ليبيا فاشلة... بين هشاشة الحكومة وتنمر الميليشيات

 

شبكة النبأ: ربما لم تدم معاناة الليبيين إذا ما قورنت، كما هو الحال الان بالصراع المسلح والدامي الذي يجري في سوريا، لكن هل يمكن ان يقال بان الأوضاع في ليبيا جيدة إذا ما قورنت بتونس على سبيل المثال؟.

ليبيا اليوم تعاني كما تعاني سوريا، لكن بوجه اخر، فخطر المليشيات لا يختلف عن خطر المنظمات الإرهابية المنتشرة في سوريا، كما ان الاقتصاد الليبي ينهار بوتيرة متسارعة، ولا يمكن اعتبار مؤسسات الدولة القائمة حالياً، مؤسسات يمكن لها فرض القانون او الصمود امام الفصائل المسلحة التي اقتحمتها في أكثر من سابقة، من دون ان يكون هناك رقيب او حسيب او حتى حماية تذكر.

وقد ذكر العديد من المحللين، في سياق الاحداث التي تجري في ليبيا، ان الأمور قد تسير نحو الأسوء، متسببة بانهيار الدولة ومؤسساتها، وهو السيناريو الأسوء، خصوصاً في حال استمرار التناحر والاقتتال بين الميليشيات المسلحة التي لم تستطع الدولة احتوائها بعد ان استطاعت اسقاط نظام القذافي، إضافة الى انعدام أي خطوة عملية من شانها ان تدعم الاقتصاد المترنح تحت وطئه الفساد والمحسوبية والصراع حول تصدير النفط وتعطيل الموانئ، والاعتماد على الخزين الاستراتيجي من الأموال الليبية.

فيما يشير اخرون الى عدم وفاء الحلفاء بأغلب التزاماتهم بعد اسقاط نظام القذافي، اذا ان تحكم الميليشيات المسلحة التي ينتمي بعضها الى تنظيم القاعدة بمقدرات الدولة الليبية، من دون وضع خطة لمساعدة الدولة في التصدي لهذه الظاهرة، سيما وان الدولة لا تمتلك جيش نظامي او قدرة على التدريب والتسليح والدعم من دون تدخل المجتمع الدولي، الذي اتى بطيئاً وغير حيوي حتى اللحظة، من وجه نظر بعض المحللين.

رئيس الوزراء

في سياق متصل أدى رجل الأعمال الليبي أحمد معيتيق اليمين رئيسا لوزراء ليبيا بعد جلسة عاصفة لكن بعد ساعات أعلن نائب رئيس البرلمان بطلان هذا التصويت مع اندلاع صراع على السلطة داخل البرلمان، وتظهر هذه الانقسامات داخل البرلمان تنامي حالة الفوضى في ليبيا التي لا تستطيع فيها الحكومة والبرلمان بسط السلطة في البلاد التي تعج بالسلاح والميليشيات منذ الإطاحة بمعمر القذافي عام 2011.

وقدم مسؤولون روايات متضاربة لنتيجة الانتخابات في البرلمان فقال النائب الأول لرئيس البرلمان عز الدين العوامي في باديء الأمر إن معيتيق لم ينجح في الحصول على النصاب اللازم على الرغم من أنه كان أقوى المرشحين في جلسات التصويت السابقة.

ولكن صراعا على السلطة بشأن من الذي يسيطر على البر لمان اندلع عندما رفض النائب الثاني لرئيس البرلمان صالح المخزون تأكيد العوامي وقال إن معيتيق فاز بالتأييد اللازم، وقال المخزون في جلسة البرلمان المذاعة تلفزيونيا فيما قاطعه نواب يعارضون انتخاب معيتيق إن معيتيق أصبح رسميا رئيس الوزراء الجديد.

ولكن النائب الأول عوامي أعلن بعدها بساعات أن التصويت باطل وأبلغ عبد الله الثني الذي استقال قبل ثلاثة أسابيع بمواصلة العمل في موقع رئاسة الوزراء، وأضاف العوامي في رسالة للثني نشرت على صفحة مجلس الوزراء على الانترنت إن معيتيق لم يحصل على الأغلبية اللازمة من أصوات أعضاء البرلمان وهي 120 صوتا وفقا لقانون انتخاب رئيس جديد للوزراء.

