بعد أن تذوق الشعب طعم الديموقراطية لأول مرة ـ بشكلها الحقيقي،
وليس الصوري، كما كان يحصل إبان (الحكم الملكي الدستوري) في العراق ـ
إشرأبت أعناق المواطنين الى التطلع للغد المنشود الذي يحتضن طيَّ جناحه
تحقيق أماني المحرومين وسد احتياجات المحتاجين وبناء الوطن والمواطن،
وبعد دورات إنتخابية متكررة تراكمت بدل الخدمات أزمات، وبدل النهوض
نكوص، وبدل الأفراح جراح..
وبغية التحامل على الواقع المرير والإصرار على رفضه إندفع الشعب
العراقي إندفاعة رجل واحد وبنسبة مشاركة رائعة ـ رغم تشكيك المشككين
وإرتجافات المرجفين ـ في حملة الإصبع البنفسجي رافعين شعارات التغيير
والإصلاح والبناء والتحسين للوضع الخدمي والإنساني ومعلقين الآمال
مجدداً بالرجال والنساء الذي تعهدوا لهم بخدمتهم، وها نحن نرنو بعين
الترقب لما ستؤول إليه الحال بعد إعلان النتائج النهائية للتصويت
الشعبي.
نحن لسنا شعباً أسطورياً أو مجبولاً على الصبر الأزلي لكي يتحمل
الأذى والإبتزاز السياسي والتدمير الإقتصادي والبنيوي إلى مالا نهاية..
نحن شعب يمتلك من التصور الثاقب وحسن الإختيار بما فيه الكفاية..
وانتخاب الأكفأ والأنزه والأقوى والأقدر لايخضع إلى معايير موحدة بين
ابناء الشعب الواحد في العادة.. فثمة معايير نسبية تتحكم فيها القربى
والإنتماءات الضيقة والعريضة مثل الطائفة والدين والقومية وأحياناً
الموقف من الدين أو الموقف من الإلحاد.. كلها معامل لإنتاج معايير يتم
على أساسها إختيار الناخب لمرشحه لعضوية البرلمان العراقي.
حين أُسقط في أيدي المشككين بأهمية الإنتخابات وخطورتها في بناء
العراق الجديد، إتجه البعض منهم ـ عدا التشكيك بنزاهتها وإبتكار
الأساليب التسقيطية للمرشحين ـ للحديث عن كلفة الصوت بالدولار الذي
ينفق في هذا المكتب الدولي أو ذاك لإتمام عملية الإقتراع، ولم يطرأ على
بال أحدهم أن الصوت العراقي كحقٍّ وكواجب أغلى من كل كنوز الدنيا. ثم
إشتغل البعض الآخر على ادعاء تغييب ملايين الأصوات من مكون معين بسبب
العمليات العسكرية التي يشنها الجيش العراقي ضد أعداء الحياة
والديموقراطية في المناطق الساخنة من ارض الوطن دون أن يلتفتوا بأنهم
السبب الأساس في بقاء مناطقهم متوترة ومستفزة شعورياً ضد الجيش والدولة
ودون أن يقدموا أي عون للقوات الأمنية والحكومة للتسريع بحسم المعركة
ضد الإرهاب وإعادة الحياة الى المدن المتضررة والمحتلة من قبل الإرهاب.
