الذاكرة القاتلة

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: الضحية الناجية من القتل او الاغتصاب، او التي يقع عليها عنف مفرط، فانها (تروي) ما عاشته من مشاعر خوف وفزع، وهي تسجل تلك اللحظات المتوترة التي عاشتها بلغتها ومفرداتها، بألوانها القاتمة وظلالها الخانقة، انها اذ (تروي) فإنها تستعين بالذاكرة، وهي ذاكرة مجروحة، مثقوبة، تنغرس فيها اكثر من شظية للعنف والخراب والدمار.

فاز احمد السعداوي بجائزة البوكر العربية، وروايته التي فازت هي (فرانكشتاين في بغداد) وهي رواية (تسترجع) فترة زمنية عاشها المجتمع، والراوي هو لسان حاله، انه (يروي) من خلال ذاكرته الفردية، ما عاشته ذاكرة الجماعة.

هل تساهم ذاكرتنا في صناعة كل هذا العنف الذي نعيشه؟، وهل يمكننا ان نتخلى عن هذه الذاكرة او الذاكرات المتعددة والموبوءة، وكيف يمكن الخلاص، ان كان ثمة خلاص من تلك الذاكرة؟.

يقال ان (الحيوان مقتصد في عنفه لأنه يقتل بلا ذاكرة). لان الحيوان يقتل غالبا من اجل ان ياكل او لكي يدافع عن موطنه، اما نحن فان ذاكرتنا المشحونة بالهواجس والمشاعر لا ترويها بحار من الدماء، لذا نقتل وندمر فقط من اجل القتل والدمار.

في السبعينات من القرن المنصرم، اسس البعث العراقي لسطوة الخوف في الذاكرة الجمعية العراقية، عبر مهرجانات الاعدام في الساحات العامة، وقصة ابو طبر، شديدة الرعب والسوريالية، كان الخوف اذ ينسرب الى النفوس، فانه يفتح طريقا الى الذاكرة ليستقر فيها، ويستدعيه اي قول او سلوك تطرحه او تقوم به السلطة، وهي تصعد درجات السلم، في وصولها الى القمة.

ليس الخوف المجرد هو الذي قاد المجتمع العراقي نحو اندحاره وتشظيه، بل هي ذاكرة الخوف التي اقامت فيه طويلا، وجعلته على ما هو عليه من عنف تفوق على عنف السلطة بعد العام 2003.

رافق هذا العنف، ذاكرة تسترجع ويلات النظام السابق، مقابره الجماعية، عنفه الكيمياوي، سجناءه السياسيين، شهداء العراق المغدورين، وهي ذاكرة تستصرخها صيحات الثأر، من عدو لم يستطيعوا الوصول اليه، بعد شخصنته، واكتفوا بملاحقة رموز تمثله، ولم يقتصر الترميز على الاشخاص بوظائفهم الحكومية وادوارهم في الاجهزة الامنية، بل تعدى ذلك الى ترميز للطوائف والاعراق والقوميات.

بشكل عام، يستوي في ذلك العراق وغيره من بلدان كثيرة، نحن لا نتعلم من التاريخ كما يذهب الى ذلك الفيلسوف الالماني (هيغل)، لاننا كثيرا ما نعيش فيه حتى في حاضرنا ومستقبلنا، ولانفكر ان نغادره، فالذاكرة اشد التصاقا بنا من القدرة على التعلم التي نفتقد اليها في معظم اوقاتنا.

يرتبط بالذاكرة في الدول والمجتمعات التي تعيش مراحل انتقالية، مفردات من قبيل التسامح والعدالة الانتقالية والاندماج الاجتماعي، وهي مفردات يمكن لها ان تغني الحاضر وتجعل المستقبل اكثر ثراء وخصبا، الا اننا لا نقوم بتمثلها، فالذاكرة اشد وطأة علينا، وهي ارث ثقيل اذا لم نستطع ان نداويه.

ذاكرة الخوف هي التي تكبلنا وليس الخوف المجرد نفسه، وتمنعنا من هذا التمثل لكل القيم التي يمكن ان تبلور لنا ذاكرة للمستقبل، وليس للماضي الذي نعيشه دوما ونسترجع خيباته ومراراته.

لهذا كثيرا ما وجدنا ان الخوف الناجم عن استبداد النظام السابق لم يلازم الذين كانوا يعيشون داخل العراق فقط، بل هو ايضا يلازم الذين هاجروا منه الى بلدان المهجر والاغتراب، حيث شبح السلطة يطاردهم، وينغص عليهم حياتهم.

هل يمكن لنا ان نتخلص من هذا الارث في يوم قادم؟

يمكن ذلك، اذا مارسنا العدالة الانتقالية، ولم نقتصر بالحديث عنها، واذا مارسنا التسامح، وتوقفنا عن الحديث عنه، واذا مارسنا السلم، ولم نكتفي بالتنظير له.

لقد اعتدنا على الكلام الكثير دون فعل، لان احد اليات الذاكرة هي الرواية والتحدث عما تختزنه، دون افساح المجال للصمت الذي يمكن ان يمحو ذاكرتنا تلك، ونتعلم منه الا نعيش في الماضي فقط، ماضي الثأر المسترجع والمستعاد.

اختم بعبارة لجبران خليل جبران يقول فيها:

(كيف يمكن لطاغية أن يحكم الأحرار الفخورين، ما لم يكن الطغيان (العنف) أساسًا لحريتهم، والعار قاعدة لفخرهم؟، فإنكم تتكلمون عندما توصد دونكم أبواب السلام في أفكاركم).

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 13/آيار/2014 - 12/رجب/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م