ولم يعرف ما الذي سيحدث فيما بعد مع نشوب جدال بين نائبي رئيس البرلمان على الهواء في محطة الاحرار التلفزيونية حيث أصر المخزون على أن معيتيق انتخب رئيسا للوزراء، وقال أن عملية الانتخاب سليمة وواضحة من وجهة نظر قانونية.

وعندما سأل أحمد الأمين المتحدث باسم مجلس الوزراء عما يعتزم الثني أن يفعله قال أن الحكومة ستنفذ أي تعليمات من البرلمان وفقا لمبادئ الدستور، ولم يدل بتفاصيل، وإذا تأكد تولي معيتيق المنصب يتوقع محللون له أن يلاقي صعوبات حيث أن الحكومة عاجزة عن السيطرة على الميليشيات التي ساعدت في الإطاحة بالقذافي.

وخلا منصب رئيس الوزراء عقب استقالة رئيس الوزراء السابق عبد الله الثني قبل ثلاثة اسابيع على خلفية هجوم شنه متمردون على عائلته بعد شهر من توليه منصبه، وبدأ البرلمان عملية الاقتراع لانتخاب خليفة له إلا ان الجلسة أرجئت بعد ان اقتحم مسلحون على صلة بمرشح مهزوم مبنى البرلمان وأصابوا عدة اشخاص.

واستأنف النواب عملية الإقتراع في جلسة قاطعها النواب عدة مرات وسط خلاف على عدد الاصوات التي حصل عليها معيتيق فيما شكك البعض في مدى شرعية انتخابه، وقالت النائبة زينب هارون إن الاقتراع لتعيين معيتيق رئيسا للوزراء باطل.

وجاء تولي الثني لرئاسة الحكومة لفترة قصيرة خلفا لعلي زيدان الذي غادر البلاد بعد ان طرده النواب لفشله في وقف محاولات المتمردين في منطقة شرق البلاد المضطربة بيع النفط بمعزل عن حكومة طرابلس. بحسب رويترز.

ويعاني البرلمان الليبي من حالة من الجمود بسبب النزاع بين الإسلاميين والقبائل والقوميين فيما يحاول الجيش الوليد للبلاد ترسيخ سلطته في مواجهة جماعات جامحة من المتمردين السابقين والقبائل ومتشددين إسلاميين، ووافق البرلمان في فبراير شباط على اجراء انتخابات مبكرة في محاولة لتهدئة مشاعر الليبيين المحبطين من حالة الفوضى السياسية بعد ما يقرب من ثلاث سنوات من سقوط القذافي.

رهينة الميليشيات المسلحة

الى ذلك وعندما قامت ميليشيا تسيطر على موانئ ليبيا الشرقية بتحميل ناقلة ترفع علم كوريا الشمالية بالنفط في وقت سابق قرر المؤتمر الوطني العام عزل رئيس الوزراء ولجأ إلى القوات الامريكية الخاصة لإعادة الحمولة إلى ليبيا، وعلى مدى أيام هددت الحكومة بنسف الناقلة مورنينج جلوري إذا غادرت الميناء الليبي، وعندما أبحرت فعلا طاردتها ميليشيات مؤيدة للحكومة بزوارق تحمل سيارات جيب مركب عليها مدافع مضادة للطائرات ومدافع أخرى.

لكن هذا المسعى لم ينجح وعندما وصلت الناقلة للمياه الدولية قرر المؤتمر الوطني (البرلمان) عزل رئيس الوزراء علي زيدان الذي فر إلى أوروبا، وبعد بضعة أيام اعتلت قوات أمريكية خاصة الناقلة لوضع نهاية لهذه الكارثة.

يعد حادث الناقلة مورنينج جلوري من أبرز الأمثلة حتى الآن على مدى ضعف السلطة المركزية في ليبيا، فبعد ثلاث سنوات من الاطاحة بالزعيم الليبي معمر القذافي بدعم من حلف شمال الاطلسي أصبحت ليبيا تحت رحمة ألوية متنافسة من المقاتلين المدججين بالسلاح الذين حاربوا لأسقاط القذافي والآن يتحدون الدولة الجديدة علانية.

