تمهيد
إن البحث في السياسة الخارجية متشعب وكثير التفاصيل من حيث تحديد
موضوعاته وبيان احكامه، الا ان الذي ربما يقتضيه الحال هو التعرض الى
بعض احكام العلاقات والروابط التي تشكل جوهر السياسة الخارجية للدولة،
من باب الالماع؛ إذ تقوم السياسة الخارجية في الدولة الاسلامية على
العلاقات مع المجتمع غير المسلم تارة، ومع المجتمع المسلم الذي لايخضع
الى حكومة الدولة الاسلامية لموانع وأسباب جغرافية أو سلطوية أو ما
أشبه تارة اخرى، وهذه السياسة تقوم على مبادئ عامة تحدد كيفية العلاقات
وجوهرها، وهي عديدة من أهمها مايلي:
1- حرية الدعوة إلى الإسلام.
2- الاستقلال التام وعدم التبعية.
3- السلام وعدم الاعتداء على الغير.
4- التعاون على أساس العدالة والتكافؤ والتكافل.
5- الوفاء بالمعاهدات والمواثيق.
6- ردع الظلم والعدوان.
ومن الواضح أن تكوين العلاقات مع العالم الخارجي بنحويه يمكن أن
يكون على أساس المبادئ العادلة، ويمكن أن تتحكم به المبادئ الظالمة
وأدلة العلو[1] ونفي السبيل[2] وتسلط الناس على أموالهم[3] وعلى أنفسهم
ونحو ذلك من الأدلة تقتضي أن تكون العلاقات مع العالم خاضعة لمبادئ
الاستقلال والعدالة والتعاون، وأما في غير ذلك فالظاهر أنها من
المحرمات المؤكدة.
وكيف كان، فإن الحديث بنحو الإجمال عن ذلك يستدعي تصنيف البحث عن
العلاقات الخارجية الى صنفين:
الأول: العلاقات مع العالم غير الإسلامي.
الثاني: العلاقات مع العالم الإسلامي.
الأمر الأول: في ملامح العلاقات مع العالم غير الاسلامي
يمكن تصنيف العالم غير الاسلامي الى ثلاثة أصناف:
الأول: المحايدون، وهم الذين ليسوا في حالة حرب مع المسلمين، ولا
عقدوا معهم معاهدات، سواء كانت لهم علاقات مع المسلمين أو لا.
الثاني: المعاهدون، وهم الذين تربطهم مع المسلمين معاهدات ومواثيق.
الثالث: المحاربون، وهم الذين نصبوا العداء للمسلمين، أو دخلوا معهم
في حالة حرب بالفعل.
أما القسم الأول وهم المحايدون الذين لا تربطهم بالمسلمين معاهدات،
ولكن ليس بينهم وبين المسلمين حالة حرب او عداء، فهؤلاء لهم السلام
وضمان عدم الاعتداء ما داموا على الحياد مع انفتاح المسلمين على كل
بادرة لإنشاء علاقات صداقة وتعاون على أساس العدالة والتكافؤ؛ وذلك لأن
الأصل في العلاقات هو السلام والتعاون والبر.
قال عز وجل: {لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم
يخرجوكم من دياركم أن تبروهم وتقسطوا إليهم إن الله يحب المقسطين}[4]
وإطلاقها يشمل مختلف حالات الحياد، فيجوز للدولة الإسلامية أن تحسن
وتبر وتقسط مع المجتمع غير المسلم الذي لا يحارب ولا يظلم المسلمين.
وثمة حالة أخرى من حالات الحياد، وهي ما إذا كان المسلمون في حالة
حرب مع بعض أعدائهم، وكان ثمة قوم آخرون لم يدخلوا في هذه الحرب، لكن
تربطهم بالمحاربين للمسلمين علاقات، ولكنهم تجنبوا محاربة المسلمين، أو
إسناد هؤلاء لمحاربة المسلمين، فإنه يجري عليهم حكم الحياد أيضاً، وقد
بيّن سبحانه وتعالى حكم هذه الحالة في مثل قوله عز وجل مخاطباً الأمة
بالتكليف الشرعي: {إلا الذين يصلون إلى قوم بينكم وبينهم ميثاق أو
جاءوكم حصرت صدورهم أن يقاتلوكم أو يقاتلوا قومهم ولو شاء الله لسلطهم
عليكم فلقاتلوكم فإن اعتزلوكم فلم يقاتلوكم وألقوا إليكم السلم فما جعل
الله لكم عليهم سبيلا ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم كل
ما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم
ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم وأولئك جعلنا لكم عليهم
سلطاناً مبيناً}[5]
وأما القسم الثاني: فهم المعاهدون، وهم صنفان:
الأول: أهل الذمة الذين يعيشون بين ظهراني المسلمين في عقد الذمة.
