه الحضارية خاطئة ومجحفة في حق إسهاماته الكبيرة في صنع الحضارة الكونية وأن النور ينبعث دائما من الشرق وليس من الغرب؟ أليس من الضروري الآن أن يتم حوار أكثر واقعية ومباشرة بين بناءين يشتغلان في تشييد عمارة واحدة وحتى يحصل كول بناء على قدرة لاستيعاب الآخر وتفهمه؟

* كاتب فلسفي

..........................

المراجع:

روجي غارودي في سبيل حوار الحضارات تعريب عادل العوا عويدات للنشر والطباعة بيروت لبنان الطبعة الرابعة1999

صاموال هنتغتون صدام الحضارات وإعادة بناء النظام العالمي ترجمة مالك عبيد أبو شهيوة ومحمود محمد خلف الدار الجماهيرية للنشر والتوزيع لبيا 1999

...........................

* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة النبأ المعلوماتية

شبكة النبأ المعلوماتية- الخميس 15/آيار/2014 - 14/رجب/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م