ولا يكاد برلمان ليبيا يتفق على شيء كما أن حكومتها المؤقتة لا تملك جيشا تفرض به الأمن وإرادتها ولم يتم حتى الآن وضع دستور جديد، وفي هذا الفراغ خطف مقاتلون سابقون زيدان لفترة وجيزة من غرفته بفندق في طرابلس واقتحموا وزارة الخارجية واستولوا على وزارة الداخلية حتى قبل المحاولة الفاشلة لتصدير النفط للخارج.

ويمزح أعضاء المؤتمر الوطني قائلين إنهم قد يضطرون لاستخدام الانفاق السرية التي بناها القذافي تحت العاصمة حتى يمكنهم الهرب من المسلحين، وقال زيدان من ألمانيا حيث هرب "لا يوجد جيش، لا يوجد جيش، كنت أعتقد انه يوجد جيش لكن بعد خبرتي عرفت، لا يوجد جيش"، وبالنسبة لكثير من الليبيين انتهت الفرحة بالحرية وحل محلها شعور بالارتباك، فقد انزلقت ليبيا إلى خلافات على شكل الدولة مستقبلا تنافس فيها قادة قوات المعارضة السابقون ومنفيون سابقون واسلاميون وزعماء قبائل إلى جانب الاتحاديين كل يسعى لتكون له الصدارة، وأصبح الخطر محدقا باستقرار البلاد وسلامة أراضيها.

وقد نجحت تونس مهد انتفاضات الربيع العربي في تطوير انتفاضتها، فقد تمت الموافقة على دستور جديد في يناير كانون الثاني وأخذت الأحزاب الاسلامية والعلمانية مواقف وسطا ومن المقرر إجراء انتخابات هذا العام، أما ليبيا فمازالت تتعثر.

وقال دبلوماسي غربي "كانت هناك فرحة غامرة صاحبت الاطاحة بالدكتاتور لم تأخذ في الاعتبار بعض حقائق الواقع الصارخة، فما هي الفكرة الدافعة للوحدة هنا"، وأضاف "ليس الامر كأن الاطاحة بالقذافي ستعني، أن الصندوق سينفتح وستخرج منه دبي، فكل المشاكل التي تمت التغطية عليها أو التستر عليها بالرشوة أو بالقوة بدأت تطل برأسها من جديد".

يجري وزير الكهرباء علي محمد محيريق اتصالات هاتفية لحل مشكلة انقطاع الكهرباء المتكررة في طرابلس وهو يدرك أكثر من غيره مدى صعوبة إدارة دولاب العمل من جديد في البلاد، فقد عاد الوزير إلى ليبيا بعد أن أمضى 30 عاما في كندا وأصبح مسؤولا لا عن الكهرباء فحسب بل إنه أمضى العام الأخير يقوم بدور الوسيط والمفاوض بين الفئات المتعددة في البلاد.

وقال واصفا محاولة اقناع المقاتلين السابقين بإلقاء السلاح والتخلي عن قواعدهم "الأمر أشبه بخلع الضرس، فهو مؤلم وصعب وتحتاج أحيانا لمخدر، فلدينا جماعات مسلحة قوية، ولحسن الحظ أو لسوئه فهم لا يتفقون مع بعضهم البعض وهو ما يبقي على استمرار هذه العملية".

وتفاوضت الحكومة مع قادة الميليشيات للتخلي عن مواقعهم التي استولوا عليها حين حرروا طرابلس، ويعمل الجيش على ضم المزيد من المجندين كما أن الحكومة استوعبت مقاتلين سابقين بإدراج الالاف منهم على قوائم أجور الدولة. بحسب فرانس برس.

إلا أن كثيرا ما أسفر ذلك عن تمكين ميليشيات متنافسة وخلق خليطا من القوى الأمنية والوحدات العسكرية شبه الرسمية، فحتى إذا خرج زائر بسيارة في جولة عابرة خارج العاصمة فسيمر بنقاط تفتيش عليها حراس لا تبين ملابسهم العسكرية القديمة انتماءاتهم.

ويبدو أن مجموعات الثوار السابقين والجماعات السياسية والقبائل تتمسك برؤيتها الخاصة لمستقبل البلاد أكثر من استعدادها لقبول الحلول الوسط التي يتطلبها إقامة دولة موحدة، وفي بنغازي بشرق البلاد استولت مجموعة من قوى الامن السابقة لقطاع النفط انشقت بقائدها ابراهيم الجضران في الصيف الماضي على ثلاثة موانئ رئيسية سعيا لتحقيق قدر أكبر من الحكم الذاتي للمنطقة.