الثاني: غير الذميين ممن تربطهم بالمسلمين علاقات صداقة، أو تعاهد
سلام ومصالحة وتفاهم، وهؤلاء لهم من المسلمين الوفاء الكامل والسلام
والتعاون على قاعدة المساواة والتكافؤ؛ إذ يجب الوفاء للمعاهدين
بعهودهم، ويحرم نقضها والإخلال بها ما داموا أوفياء بها، فإن الوفاء
بالعهود والمواثيق من أعظم الواجبات في الإسلام، وقد نهى الله تعالى
نهياً صارماً عن نقض العهود. قال تعالى: {وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم
ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلا إن الله
يعلم ما تفعلون* ولا تكونوا كالتي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون
أيمانكم دخلاً بينكم أن تكون أمة هي أربى من أمة إنما يبلوكم الله به
وليبينن لكم يوم القيامة ما كنتم فيه تختلفون}[6] وعليه فإذا دخل
المسلمون في عهد وميثاق مع غير المسلمين وجب الوفاء لهم بما عاهدوهم
عليه. قال عز وجل: {إلا الذين عاهدتم من المشركين ثم لم ينقصوكم شيئاً
ولم يظاهروا عليكم أحداً فأتموا إليهم عهدهم إلى مدتهم إن الله يحب
المتقين}[7] وقال عز وجل: {فما استقاموا لكم فاستقيموا لهم إن الله يحب
المتقين}[8] وفي الحديث الوارد عنهم عليهم السلام: «المؤمنون عند
شروطهم»[9] فيجب احترام الكفار الذين دخلوا في معاهدة مع المسلمين، كما
يجب الالتزام بشروط عقد الذمة للأقليات التي تقطن البلد الإسلامي، بل
يجب إعطاؤهم حقوقهم واحترامهم في عقيدتهم وأموالهم ودمائهم وأعراضهم
وحقوقهم السياسية والإنسانية بشرط أن لا يتجاهروا بالمناكير كما عرفت
تفصيله.
وأما إذا نقض الكفار عهودهم مع المسلمين وجب على المسلمين بهذه
الحالة أن يعاملوهم بالمثل، وإذا اقتضى الأمر قتالهم وجب قتالهم إلى أن
يخضعوا. قال عز وجل: {إن شرّ الدواب عند الله الذين كفروا فهم لا
يؤمنون الذين عاهدت منهم ثم ينقضون عهدهم في كل مرة وهم لا يتقون فإما
تثقفنهم في الحرب فشّرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون وإما تخافن من قوم
خيانة فانبذ إليهم على سواء إن الله لا يحب الخائنين}[10] لقد اشتملت
آيات وجوب الوفاء الآنفة الذكر على حكم نقض غير المسلمين لعهودهم،
ويلاحظ أن الخطاب في جميع الآيات بشأن الالتزام بالعهود والوفاء بها
وحرمة نقضها موجّه إلى الأمة بنحو عام، فهي مكلفة بالوفاء والمسؤولة
عنه، وأما إبرام العهود والمواثيق فهو من شؤون القيادة العليا؛ لتوقفه
على تشخيص الموضوع ومعرفة الأهم والمهم، كما أن سلطة إنهاء المواثيق
كذلك، لتوقفها على ظهور أمارات الخيانة من قبل الكفار، وهذه من شؤون
القيادة العليا كما أشارت إليه الآية السابقة.
وأما المحاربون فهم الأعداء الذين وقعوا في محاربة المسلمين، فليس
لهم عند المسلمين إلا الحرب دفاعاً كما عرفت مما تقدم. هذه بعض الملامح
العامة التي ينبغي أن تخضع لها سياسة الدولة الإسلامية في علاقاتها
الخارجية مع غير المسلمين.
