شبكة النبأ: بإمكان وسائل الاعلام
المختلفة، لاسيما القنوات الفضائية، ان تكون أداة توعية وتثقيف، مثلما
يمكن ان تكون سبيلاً لإثارة العواطف والمشاعر. وفي مقال سابق ذكرنا أن
تكريس الوعي ونشر المعرفة بحاجة الى ادوات وعوامل وجهود ذهنية وعضلية
مع سجل حافل بالتجارب الثرية، حتى يُصار الى تحقيق عملية ثقافية من
خلال وسائل الاعلام، وهذا يستغرق زمناً، ربما يطول او يقصر. بينما
الإثارة، لن تكن بحاجة سوى الى قرار من المدير او المشرف العام عندما
يجد مصلحة محطته الفضائية او أي وسيلة اعلامية اخرى، في إثارة هذه
القضية الانسانية او تلك، نظراً الى وجود أصل المادة الاعلامية الجاهزة
في الساحة، متمثلة في الازمات والمشاكل التي تعيشها المرأة الأرملة او
الطفل اليتيم او المتقاعد الطاعن في السنّ، او الشاب الباحث عن عمل
وهكذا.
ثم هنالك اتجاهان في مسألة إثارة العواطف والمشاعر الانسانية: الاول:
يكون سلبياً، والاخر ايجابياً، فالاتجاه الاول، يحمل الانسان على
التوتر والاضطراب. ولعل أبرز الامثلة، إثارة الغريزة الجنسية او النزعة
العنصرية او الطائفية، مما يطلق عليه احياناً بـ "الإثارة الرخيصة".
أما الاتجاه الثاني، فهو على العكس تماماً، يحمل الانسان الى حيث
التحابب والتعايش والشعور بالمسؤولية أزاء الآخرين.
بعض وسائل الاعلام ذات التوجهات السياسية والاهداف الحزبية والفئوية،
ترى أن سرعة الوصول الى المتلقي من أهم اولويات الجهة التي تمد وتدعم
القناة الفضائية او المجلة او الصحيفة، لذا نجد اعتماد هذا النمط من
الاعلام الموجه، في الاغلب على المادة الخبرية، اكثر من المقالة
والتحليل والدراسة. ففي الخبر الواحد ذو الاسطر المعدودة بالامكان
إثارة شريحة لايستهان بها في المجتمع وتوجيهها الوجهة المطلوبة. وهذا
ما فعله نظام صدام البائد في بدايات استيلائه على الحكم، عندما عمل على
إثارة النزعة العنصرية – القومية، ومحاولة تعميمها على شرائح المجتمع
العراقي، كمقدمة لتنفيذ أجندات متفق عليها سلفاً، وعند اندلاع الحرب
العراقية – الايرانية، انتقل العمل على هذه الإثارة الى سائر الدول
العربية لمزيد من التحشيد والتعبئة.
وفي مرحلة ما بعد نظام صدام، لاحظنا التحول الى الإثارة الطائفية،
بحيث تحولت قنوات فضائية ادّعت لسنوات التزامها الحياد الموضوعية، الى
أبواق تزعق بالطائفية المقيتة وتدعو بشكل سافر الى الكراهية والانقسام
بين ابناء البلد الواحد.
ربما يذهب البعض الى القول؛ بان مسألة إثارة العواطف والمشاعر، حتى
وإن كانت في جانبها السلبي، فانها تعكس الواقع الذي يعيشه الناس، لكن
هذا التبرير لن يصمد امام حقائق اجتماعية وسياسية.. فمن الذي خلق هذا
الواقع الطائفي في العراق – مثلاً-؟، وهل ان المشكلة الطائفية، هي
بالاساس مشكلة اجتماعية في العراق، أم انها سياسية بحتة؟ كذلك الحال
بالنسبة لمظاهر الفقر والحرمان المنتشرة في العراق وفي سائر البلاد
الاسلامية. فهي ازمة حقيقية تثير المشاعر الانسانية، لكن هل هي كل
المشكلة، وان حلّها سيجعل الناس تعيش الامان والرخاء؟.
هنا يأتي دور الحقيقة الذي طالما ترفعه جميع وسائل الاعلام، علماً
عالياً وتدعي المنافسة الجادّة مع الآخرين، و لفرط التفاعل مع هذا
الدور، يصاب التنافس بالحمّى فنرى تبادل الاتهامات بين هذا وذاك
بمجانبة الحقيقة تارةً، والإدعاء بالتضحية من اجلها تارة اخرى. بيد ان
السؤال المطروح دائماً؛ ما هي مواصفات الحقيقة في وسائل الاعلام؟، هل
هي واقع الحال الذي يعيشه الناس في العراق؟، اذا كان الجواب بنعم؛ فاين
الرسالة الاعلامية التي بحث فيها ونظّر، العديد من اساتذة الاعلام؟،
ليس من المعقول أن تكون مهمة وسائل الاعلام، مع كل التكاليف الباهظة
التي تستهلكها، هي تكريس الامر الواقع، او تحقيق "تحصيل الحاصل".
صحيح أن بعض الحقيقة في إماطة اللثام عن اللصوص والمفسدين والخونة
لما عاهدوا به ابناء الشعب خلال الحملات الانتخابية، بيد ان الصحيح
ايضاً تسليط الضوء على العواطف والمشاعر الانسانية الداعية الى التعايش
والتكامل والشعور بالمسؤولية، فهذه – باعتقادي- تمثل جزءاً كبيراً من
الحقيقة التي ربما يتجاهلها الكثير من ارباب الاعلام، في اوساط المجتمع
العراقي – على وجه التحديد-. فقد عُرف الشعب العراقي منذ البداية، من
خلال صفاته وخصاله الأصيلة، التعايش السلمي بين مكوناته، وايضاً
بمرونته وانفتاحه على العالم.
لنضع هذه الحقيقة الانسانية الناصعة الى جانب الحقيقة المرة لواقع
الساسة والمجتمع، بما فيه من مساوئ ومفاسد، وكل ما يدعو الى الخيبة
واليأس والهزيمة، أيهما يكون جديراً بالإسهام في البناء الحضاري
للبلد؟.
ثم علينا ان نتذكر دائماً حقيقة علمية اخرى تتصل بالاعلام، مفادها؛
ان الترويج للظواهر السلبية يؤدي بالضرورة ان تكريسها، ومن ثم تحولها
الى امر واقع وبديهي، وربما تكون طابعاً للمجتمع يُعرف به، مثال ذلك،
العنف والفقر والفساد.. ففي أي مكان يثار الحديث حول هذه الامور او
الكشف عن فضائح جديدة، فان رد الفعل لن يكون اكثر استمتاع بتداول الخبر
او التشفّي او تبرير حالة التخلف والهزيمة وثقافة اللامسؤولية المنتشرة
بين الناس. فهل هذا ما هدف وسائل الاعلام حقاً. |