كما استهدف الأمازيغ الذين ظلوا لسنوات طويلة يشعرون أن الأغلبية العربية تضطهدهم البنية التحتية لصناعة النفط في البلاد، وأغلق مسلحون من الامازيغ حقل الشرارة النفطي الحيوي شهرين في العام الماضي للمطالبة بحقوق أكثر في الدستور الجديد.

واتهمت ميليشيا إسلامية اسمها غرفة عمليات ثوار ليبيا بخطف رئيس الوزراء السابق زيدان واختطاف خمسة دبلوماسيين مصريين لفترة وجيزة في طرابلس لتأمين اطلاق سراح قائدها شعبان هدية الذي ألقي القبض عليه في مصر.

كما أن ميليشيات متنافسة تؤيد جماعات متنافسة في البرلمان الليبي المنقسم حيث يقف الاسلاميون ويمثلهم حزب العدالة والبناء التابع لجماعة الاخوان المسلمين في مواجهة تحالف القوى الوطنية الذي يضم أحزابا وطنية وليبرالية بقيادة مسؤول سابق من عهد القذافي.

لكن أقوى مجموعتين في البلاد توجدان غربي العاصمة وأولاهما في منطقة الزنتان الجبلية والأخرى في مدينة مصراتة الساحلية، وترتبط كل منهما ارتباطا فضفاضا بجماعة سياسية مختلفة ولا تبدي أي منهما استعدادا للتخلي عن السلاح أو الاصطفاف وراء الحكومة، وقال خالد محمد وهو من القادة العسكريين السابقين في الزنتان "نحن نحتفظ بأسلحتنا لا لأننا نريد القضاء على الدولة بل ننتظر حتى يظهر تنظيم حقيقي".

كان محمد مديرا لمتجر سوبر ماركت خلال سنوات حكم القذافي، ورفع السلاح في أوائل الانتفاضة في البداية دفاعا عن مدينته ثم للإطاحة بالزعيم الليبي.

وهذه الايام لدى محمد إحساس جديد بالغضب، ففي الزنتان المدينة الفقيرة التي يسكنها نحو 35 ألف نسمة على مسافة 140 كيلومترا غربي طرابلس يشكو محمد مثل كثيرين من سكانها أنه لم ير شيئا يذكر من الثروة النفطية أو التنمية التي يعتقد أن العاصمة ومدنا أخرى تتمتع بها ويتحسر على نقص الخدمات الأساسية والمدارس الجديدة والمستشفيات بل ومجرد امدادات المياه.

وقال محمد "النصر في هذه الحرب كان هبة من الله وتحقق بشجاعة أهل الزنتان، وماذا نلنا؟ لم نشهد أي تغيير، والآن نحن في حرب مختلفة حرب سياسية، لكنهم يحاربون فقط من أجل مكسب خاص لا مثل تضحياتنا".

وقال محمد الوقواق رئيس المجلس المحلي لمدينة الزنتان "أهل الزنتان شعروا أن من واجبهم القتال، ولم يكافئوا على هذا الواجب"، وهذا أحد الاسباب التي جعلت هذه الجماعة تتشبث بأكبر غنيمة حصلت عليها وهي سيف الاسلام نجل القذافي الذي ألقى أهل المدينة القبض عليه ومازالوا يحتجزونه رغم مطالب طرابلس والمحكمة الجنائية الدولية في لاهاي بتسليمه.

ويقول قادة المجلس المحلي إن سيف الاسلام سيظل محتجزا في الزنتان ويحاكم فيها لأنها المكان الوحيد الذي يمكن أن يضمن أمنه، ويقولون إن طرابلس لا تستطيع حتى حماية رئيس الوزراء، وقال دبلوماسي غربي آخر "من الضروري أن يتوصلوا إلى نوع من التوافق الوطني على الشكل الذي يريدون أن تكون البلاد عليه، ما أسهل القول وما أصعب الفعل، ولإنجاز ذلك يحتاجون لزعامة سياسية"، ويجري تدريب الجيش بمساعدة أمريكية وبريطانية وايطالية وتركية، لكن أغلب برامج التدريب مازالت في بداياتها.

