شبكة النبأ: شعب نسج آماله وطموحاته
بآلامه وحرمانه، وعبّد طريقه نحو تحقيق اهدافه ونيل مطالبه بالدماء
والاشلاء. فغُرست كل المشاعر السلبية أزاء الآخرين في الجينات، فكل
مولود قبل ان يرى النور، يطالب من يراه امامه بحقه المضيّع. انه الشعب
الكردي حول العالم.. ولمعرفة خلفية المطالبات الصادرة اليوم من شمال
العراق، لابد ان نتذكر بالأول، ان كُرد العراق، يشعرون اليوم، انهم
اكثر من تضرر جراء تطبيق المعاهدة التاريخية الشهيرة المعروفة بـ"سايكس
بيكو" عام 1916، لانها اخرجتهم من سلطة الدولة العثمانية المنهارة،
وادخلتهم ضمن خارطة دولة حديثة النشوء، تمثل هي إحدى أغنى التركات
العثمانية، أعني العراق.. فالكُرد في ايران بقوا في نطاق دولة، كما بقي
اكراد تركيا في نطاق دولة هي الأخرى، بمؤسساتها الدستورية ونظامها
الإداري والعسكري.
ومنذ ذلك الحين، وأكراد العراق لم يتذوقوا طعم الاستقرار والامان
والراحة في المناطق التي منحت لهم وفق التقسيم الاستعماري الجديد الذي
بدأ تفعيله عام 1920، وفق معاهدة "سان ريمو"، وحسب المصادر فانهم كانوا
موعودين بوطن قومي مستقل يجمع اقرانهم في تركيا وايران وايضاً سوريا
وجزء صغير في الاتحاد السوفيتي السابق، جمهورية ارمينيا الحالية، بيد
ان البريطانيين نكثوا بوعدهم، لذا نجد قابلية اثارة المشاعر القومية
لدى اكراد العراق، اكثر بإضعاف من اقرانهم في البلاد المجاورة، ابرزها
الانتفاضات المسلحة والمطالبة بالانفصال أو على الاقل الحصول على "الحكم
الذاتي"، كان آخرها وربما أقواها، التحرك المسلح الذي قاده الملا مصطفى
البارزاني في ستينات وسبعينات القرن الماضي.
وحسب خبراء، فان مشكلة الدولة في العراق منذ تشكلها عام 1920، وصعود
انظمة حكم بأيديولوجيات مختلفة صاغت الهوية الوطنية للعراق بشكل متعاقب،
هي التي شجعت وما تزال، الكُرد على خوض مضمار المنافسة مع الشيوعيين
والقوميين للحصول على موطئ قدم على الخارطة العراقية. وهذه الثغرة
تحديداً استغلتها الدوائر المخابراتية والعواصم الدولية المعنية،
لاسيما واشنطن، لتحفيز المشاعر القومية وتسهيل أمر المطالبة بالحقوق
المفترضة من بغداد، نظراً إلى ان الحكومات المركزية في بغداد كانت تشكو
دائماً حالة العجز عن الاخذ باطراف النسيج الاجتماعي للشعب العراقي، بل
كانت تعشعش على التمزق والتشتيت.
حقيقة الضعف المزمن في كيان الدولة العراقية، ربما أخفى حقيقة
البنية الاجتماعية في العراق والقائمة على التعايش والوئام، إلا ما
يطرأ من اهتزاز في العلاقات بين الطوائف والشرائح بفعل تدخلات
استعمارية او ايديولوجية قادمة من الخارج. فالاحزاب السياسية الكردية
التي تشكلت اواسط القرن الماضي، تجاهلت بالمرة الوضع النفسي والاجتماعي
للكرد والذي كان في أحسن حال قياساً بما موجود في البلاد الاخرى
الحاضنة لهم. يُضاف إلى الخيرات الوفيرة وفرص العمل الكثيرة في العراق،
اكثر مما كان موجوداً في ايران وتركيا وسوريا. بل تركز العمل الثقافي
بشكل مكثف ومقصود خلال العقود الماضية، على تكريس الشعور العدائي في
نفوس الكُرد أزاء العرب، وانه من المستحيل العيش إلى جانبهم ضمن وطن
واحد، والدليل الذي تسوقه الادبيات الكردية هي المعارك الدامية التي
خاضوها وتحملوا بسببها التشريد والابادة الجماعية وحتى انتهاك الحرمات
والاعراض.
وإشاعة مقولة المسؤولية الكاملة على ابناء الشعب العراقي في ما
لاقاه الكُرد من إبادة جماعية وتشريد وتقتيل، بينما الحقائق الدامغة
تشير إلى ان الطائرات التي قصفت حلبجة بالقنابل الكيماوية او عمليات
"الانفال" وغيرها، جاءت مباشرة من صدام وليس شخصاً آخر.
