السودان، أكثر من غيره من دول المنطقة، يقع على نقطة تقاطع ساخنة،
بين المحاور والمعسكرات العربية والإقليمية والدولية... حتى ان
التطورات الداخلية الأخيرة فيه (مبادرة البشير، عودة الترابي إلى حضن
النظام، قبول المهدي بمبادرة الحوار وإن كان تعهد بألا يرتدي عباءة
الإخوان)، ما كان لها أن تتم وأن تتفاعل على هذا النحو المتسارع، لولا
ارتباطها بالتطورات الإقليمية المحيطة بهذا البلد.
ثمة من يربط المصالحات والمبادرات، بتداعيات ما حدث في مصر منذ
الثلاثين من يونيو الفائت، والمخاوف التي تثيرها الحملة الإقليمية على
الإسلاميين والإخوان بخاصة، لدى بعض أوساط السلطة والمعارضة على حد
سواء... لهذا جاءت المبادرة الرئاسية، ولهذا تجاوب معها خصوم الأمس،
وأشد خصوم النظام انتقاداً له.
وثمة من يؤشر بأصابع الاتهام إلى دور قطري وازن، توّج بزيارة الأمير
تميم إلى الخرطوم مؤخراً، واستقبال الدوحة عدد من الرموز السودانية،
والهدف كما تقول: البرهنة على قدرة قطر على الخروج من أطواق العزلة
التي سعت السعودية والإمارات والبحرين في فرضها عليها من جهة، وترتيب
البيت السوداني الداخلي، بدءاً بترتيب البيت الإسلامي الصديق لقطر، من
جهة ثانية.
مثل هذه التطورات، تزعج بلا شك محوراً آخر في المنطقة، وهو المحور
السعودي – المصري – الإماراتي، الذي بدأ يصدر إشارات دالة على عمق
استيائه من التطورات الداخلية في السودان، والتقارب مع قطر، ومن خلفها
أنقرة وتيار الإخوان الأعرض في المنطقة، ردت عليه دول خليجية بحملة
تضييق على تحويلات العمالة السودانية، وربما بما هو أبعد من ذلك بعد
حين... ويضاف إلى ذلك، ما يُشاع عن تقارب كبير من الخرطوم وأديس أبابا،
الأمر الذي يثير قلقاً مصرياً على خلفية "أزمة سد النهضة"، وهو ما ردّت
عليها مصر، بتعزيز علاقاتها مع جوبا، وانفتاحها على أطراف سودانية
معارضة، ورافضة للحوار ومبادرة البشير...
في المقابل، ثمة محور ثالث، ينظر للسودان بكثير من الاهتمام، وأعني
به محور إيران وحلفائها... طهران تعزز علاقاتها مع الخرطوم، وهي ترى في
السوان، بوابة لدورها الإقليمي في أفريقيا، وطريقاً التفافياً للوصول
إلى "الصراع العربي – الإسرائيلي" عبر بوابة غزة وحركات المقاومة فيها
(حماس وبالأخص الجهاد)... وثمة فائض من المعلومات التي تتحدث عن تعاون
متعدد المجالات بين الخرطوم وطهران، وهذا بدوره يثير حفيظة دول المحور
السابق، فضلاً عن أطراف إقليمية ودولية أخرى.
من أبرز هذه الأطراف، إسرائيل، التي تنظر بقلق واهتمام لمجريات
الوضع السوداني الداخلي، ولتطور علاقات الخرطوم مع إيران بشكل خاص،
وربما لهذا السبب أنشأت "وحدة عمليات العمق" التي تعنى بجمع
"الاستخبارات" عن علاقات التسلح والتسليح بين إيران والسودان، ووجود
حماس والجهاد، وحكاية تهريب السلاح الإيراني إلى القطاع... وثمة مسلسل
من العمليات الإسرائيلية في الداخل السوداني، تعكس هذه الهواجس.
في غمرة الأحداث التي تشهدها المنطقة، لا يحتل السودان مساحة هامة
من التغطيات الإعلامية... بيد أن هذا البلد، يتحول شيئاً فشيئاً إلى
"خط تماس جديد" بين المحاور والعواصم الإقليمية المتناحرة، مثل غيره من
الدول والساحات العربية، وربما أكثر من غيره... ومن المتوقع للمرحلة
القادمة أن تشهد اختلالاً في حالة التوازن التي نجحت الخرطوم في حفظها
والحفاظ عليها، بين مختلف المحاور والمعسكرات، فحالة الاستقطاب في
المنطقة، تجعل محاولات حفظ التوازن في العلاقات والاتزان في المواقف،
أمراً بالغ الصعوبة.
* مركز القدس للدراسات السياسية |