أزمة اقتصادية

فيما تستنزف ليبيا احتياطيات البنك المركزي وتوقف مشروعات بنية تحتية لمواجهة أزمة موازنة هي الأسوأ منذ عشرات السنين بعد أن فقدت الحكومة جميع إيراداتها تقريبا بسبب سيطرة جماعات مسلحة على منشآت نفطية، وتراجعت صادرات النفط التي تمثل شريان الحياة في ليبيا إلى أقل من 100 ألف برميل يوميا بعد أن أغلق رجال ميليشيات من الحقول الكبرى عقب إغلاق محتجين موانئ في شرق البلاد للمطالبة بحكم ذاتي لمنطقتهم.

وكانت الصادرات تجاوزت مليون برميل يوميا قبل أن تبدأ ميليشيات مسلحة ساهمت في الإطاحة بمعمر القذافي إبان الحرب الأهلية عام 2011 في السيطرة على منشآت نفطية الصيف الماضي لانتزاع حصة من الثروة النفطية بالبلاد.

وتنذر أزمة الميزانية بتسارع انزلاق ليبيا إلى هاوية الاضطراب في ظل ما تواجهه الحكومة الهشة من صعوبات في بسط نفوذها في بلد تعرقل فيه كتائب مقاتلي المعارضة السابقين المدججين بالسلاح جهود الحكومة الرامية لإحلال الديمقراطية.

ويبدو من المستعبد حدوث انهيار وشيك للدولة، على الأقل في الأشهر القليلة القادمة، وجمعت ليبيا احتياطيات أجنبية تزيد قيمتها على 130 مليار دولار أثناء فترات ارتفاع أسعار النفط، غير أنه تم إنفاق 16 مليار دولار منذ الصيف الماضي مما يحول دون تنفيذ خطط لإصلاح وترميم الطرق والمدارس والمستشفيات المتداعية.

وقال عبد السلام نصية النائب السابق الذي كان يرأس لجنة الميزانية في المؤتمر الوطني العام (البرلمان) حتى وقت قريب "الوضع سيء جدا"، ولم يصادق البرلمان على ميزانية لعام 2014 نظرا لعدم وجود أموال كافية للإنفاق إذ تشكل صادرات النفط والغاز 95 بالمئة من دخل البلاد، وأثر فقدان الحكومة سيطرتها على بعض المعابر البرية سلبا على الرسوم الجمركية التي تمثل أحد مصادر الدخل القليلة غير النفطية، ولا يدفع ضرائب في ليبيا سوى قلة.

ويقول مسؤولون إن إيرادات النفط في أول شهرين من العام الحالي بلغت 16 بالمئة أو أقل من المستوى الذي وضعت الميزانية على أساسه، وقدم البنك المركزي قرضا عاجلا بقيمة ملياري دولار للحفاظ على تماسك الدولة ووفائها بالتزاماتها، وكان البنك قدم بالفعل 800 مليون دولار إلى وزارة الكهرباء التي تواجه انقطاعات في التيار الكهربي.

ويتوقع دبلوماسيون أن يستنزف البنك المركزي المزيد من احتياطاته الأجنبية نظرا لأن تقليص الميزانية البالغة 53 مليار دولار ليس خيارا متاحا أمام حكومة ضعيفة غير مؤهلة لاتخاذ إجراءات صعبة.

وجرى إنفاق نحو 70 بالمئة من ميزانية 2013 على رواتب القطاع العام والدعم الحكومي لجميع السلع من القمح والبنزين إلى تذاكر الطيران فضلا عن رجال الميليشيات المدرجين على جدول الرواتب الحكومية، والدعم الحكومي السخي إرث من عهد القذافي يهدف إلى إرضاء الليبيين والسيطرة على الاضطرابات الاجتماعية.

وقال نصية إن الحكومة بدأت في استغلال صندوق ادخار خاص بقيمة نحو 12 مليار دينار (عشرة مليارات دولار) للاستمرار في دفع الرواتب وهو صندوق كان مخصصا للأجيال القادمة، وأضاف أن ليبيا سجلت العام الماضي عجزا في الميزانية بلغ نحو ستة مليارات دينار.