الأمر الثاني: في ملامح العلاقات مع العالم
الإسلامي
المقصود من العالم الاسلامي هنا البلدان التي لاتخضع لنفوذ الدولة
الإسلامية، سواء بسبب الفواصل الجغرافية والحدودية المفروضة عليه أو
التقسيم القانوني الوضعي أو السياسة القومية والعرقية كما عليه الحال
الآن، - حيث تقسمت بلاد المسلمين الى دول ومجتمعاتهم الى أمم – ولامانع
من اقامة العلاقات معها، بل هي واجبة شرعا وعقلا، ووجههما ظاهر. قال
تعالى: {إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله
والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا
ما لكم من ولايتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم
النصر إلا على قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير}[11] وقال
تعالى: {وما كان لمؤمن أن يقتل مؤمناً إلاّ خطأ ومن قتل مؤمناً خطأ
فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلمة إلى أهله إلاّ أن يصّدقوا فإن كان من قوم
عدو لكم وهو مؤمن فتحرير رقبة مؤمنة وإن كان من قوم بينكم وبينهم ميثاق
فدية مسلمة إلى أهله وتحرير رقبة مؤمنة}[12] والمستفاد من الآيتين
الشريفتين أن العلاقات بين الدولة الإسلامية وبين المسلمين الخارجين عن
سلطتها أو الذين لا ينتمون إليها هي علاقات دينية وروحية قائمة على
أساس الأخوة والأمة الواحدة، وليست علاقة سياسية دائمة، بحيث تقتضي
التزامات لهم ولأجلهم من قبل الدولة الإسلامية، إلاّ في حالة واحدة وهي
ما إذا اعتدي عليهم من قبل غير المسلمين، أو تعرّضوا إلى فتنة أو ظلم
وأمكن الدفاع عنهم أو إنقاذهم منه، فإنه حينئذ يجب على القادرين
إنقاذهم او نصرتهم؛ لما عرفت من أن الإسلام لا يحدد الجهاد بقيد أو ملة،
وإنما يجاهد لأجل إعلاء كلمة الله، ولأجل إنقاذ المستضعفين، فما بالك
بالمسلمين؟ نعم يتقيد هذا الوجوب في حالة ما إذا لم يكن بين هؤلاء
الخصوم وبين المجتمع الإسلامي ميثاق يقتضي امتناع المسلمين عن الحرب
ضدهم لو كانوا أوفياء وملتزمين بميثاقهم، كمالا يجوز للمجتمع الاسلامي
أن ينصر هؤلاء المسلمين غير المنتمين إليه في الأرض والعضوية على
الكفار المعاهدين.
والملحوظ في مضمون الآية الشريفة الثانية التفريق بين المؤمن
المقيم وبين قوم كفار في حالة عداء وحرب فلا دية له، وبين المقيم بين
قوم كفار تربطهم بالمسلمين المواثيق، فلو قتل المسلم معاهدا خطأ فالدية
لأهله والكفارة، كالمسلم الذي يقتل خطأ في المجتمع الإسلامي.
والظاهر أن الفرق بينهما من جهة أن المقيم بين المعاهدين يعد
منتمياً إلى المجتمع الإسلامي؛ لأنه مقيم في مجتمع معترف بهم سياسياً،
والمقيم بين المحاربين هو عدو لا يعتبر منتميا إلى المجتمع الإسلامي،
فلا يتمتع بحقوق المواطنة السياسية، لكن لا يخفى أن عدم دخول الدولة
الإسلامية في الحرب مع من عقد معها المواثيق لا يمنع من تدخل هذه
الدولة لإقامة الصلح والتفاهم بين من تحاربه من المسلمين وبينها.
الأمر الثالث: في مبادئ السياسة العامة
للدولة
ينبغي أن تقوم سياسة الدولة على مبادئ ثلاثة قد تكون من المعايير
المهمة في عدالة الدولة وشرعيتها، وقد عرفنا جملة من شرائط شرعية
الدولة والحاكم في المبحث الثالث، وأما هنا فنشير إلى النهج العملي
الذي ينبغي أن تقوم عليه سياسة الدولة، وأهم المبادئ التي يقوم عليها
هذا النهج أمور ثلاثة هي:
الأول: الشورى.
الثاني: المرونة واللاعنف.
الثالث: العدالة.
أما الأول والثاني فقد عرفت تفصيل الكلام فيهما فيما تقدم، وأما
الثالث فالمستفاد من متضافر الآيات والروايات أن المبدأ الأساس الذي
تقوم عليه سياسة الدولة العامة في علاقاتها الداخلية والخارجية
ورسالتها العالمية هو أن يقوم الناس بالقسط، أي أن يكون مبدأ العدالة
هو المبدأ الحاكم والمسيطر على الحياة الخاصة والعامة للبشر في
المجتمعات السياسية.