ومن جراء تراكمات الماضي، ورغم النجاح الظاهر للعملية الإنتخابية
وبإنتظار النتائج النهائية، يستعر مرجل الحساسيات السياسية من جديد بعد
ان ملأ أجواء الوطن بأبخرة النفور والقنوط واليأس من التحول السريع
لشواطئ الأمن والتطور، وبعد أن إحتقنت ذاكرة الشعب العراقي بفايروسات
التشظي والتهاتر والشحن الإعلامي غير المؤدب وغير المسؤول، وإنعدام
الرؤية بسبب ضبابية حرب الملفات التي يشنها البعض على البعض الآخر دون
أن يتلمس المواطن أية فائدة تذكر أو أية نتيجة تحقيقية لملفٍّ واحد تم
تهديد زيدٍ أو عمرو بفتحه. وإستمراراً للنغمة النشاز في اسطوانة
الأزمات المشروخة التي صكت أسماعنا طنيناً وأزيزاً برزت بعد الإنتخابات
نغمة التهديدات بشكلية الحكومة الجديدة وهيكليتها من حيث هي حكومة (أغلبية
سياسية) أم حكومة (شراكة وطنية).. وبين ارتعاد فرائص الطرف الثاني من
إمكانية تحول الأغلبية السياسية الى أغلبية طائفية أو سيادة وتسلط بعض
ملامحه ظاهرة وبعضها مزعوم، وبين ارتعاد فرائص الطرف الأول من أن تكون
الشراكة الوطنية عودة للمحاصصة المقيتة التي ألغمت وفخخت الواقع
السياسي العراقي وأفرغت قدرة صنع القرار الناجز من محتواها الموضوعي
بالمزيد من أسباب التهديد بالإنفجار والحرب الأهلية نتيجة عدم رضا جميع
الأطراف المشتركة بالحكومة والبرلمان بما مقسوم لهم من كعكة العراق
الشهية.. وشكواهم المريرة المستمرة من عدم إشراكهم بمسؤولية إدارة
البلاد.
نحن شعب واعٍ ونعرف مانريد.. لاتكرهونا على قبول أغلبية سياسية
جوفاء فاقدة للشرعية ومقومات الوقوف على الرِجْلين بثبات أمام عواتي
المؤامرات وتكسير السيقان.. ولاتسوقونا للقبول بمشروع محاصصة إعتمدت
سابقاً على إلتواء النوايا وضحالة المبادئ وفشل الأداء والإدارة حتى
صارت حكومةً شوهاءَ وبرلماناً (مسجىً على قارعة الشماتة) كما كتبنا في
مقالة سابقة لنا قبل سنوات.
تتحدث جميع الأطراف عن الكيفية التي يدار بها الحكم كل حسب وجهة
نظره دون ان يكون المواطن ومصلحته العليا في العيش الكريم والتطور
الحضري نصب الأعين، ودون أن يراعى ميزان اختيار رئيس الحكومة أو وزرائه
من حيث تاريخهم الشخصي وسيرتهم الذاتية وماقدموه من انجازات حقيقية
تؤهلهم للقيادة من عدمه، ودون أن يشارك الشعب بمنظماته ومؤسساته
وبأفراده من وضع ضوابط لتقسيم المناصب على الأشخاص المؤهلين لها على
اساس الكفاءة والنزاهة والشعور العالي بالوطنية والمسؤولية ومفردات
السيرة الذاتية، ودون الإستفادة من تجارب الأمم التي سبقتنا في هذا
المضمار، مازلنا ننتظر خارطة جديدة للتحالفات عابرة على الأزمات
والتخندقات، ونافضة اليد من التراكمات البغيضة للماضي القريب الذي خدش
كرامة المواطن العراقي بسبب تردي الوضع الأمني وإنهيار منظومة الخدمات
وتعثر المشاريع البنيوية والتعمد بتكتيف أذرعة الحكومة لمنعها من إنجاز
واجباتها واستفحال الفساد السياسي واستشراء الفساد المالي والإداري...
نريد حكومة متجانسة تعمل بروح الفريق الواحد مستندة إلى تحالف سياسي
قوي وفاعل في أروقة البرلمان.. وليذهب الآخرون بروح رياضية لتحمل
مسؤولياتهم في تشكيل حكومة الظل والرقابة والتشريع.
وربّ قولٍ أنفذ من صول
* ناصرية دورتموند ـ ألمانيا
...........................
* الآراء الواردة لا تعبر بالضرورة عن رأي شبكة
النبأ المعلوماتية |