سَعَتْ بِريطانيَا بَعدَ حُروبِ نَابليونَ بَونَابِرت (1799- 1815
م)، إِلى عَزلِ الوجودِ الفَرَنسِي، فِي مَنطِقَةِ الخَليجِ العَربيّ.
ولأَجلِ حِمايَةِ مَصالِحِها في الهِنْدِ، وَضعَتْ بِريطانيَا
مَنطِقَةَ الخَليجِ العَربيّ، تَحتَ وصَايَةِ التَّاجِ البريطَانيّ،
عِبْرَ اتِّفَاقِيَّاتٍ معَ الامْبرَاطُوريَّةِ العُثمَانِيَّةِ، الّتي
كانَتْ تُسمّى حِينَذَاك بـ(الرَّجُلِ المَريْضِ). وأَطلَقَتْ
بِريطانيَا، على مَشيَخاتِ وإِمَاراتِ تلكَ المنطِقَةِ، اسمَ
(المَحميَاتِ العَربيَّةِ في الخَليج). وتعَهدتْ بريطانيَا، لِحُكَّامِ
تِلكَ المَحميَّاتِ، بالاستِمرارِ بالحُكمِ، ما داموا يُديْنونَ
بالوَلاءِ لَها.
وكانَ المشَايخُ فِي تِلكَ الفَترَةِ، يتنَازَعونَ السُلطانَ فيمَا
بَينَهُمْ، كَرَّاً وفَرَّاً بَعضَهُمْ على البَعضِ الآخَر. وفِي تلكَ
الفَترَةِ، أَدركَ الاسْتِعمَارُ البريطَانيُّ، أَهميَّةَ مَنطِقَةِ
الخَليْجِ، مِن النَّاحيَةِ الاسْتِراتِيْجِيَّةِ. فهنَاكَ ثَرَواتٌ
مَدفونَةٌ، تَحتَ رِمَالِ تلكَ المَنَاطِق. إِنَّهُ الذَّهَبُ
الأًسْوَدُ، الّذي بَذَلَتْ مِن أَجلِهِ بريطانيَا، جُهُوداً عَظيمَةً
لاسِتكشَافِ مَنَاطِقِ مَخزونَاتِهِ، لا سِيَّما أَنَّ بريطانيَا،
كانَتْ رائِدَةَ الثَّورَةِ الصِّناعيَّةَ، في العَالَمِ آنذَاك،
وبالنَّفْطِ سَتَنْقُلُ بِريطانيَا صِنَاعَتَهَا، مِن عَصرِ الفَحمِ
إِلى عَصرِ البتْرُول. وكانتْ الدَّولَةُ العُثمانِيَّةُ، لا تَملِكُ
أَيَّةَ فِكرَةٍ عَن الأَهميَّةِ الاسْتِراتِيجِيَّةِ، لبُلدانِ تِلكَ
المَنطِقَة. وفِي عَامِ(1913)، عُقدِتْ مُعاهَدَةُ تَسويَةٍ بَيْنَ
بِريطانيَا والدَّوْلَةِ العُثمَانِيَّةِ، الّتي لَفَظَتْ أَنفَاسَهَا
بَعدَ انتِهاءِ الحَربِ العَالميَّةِ الأُوْلَى (1914- 1918م).
عِنْدَ انتهَاءِ الحَربِ العَالميَّةِ الأُولَى لِصَالِحِ الحُلفَاءِ،
كانَتْ جُرَاحُ بريطانيَا الاقتصَاديَّةِ عَميقَةً، الأَمْرُ الّذي
أَدّْى إِلى تَراجُعِ النُّفوذِ البريطَانِيّ، فِي المَنطِقَةِ
العَربيَّةِ، ومِنهَا مَنطِقَةِ الخَليْجِ، لِصَالِحِ النُّفوذِ
الأَمريكيَ المُتصَاعِد. ومَا أَنْ كَفْكَفَتْ حُقبَةُ السِتِّينيَّاتِ
مِن القَرنِ المُنصَرِمِ، حتّى أَصبَحَتْ السَعودِيَّةُ وإِمَاراتِ
الخَليجِ، تَحتَ السَطوَةِ الأَمريكيَّةِ بالكامِلِ، وأَخَذَتْ
بريطانيَا، تَسحَبُ قُواتَها مِن تلكَ المنَاطِقِ بالتَّتَابُع.
وأَصبَحَ الوَضْعُ السِيَاسِيّ لتلْكَ المَنطِقَةِ، تَحتَ الوِصَايَةِ
الأَمريكيَّةِ. وبدَورِهَا قَدَّمَتْ أَمريكا، كُلَّ الدَّعمِ للعوائِلِ
الحِاكِمَةِ، حتّى أَصبحَ وجودُ أَيَّ حَاكِمٍ، مِن حُكَّامِ دُوَلِ
الخَليجِ، مُرتَبِطَاً بصُورَةٍ مُباشِرَةٍ، بالإِدَارَةِ الأَمريكيَّةِ
حَصراً.