قال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا
يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله
إن الله خبير بما تعملون}[13] وقال عز وجل: {والسماء رفعها ووضع
الميزان أن لا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا
الميزان}[14] وهذا المبدأ يجب أن يكون حاكماً على الإنسان في خاصة نفسه
في علاقته بربه وعلاقته بمجتمعه، وفي أعماله الشخصية، فعلى المسلم في
جميع الأحوال أن يكون عادلا، كما يجب أن يكون حاكماً على الجماعة في
علاقاتها مع الأفراد والجماعات الأخرى، كما يجب أن يكون حاكماً على
المجتمع السياسي في علاقاته الداخلية بين جماعاته وأفراده، وبين
الحكومة والشعب، وبين الشعب والحكومة، وفي علاقاته ومعاملاته الخارجية
مع المجتمعات الأخرى.
وهذا المبدأ هو الأساس الذي يميز المجتمع السياسي المسلم عن
المجتمعات الأخرى القديمة والحديثة، فهذه المجتمعات والحضارات منها ما
كان يقوم على مبدأ الاستبداد، ومنها ما كان يقوم على مبدأ الحرية
اللامحدودة، ومبدأ الاستبداد كان هو الغالب على المجتمعات السياسية
القديمة، ومبدأ الحرية هو الغالب على المجتمعات السياسية الحديثة،
خصوصاً في الدول الكبرى، ولكن التشريع الإسلامي رفض هذين المبدأين في
تكوين المجتمع السياسي والدولة والنظام السياسي؛ لأن الإسلام دين
الوسطية فلا استبداد فيه، ولا حرية مطلقة، فرفض مبدأ الاستبداد رفضاً
مطلقاً؛ لأنه يؤدي إلى الظلم والطغيان والسيطرة على الناس من دون رضا
منهم، كما رفض مبدأ الحرية المطلقة باعتباره يتنافى مع الحدود الإلهية
التي أقرت الحرية المنضبطة، وأوجبت مراعاة اصناف الحقوق الثلاثة.
ومن هنا ربما يتفرع السؤال الذي يقول: هل الأصل في السياسة
الإسلامية الحرية أم الأصل العدالة؟ وهذا يرجع إلى ملاحظة النسبة
المنطقية بينهما، وفي تحديد هذه النسبة آراء ثلاثة:
الأول: يرى نسبة التساوي، فالحرية والعدالة متغايران مفهوماً متحدان
مصداقاً، وهذا ما قامت عليه السياسة الغربية.
الثاني: يرى العدالة أعم مطلقاً من الحرية، فإن ولاية الحاكم على
الشعب وولاية الوالد على الولد وما أشبه تكون خلاف الحرية، لكنها في
نفس الوقت عدل؛ لأنها تحفظ المصالح العامة.
الثالث: يرى النسبة العموم من وجه، فإن نظام الولايات هو مورد
افتراق العدالة عن الحرية، والفساد الذي تسببه الحرية اللامسؤولة هو
مورد افتراقها عن العدالة، والظاهر أن هذا الرأي هو الأقوى، لكن في
مجال التطبيق، فإن العدل هو المطلوب؛ لأنه مطلوب لذاته، ولأنه بهذا
المعنى يمنح الحرية، لأن العدل يمنع من الاستبداد والعدوان عليها،
بخلاف الحرية المطلقة فإنها تسبب الظلم.
وعليه فإن الحرية والعدالة قد يجتمعان فتكون عدالة وحرية، وذلك فيما
لو كانت الحرية مقننة ومسؤولة، وقد يفترقان فتكون حرية لا عدالة تارة
وعدالة لا حرية تارة أخرى، والمعيار الذي يستفاد من الأدلة في سياسة
الإسلام هو ملاحظة العدالة أولاً، وعلة ذلك ربما يعود إلى أن إقامة
المجتمع السياسي على مبدأ الحرية يجعل العدالة في خطر، بل كثيراً ما
يلغي العدالة ويؤدي إلى الظلم.
ومن هنا نلاحظ أن الدول التي تلتزم بالحرية المطلقة وقعت في مهاوي
الاستعمار والظلم والتعدي على الناس، فقد أثبتت تجارب التاريخ أن
الحرية لا تضمن العدالة، والمجتمعات الحديثة التي اعتمدت مبدأ الحرية
أدت بها إلى شيوع الظلم الاجتماعي والسياسي فيها، كما أدى ذلك إلى
الحروب الدائمة التي تسببها للمجتمعات الإنسانية، بينما نجد أن إقامة
المجتمع السياسي على مبدأ العدالة يصون الحرية، ويحميها من العدوان،
فالعدالة تصلح ضماناً للحرية، بينما الحرية لا تصلح ضماناً للعدالة.