وبينما تحتاج الحكومة بشدة إلى خفض الإنفاق إلا أن الميزانية تتجه بالفعل إلى الارتفاع هذا العام، وتدعو الميزانية المقترحة إلى زيادة قدرها مليارا دينار بعد أن وافقت الحكومة على زيادة الرواتب بنسبة 67 بالمئة للعاملين في قطاع النفط في محاولة فاشلة لكسب ولائهم، ويتمثل التحدي الرئيسي الذي تواجهه الحكومة في الميزانية في القطاع العام المتدهور وهو أيضا إرث تركه القذافي الذي أدرج معظم البالغين على جدول الرواتب لإسكات أي معارضة.

وقال المحلل السياسي صلاح البكوش إن هناك 22 ألف جندي على جدول الرواتب في بنغازي ولكنهم لا يعملون على ما يبدو، ويجوب مسلحون إسلاميون وغيرهم من رجال الميليشيات الشوارع دون أن يعترضهم أحد بينما تشهد البلاد تفجيرات لسيارات ملغومة واغتيالات بصفة شبه يومية.

واعتاد الليبيون أيضا على شراء رغيف الخبز بسنتين أو دفع 70 دولارا لشراء تذكرة رحلة جوية داخلية تستغرق ساعة في إطار دعم حكومي باهظ التكلفة تبناه القذافي ويخشى الحكام الجدد إلغاءه خشية اثارة اضطرابات اجتماعية.

وظهر مسؤولون من البنك المركزي في بث تلفزيوني مباشر ليضعوا حدا لشائعات انهيار الدولة قائلين إن احتياطيات النقد الأجنبي في ليبيا من شأنها أن تحافظ على قدرة الدولة على الوفاء بالتزاماتها، وقال محمد سالم نائب محافظ البنك المركزي لقناة النبأ التلفزيونية إن الاقتصاد يمكن أن يصمد لعامين ونصف العام رغم ما يواجهه من صعوبات بالغة.

في الوقت نفسه كشف المسؤولون الذي يميلون عادة للتكتم عن أن الاحتياطيات تراجعت إلى 116 مليار دولار من 132 مليارا في الصيف، وقال سالم إن بلاده تحتاج إلى سياسة اقتصادية محكمة لتغيير القواعد التي تعاني منها مشيرا إلى أن رواتب القطاع العام تشكل عبئا.

ويحذر محللون من أن جزءا من أموال البنك المركزي موجود في صورة أصول غير سائلة بالخارج مثل السندات القابلة للتحويل في حين ستحتاج البلاد إلى سيولة دولارية لحماية الدينار الليبي، وقال النائب السابق نصية إن البنك المركزي لا يمكنه الاستمرار في تمويل الميزانية خلال العام بأكمله مضيفا أن هناك حاجة للدولارات لسداد ثمن الواردات.

ولا تنتج ليبيا العضو في منظمة أوبك أي أغذية تقريبا وهو ما يضطرها إلى استيراد السلع الأساسية مثل الحليب والجبن والطماطم من أوروبا أو الدول العربية، وحتى الهريسة الحارة التي يعشقها الليبيون تأتي من تونس، وقال حسني بي الذي يرأس إحدى كبرى الشركات الخاصة التي تبيع منتجات متنوعة من السلع الاستهلاكية الغربية إلى أصول الصناديق الاستثمارية إنه يتعين على البنك المركزي خفض قيمة الدينار بسبب العجز التجاري المتنامي.

وأضاف أنه يجب خفض قيمة الدينار إلى دينارين على الأقل أمام الدولار، ويبلغ سعر الصرف الحالي للعملة الليبية 1.25 دينار للدولار، وذكر أن الإيرادات النفطية قد تصل إلى 20 مليار دولار هذا العام انخفاضا من نحو 50 مليار دولار في 2013 بينما تصل تكلفة الواردات السنوية إلى 30 مليار دولار.

وتزيد فاتورة الواردات مع السيطرة على المنشآت النفطية التي تتسبب في قطع الإمدادات عن المصافي المحلية وهو ما دفع وزارة النفط لزيادة واردات البنزين إلى 650 مليون دولار شهريا بما يزيد بمقدار الثلث عن الحجم المعتاد وفقا لإحدى شركات تجارة النفط.