على اساس هذه العقدة المفتعلة، تم تأسيس اقليم كردستان بدعم مباشر
وكبير من الولايات المتحدة، عام 1991، وبنفس هذا الدعم فرض على الدستور
العراقي، بند غير مألوف عليه ولا على النظام السياسي طيلة القرن
الماضي، وهي أن يكون "فيدرالي، اتحادي، تعددي"، في حين لم يكن الساسة
الكُرد يجهلون الطبيعة الديكتاتورية للحاكم والمركزية في الحكم التي
طبعت النظام السياسي منذ نشوء العراق كدولة مستقلة. وكان واضحاً منذ
البداية أن فكرة الفيدرالية لم تكن لتكريس الوطن الواحد، وحلاً لمشاكل
العراق السياسية، او بديلاً للنظام الاستبدادي، بقدر ما كان وسيلة
لممارسة الضغط على الحكومة في بغداد لكسب المزيد من الامتيازات
السياسية والمالية.
وقد لاحظ المراقبون في كل مكان الحالة النادرة في التعامل مع قضية
اثنية في العراق، فقد فرض الكُرد لغتهم على الوثائق الرسمية العراقية
وفي المنهج الدراسي، كما استقلوا بعلم مستقل ذو طابع رسمي يرفع إلى
جانب العلم العراقي المعروف خلف الشخصيات السياسية وعلى أسطح البنايات،
وهي سابقة غير معهودة في الانظمة السياسية في العالم.
وبعد فقرة "التطبيع" في الدستور العراقي، بدأ الكُرد في الوقت
الحاضر بالحديث عن "الكونفدرالية" كمطلب جديد يتجاوز "الفيدرالية" التي
يعدونها مستهلكة وغير مجدية للمرحلة القادمة، حيث يفكرون بالتقدم خطوات
ابعد في مشاريعهم الاقتصادية والتجارية في الاقليم، ثم التفكير الجدّي
باستثمار حقول النفط وانهاء الجدل الدائر بينهم وبين بغداد حول أحقية
استخراج واستثمار وتصدير النفط من الاقليم إلى الخارج.
ويعتقد الساسة الكُرد الذين اطلقوا تصريحات مؤخراً عن
"الكونفدرالية"، انها يمكن ان تكون وسيلة ضغط جديدة على بغداد لتقديم
المزيد من التنازل لهم، فهم يحصلون على حصة مفترضة وفق القانون من
عائدات النفط بنسبة (17) بالمئة، كما يحتفظون بحقهم في الايرادات
الجمركية للمنافذ الحدودية مع ايران وتركيا، وايضاً ما يجنوه من تهريب
كميات لا بأس بها من النفط العراقي إلى دول الجوار باسعار مغرية.
ان الترويج للانفصال الاقتصادي حسب التصريحات الموجودة، يلغي فكرة
التعايش في اطار الوطن الواحد، فاذا كان الانسان الكردي يرى مصالحه
الاقتصادية ونمط عيشه وحياته منفصلة عن نظيره العربي في الوسط والجنوب،
فهل يجمعه النظام السياسي القائم في العراق والمليء بالثغرات؟ وهذا
يبين عدم صدقية التصريحات من اكثر من مسؤول كردي في الآونة الاخيرة من
انهم يطالبون بالكونفدرالية ضمن الدولة العراقية الحالية.. وانهم ليسوا
انفصاليين.. بينما يخرج علينا وزير الشؤون الخارجية في حكومة الاقليم،
فلاح مصطفى ليكشف مكنونات العقلية السياسية لدى بعض الساسة الكُرد بان
"العراق كان دولة مصطنعة منذ بدايته، والاكراد وصلوا الى مرحلة يجبرون
فيها على اعادة النظر في علاقتهم مع بغداد". فحتى ان كانوا يعلمون علم
اليقين باستحالة الانفصال، فان هكذا تصريحات وتصعيد للمطالب والضغوطات
تكرس من حالة الوهم في عقلية بعض الاكراد بشكل عام أزاء مستقبل الارض
التي يعيشون عليها، والنتيجة؛ لا هم يعيشون علاقات طبيعية داخل العراق
الموحد، ولا هم مطمئنين من السياسات التركية والايرانية الرامية لقمعهم
وتحجيم وجودهم على طول الخط. حتى الخيار الدولي لم يكن يوماً ضامناً
لمستقبل سياسي بعيد المدى. والنتيجة هي استمرار حالة اللااستقرار
اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً للكُرد شمال العراق. |