ومن الواضح أن إقامة المجتمع المسلم على مبدأ العدالة يلقي على هذا
المجتمع وعلى نظامه السياسي وعلى حكومته مهمة تطبيق هذه العدالة
وصيانتها من الانتهاك والتعدي من قبل الاعتداءات الداخلية والخارجية،
وهذه المهمة ليست مهمة وعظية ونظرية، وإنما هي مهمة عملية لا يمكن
القيام بها على وجهها الصحيح من دون امتلاك وسائل تنفيذها على من يتعدى
أو يهم بالتعدي عليها.
ولذا فيجب أن يمتلك المجتمع المسلم وسائل وأدوات تنفيذ العدالة
وحمايتها من الانتهاك والتعدي، وهذا ما أومأت إليه الآيات العديدة
الدالة على لزوم الاستعداد بالقوة، والآيات الدالة على لزوم الدعوة إلى
الخير والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، مضافاً إلى أدلة الحسبة وما
أشبه ذلك.
الأمر الرابع: مسائل وتفريعات
المسألة الأولى: في حرمة العلاقات مع الدول الاستعمارية
لا يجوز إقامة العلاقات مع الدول الاستعمارية، لأنها توجب سلطنة
الكفار على المسلمين، وهي منافية لقوله عز وجل: { لن يجعل الله
للكافرين على المسلمين سبيلا}[15] ولوجوب علو الاسلام والمسلمين
المستفاد من مثل قوله (صلى الله عليه وآله): «الإسلام يعلو ولا يعلى
عليه»[16] بل هو المنصوص عليه في مثل قوله سبحانه: {يا أيها الذين
آمنوا لا تتولوا قوماً غضب الله عليهم}[17] والذين يغضب الله عليهم هم
الذين يظلمون الناس، ويصادرون أموالهم، ويغتصبون حقوقهم، وينشرون
الفساد في الأرض. وإطلاقها يشمل غير المسلمين، وعلى فرض التخصيص
بالمسلمين فدلالتها على حرمة تولّي غيرهم بالأولوية.
المسألة الثانية: في جواز العلاقات مع الدول المحايدة
يجوز إقامة العلاقات مع الدول المحايدة وعقد الاتفاقات التجارية
والاقتصادية والسياسية ونحوها معها على أن تكون في إطار الاستقلال
واحترام الآخر.
المسألة الثالثة: في وجوب الهجرة من بلاد الكفر
يجب على المسلم الهجرة من بلاد الكفر إلى بلاد الإسلام لو منع من
إقامة شعائر دينه، وفي المهذّب دعوى الإجماع [18]، وفي الجواهر نفى
الخلاف فيه [19]، وفي المسالك عن الشهيد (قدس سره) الحاق بلاد الخلاف
ببلاد الشرك التي لايتمكن فيها المؤمن من إقامة شعائر الإيمان [20].
قال تعالى: {إن الذين توفاهم الملائكة ظالمي أنفسهم قالوا فيم كنتم
قالوا كنا مستضعفين في الأرض قالوا ألم تكن أرض الله واسعة فتهاجروا
فيها فأولئك مأواهم جهنم وساءت مصيرا}[21] وعن النبي الأعظم (صلى الله
عليه وآله) أنه قال: «ألا إني بريء من كل مسلم نزل مع مشرك في دار
الحرب»[22] وعنه (صلى الله عليه وآله): «لا ينزل دار الحرب إلاّ فاسق
برئت منه الذمة» [23].
وحيث إن المناط المستنبط من ذلك هو وجوب علو الإسلام لتقييدهم وجوب
الهجرة بعدم التمكن من إقامة شعائر الإسلام، فقد ذكر الفقهاء فروعاً في
المسألة
منها: ما ذكره السيد الأستاذ (قدس سره) في الفقه حيث قال: هل
المعيار في وجوب الهجرة بلد الكفر أو القطر الكافر؟ الظاهر بقرينة
الآيات والروايات المتقدمة البلد الكافر، فإذا كانت مملكة كافرة فيها
بلد مسلم يتمكن المسلم فيه من إقامة شعائر الإسلام لم تجب الهجرة، ولو
انعكس بأن كان القطر كافرا لكن البلد كان مسلما لم تجب الهجرة فيها إذا
تمكن المسلم من إقامة شعائر الإسلام[24].