وتتزامن أزمة الميزانية مع أزمة سياسية تعرقل انتقال ليبيا إلى الديمقراطية، ويأخذ المستثمرون المحتملون جانب الحذر بينما يفكر كثير من الليبيين في مغادرة البلاد للهروب من الاضطرابات والجرائم، وألغت ليبيا مؤخرا مؤتمرين كبيرين للأعمال أحدهما خاص بقطاع النفط والغاز والآخر خاص بالتمويل الإسلامي وكانا يهدفان لجذب المستثمرين الأجانب.

وقال حسني بي الذي تراجعت مبيعات شركته 20 بالمئة خلال الأشهر الثلاثة الماضية إن الكثير من الليبيين الأغنياء والأقل ثراء يأخذون أسرهم إلى أماكن أكثر أمنا خشية المجهول وخوفا من الجريمة.

مثال للفوضى

من جانب اخر، قنبلة على ممر الاقلاع والهبوط وحيوانات تصعد للطائرات وركاب يسافرون بلا تأشيرات، كلها مظاهر تؤكد أن مطار طرابلس الدولي مثال حي على الفوضى التي تمسك بتلابيب ليبيا منذ الاطاحة بمعمر القذافي عام 2011، وتخشى القوى الغربية والدول المجاورة لليبيا أن يكون مطار العاصمة الليبية قد تحول إلى منفذ للمهاجرين غير الشرعيين بما في ذلك المتشددين الاسلاميين من أفريقيا ومناطق صراع أخرى مثل سوريا.

فقد اشترط المغرب مؤخرا حصول الليبيين على تأشيرة لدخول البلاد وذلك بعد أن وصلت مجموعة من المسافرين بجوازات سفر ليبية مزورة وتوقفت بعض شركات الطيران الاوروبية والعربية عن تسيير رحلات إلى طرابلس لأسباب أمنية.

وبدأ الاتحاد الاوروبي تدريب مسؤولين وساهم في تطوير المنشآت بالمطار العتيق الذي كان قاعدة للجيش البريطاني في الحرب العالمية الثانية، لكن وصول عدد محدود من أجهزة فحص الأمتعة لن يعالج المشكلة الأمنية الأساسية وهي المهمة الشاقة التي تواجهها الحكومة لفرض سلطتها في بلد يغمره السلاح والميليشيات.

وتسيطر على المنطقة المحيطة بالمطار واحدة من عشرات من كتائب الثوار التي شاركت في الاطاحة بالقذافي ثم رفضت إلقاء السلاح وهي صورة تتكرر في مناطق أخرى كثيرة من ليبيا، وقال المحلل السياسي صلاح البخوش إن المطار في قلب الصراع على السلطة إذ تتحدى جماعات مسلحة أخرى ومواطنون والعاملون بالطيران المدني سيطرة ميليشيا الزنتان في غرب البلاد عليه.

وقال البخوش "الناس سئموا، الوضع غرب طرابلس (قرب مبنى المطار)، في غاية الخطورة، والحكومة أضعف من أن تفعل شيئا"، وأصبحت حوادث تبادل اطلاق النار ليلا تتكرر كثيرا في المنطقة مما جعل الطريق المؤدي إلى المطار من أخطر الأماكن في العاصمة حيث تدهور الأمن في الاشهر الأخيرة، والجهة التي تسيطر على المطار الواقع على مسافة 30 كيلومترا تقريبا خارج العاصمة يسهل عليها النفاذ إلى ما يحدث من أنشطة في المبنى الرئيسي الذي يعد مركزا رئيسيا للبضائع والتهريب.

ويقول دبلوماسيون إن الصراع بين الميليشيات يفسر انفجار قنبلة على الممر الرئيسي بالمطار في مارس آذار الماضي، وأعلنت جماعة غير معروفة مسؤوليتها عن الهجوم على وسائل التواصل الاجتماعي رغم أن الحكومة لم تعلن عن الجهة التي تقف وراءه، وقال دبلوماسي غربي "العبوة زرعت الساعة الخامسة والنصف صباحا عندما لم تكن هناك أي حركة جوية لتفادي سقوط ضحايا ربما لإظهار أن الزنتانيين عاجزين عن توفير الأمن".

وتبذل الحكومة المؤقتة جهودا حثيثة لتدعيم الأمن في المطار لكن قواتها الأمنية الناشئة مازالت تتدرب كما أن ولاء بعض أفرادها موضع شك، ويشمل العاملون في الأمن ضباط شرطة سابقين من عهد القذافي بالإضافة إلى موظفين جدد من ميليشيات الحرب الأهلية التي أدمجتها الحكومة في الأجهزة الأمنية لأبعادها عن الشوارع. بحسب رويترز.

ويرتدي هؤلاء العاملون زيا رسميا لكنهم في واقع الأمر يعتبرون أنفسهم مسؤولين أمام قادة الميليشيا أو عشائرهم أو عائلاتهم، وقال دبلوماسي آخر "لا يمكنك أن تسير في محيط المطار وتزرع قنبلة على الممر وتفجرها من الخارج بالتحكم عن بعد دون أن يدير بعض الافراد وجوههم الناحية الأخرى لفترة من الوقت".

ويقول خبراء إن المطار شهد تحسينات كبيرة منذ الفترة التي أعقبت انتفاضة عام 2011 التي ساندها حلف شمال الأطلسي عندما كان بوسع أي أحد أن يدخل مناطق يفترض أنها خاضعة لسيطرة أمنية، وتركز بعثة الاتحاد الاوروبي للمساعدات الحدودية وشركات الطيران الاجنبية على خطوات صغيرة لتحسين الأمن مثل زيادة كفاءة فحص جوازات السفر وتحسين تنظيم العمل في مبنى المطار.

وقال طه محمودي رئيس الأمن إن المطار استحدث تراخيص للمناطق الأمنية لتنظيم الوصول إلى المناطق الأكثر حساسية قرب البوابات، وقال "حققنا تقدما كبيرا في 18 شهرا" رغم أن صغر المساحة في المبنى الصغير الذي يمر من خلاله المسافرون على الرحلات الدولية والرحلات الداخلية مازال يمثل تحديا.

ويقول خبراء أمنيون إن ضباط الجوازات الذين يرتدي بعضهم أزياء لخدمات مختلفة وبعضهم الملابس المدنية لديهم أجهزة كمبيوتر لكنهم نادرا ما يستخدمونها لأن أغلبهم لم يتلق التدريب السليم، وقال أندرو ليتل الذي يعمل مدربا مع بعثة الاتحاد الاوروبي للمساعدات الحدودية إن الضباط يتمتعون مع ذلك بمهارة في رصد جوازات السفر الليبية المزورة والعمال المصريين الذين يصلون بتأشيرات ليبية مزورة، وقال ليتل "بل إنهم أمسكوا بي مرة لأن أوراقي لم تكن سليمة".

ويأمل المسؤولون أن يضع جواز سفر الكتروني جديد يجري العمل على إصداره نهاية للتجارة غير المشروعة والمزدهرة في وثائق السفر الليبية، أما جوازات السفر الحالية فيتم كتابة بياناتها يدويا ويسهل تزويرها.

ومع ذلك يدرك الدبلوماسيون وخبراء الأمن الغربيون حقيقة حجم التحديات ويصفون الأمن في المطار بأنه "كابوس" و"كارثة"، وقال دبلوماسي غربي "الليبيون لا يعرفون في الأساس من يدخل بلادهم ومن يغادرها"، وحتى إذا طبقت كل فحوص الأمتعة والجوازات فالمعدات ليست على مستوى المهام المطلوبة.

وقال جان أسيس مهندس الطيران المدني الفرنسي الذي تمثل شركته تسع شركات أوروبية وأمريكية لصناعة المعدات الأمنية لها نشاط في ليبيا "أجهزة الفحص الحالية ليس بها نظم للكشف عن المتفجرات"، وأضاف أسيس "فحص الأمتعة عفا عليه الزمن والمراقبة بالفيديو عفا عليها الزمن. 90 بالمئة من حركة البضائع لا تخضع للرقابة".

وأوقفت شركة لوفتهانزا الالمانية والخطوط الجوية النمساوية رحلاتها لتترك نشاطها المربح لشركات أخرى تتمتع بالجرأة مثل الخطوط الجوية التركية التي زادت رحلاتها، ويبلغ ثمن تذكرة الذهاب والعودة إلى لندن أو فرانكفورت مثلا ما يصل إلى ألف دولار بفضل علاوة مخاطر.

شبكة النبأ المعلوماتية- الاثنين 12/آيار/2014 - 11/رجب/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م