المسألة الرابعة: في حرمة الاعتراف بالظالمين
يحرم على المسلم أو الدولة الاسلامية الاعتراف بدولة أخرى غير
إسلامية، سواء كانت غير إسلامية من جهة كفرها وحربها للاسلام، أو من
جهة عدم عملها بقوانين الاسلام، وذلك لحرمة تأييد الكفر والظلم.
المسألة الخامسة: في وجوب انقاذ الحقوق المغتصبة
يجب على المسلمين دولا وأفرادا السعي لاسترداد الأراضي الاسلامية
التي أخذها الكفار من المسلمين، كالهند وبلاد المسلمين في الصين وروسيا
وأوربا واسبانيا وفلسطين وغيرها؛ إذ الغصب لها بطول المدة لايجعل يد
الغاصب عليها شرعية، كما أن الواجب شرعا ايصال مظالم الكفار على
المسلمين الى سمع العالم حتى يكون ذلك مقدمة لانقاذهم، فان انقاذ
المسلم المضطهد واجب بالادلة الاربعة.
المسألة السادسة: في وجوب التحرر من الاستعمار
يحرم على المسلمين ربط البلاد بالاستعمار العسكري، كما يحرم عليهم
ربطها بالاستعمار الفكري والاقتصادي والسياسي، ويجب على كل مسلم ان
يجاهد بانواع الجهاد لانقاذ البلاد من الاستعمار باشكاله المختلفة، فان
كل اضرار بالمسلمين محرم، وكل سبب من اسباب علو الكافر على المسلم حرام،
ويجب على كل مسلم العمل لاستعادة الحقوق المغصوبة الى المسلمين، وليس
الواجب منحصرا باهالي البلد المستعمر، بل عام على المسلمين، لان الجهاد
واجب على عموم المسلمين، وقد ورد في قوله عزوجل: { أشداء على الكفار
رحماء بينهم} [25] مايشير الى ذلك، وفي الحديث: «من سمع رجلا ينادي
ياللمسلمين فلم يجبه فليس بمسلم»[26] كما لايختص الانقاذ باهل لغته
ونحو ذلك، فان المسلم اخو المسلم من غير فرق بين الالوان والاقطار
واللغات والقوميات. نعم ينبغي ان يتقيد ذلك بالموازين الشرعية.
* فصل من كتاب فقه الدولة
وهو بحث مقارن في الدولة ونظام الحكم على ضوء
الكتاب والسنة والأنظمة الوضعية
** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء
المقدسة
*** للاطلاع على فصول الكتاب الاخرى
http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/fadelalsafar.htm
.............................................
[1] لما ورد عن رسول الله (صلى الله عليه وآله):
الاسلام يعلو ولايعلى عليه» عوالي اللآلي: ج3 ص496 ح5.
[2] لقوله تعالى: ولن يجعل الله للكافرين على
المؤمنين سبيلا سورة النساء: الآية 141.
[3] لما ورد عنه (صلى الله عليه وآله): الناس مسلطون
على اموالهم» عوالي اللآلي: ج1 ص222 ح99.
[4] سورة الممتحنة: الآية 8.
[5] سورة النساء: الآية 90 – 91.
[6] سورة النحل: الآية 91 – 92.
[7] سورة التوبة: الآية 4.
[8] سورة التوبة: الآية 7.
[9] عوالي اللآلي: ج1 ص235 ح84.
[10] سورة الانفال: الآية 55 – 58.
[11] سورة الانفال: الآية 72.
[12] سورة النساء: الآية 92.
[13] سورة المائدة: الآية 8.
[14] سورة الرحمن: الآية 7 – 8.
[15] سورة النساء: الآية 141.
[16] عوالي اللآلي: ج3 ص496 ح15.
[17] سورة الممتحنة: الآية 13.
[18] مهذب الاحكام: ج15 ص100.
[19] الجواهر: ج21 ص34.
[20] مسالك الافهام: ج3 ص17.
[21] سورة النساء: الآية 97.
[22] الكافي: ج5 ص43 ح1.
[23] مستدرك الوسائل: ج11 ص 89 ح12489 باب 34 من
كتاب الجهاد.
[24] الفقه كتاب الجهاد: ج47 ص131 بتصرف.
[25] سورة الفتح: الآية 29.
[26] التهذيب: ج6 ص175 ح351 ؛ الوسائل: ج28 ص385 ح20
– 35 باب 7 من ابواب الدفاع. |