وفي مَرحَلَةِ مَدِّ التَّحرُرِ العَربيّ مِن الاستِعمَارِ
البريطَانيّ، والمرحَلَةِ الّتي تَبِعَتهَا، والّتي تُعرَفُ بمرحَلَةِ
المَدِّ القَوميّ، بَعدَ احتلالِ فِلسطينَ عَامِ 1948م، مِن قِبَلِ
المُنظمَاتِ الإِرهابيَّةِ الصِّهيونيَّةِ، وقِيَامِ الكيَانِ
الإسرائيلي، ظلَّتْ السَعوديَّةُ ودُوَلُ الخَليجِ الأُخرى، تَلعَبُ
أَدواراً سَلبيَّةً في إِضعَافِ وجودِ بَعضِ الدُوَلِ، الّتي اعتمَدَتْ
النِّظامَ الجُمهوريّ، وتَحَرَّرَتْ مِن التَّبَعيَّةِ الأَمريكيَّةِ،
كمِصرَ، والعِراقِ، وسُوريَّا، وحَتّى نِظَامِ الدِّكتورِ (مُصَدَّق)
فِي إِيْرانَ، لمْ يَسلَمْ مِن مُؤامَراتِ، دُوَلِ الخَليْج. وعَمِدَتْ
الأَنظِمَةُ الخَليجيَّةُ الحَاكِمَةُ، على شَدِّ قَبضَتِها بقُوَّةٍ
وقَسْوَةٍ على شُعوبِها، لتَضْمَنَ بقَاءَ وجُودِهَا على أَرضِ
الوَاقِعِ، ولَمْ يَكُنْ ذلكَ بدونِ الدَّعمِ الأَمريكيّ المُباشرِ لها.
مِن المُلاحَظِ أَنَّ أَنْظِمَةَ هذهِ الدُّوَلِ، ظَلَّتْ
سِياسَتُها تَمتَازُ بالمُمَيّزاتِ التَّاليَةِ:
1. تَمَسُكُهَا بشَكلٍ صَارِمٍ، بأَنظِمَةِ حُكْمٍ نَمَطيَّةٍ
مُتَخَلِّفَةٍ، تَعتَمِدُ على تَوارُثِ الحُكْمِ عَائليَّاً.
2. مِن أَجْلِ بَقَاءِ عَوائِلِ، هذهِ الأَنْظِمَةُ في الحُكْمِ،
نَجِدُ حُكَّامَهَا في حالَةِ عِداءٍ مَع القِوَى الإِصلاحِيَّةِ،
داخِلَ وخَارِجَ حُدودِ هذهِ الأَنظِمَة. وكذلكَ عِدَاؤهَا لأَيّ
دَوْلَةٍ ذَاتِ تَوَجُهٍ تَحَرُريّ إِصلاحيّ (كعِدَائِها لِلزَعيْمِ
الرَاحِلِ عَبدِ الكَريْمِ قَاسِم).
3. وَلاءُ الأَنظِمَةِ الحَاكِمَةِ لهذهِ الدُّوَلِ، إِلى
الإِدَارَةِ الأَمريكيَّةِ، بشَكلٍ قَاطِع. فَهي تأخُذُ مِن تلكَ
الإِدَارَةِ، كُلَّ مُسَبِّباتِ قُوَتِهَا ووجُودِهَا، مُقابِلَ
التَنَازُلِ لأَمريكا عَن كُلِّ شَيءٍ. حَتّى أَنَّ رُؤوسَ الأَموالِ
الضَّخْمَةِ، لِشُعوبِ تلكَ الدُّوَلِ، أَصبَحَتْ مِن أَكبْرِ
الوَدائِعِ الثَابتَةِ، فِي المَصَارِفِ الأَمريكيَّةِ. والّتي
تُشكِّلُ أَكبَرَ كُتلَةٍ نَقدِيَّةٍ، بيَدِ المَصَارِفِ الأَمريكيَّة.
وإِنَّ هذهِ الكُتلَةَ النَّقديَّةَ، تُسْهِمُ بشَكلٍ فَاعِلٍ، فِي
إِدَارَةِ عَجلَةِ الاقتِصَادِ الأَمريكيّ، وتَسِدُّ الكَثيْرَ مِن
العَجْزِ فِي الموازنَةِ التَّشغيليَّةِ للاقتِصَادِ القَوّْميّ
الأَمريكيّ. وعندَ حُصولِ أَيّ هَزَّةٍ اقتصَاديَّةٍ فِي أَمريكا،
(وهذا غيرُ مُستَبعَدٍ إِطلاقاً)، فإِنَّ جَميعَ أَموالِ شُعُوبِ
مَنطِقَةِ الخَليجِ، سَتَذْهَبُ هَبَاءً مَنثُوراً، وسَتَصبَحُ أَثَراً
بَعدَ عَيْن.
4. ابتعَادُ هذهِ الدُّوَلُ بشَكلٍ سَلبيّ، عن جَميعِ التَطلُعَاتِ
المَشروعَةِ، للأُمَّةِ الإِسلاميَّةِ عُموماً والعَربيَّةِ خُصوصَاً.
5. وقوفُ أَنظمَةِ الحُكمِ فِي دُوَلِ الخَليْجِ، مَوقِفَ المُعَادِ،
مِن أَيّ نِظَامِ حُكْمٍ فِي المنطِقَةِ، يَسلُكُ طريْقَ
الدِّيمُقراطيَّةِ، واحتِرَامَ رأْيّ الشَّعب.
6. هذه الأَنظمَةُ لهَا حضور فَاعِلٌ ومَشهودٌ، في أَيّ عَمَلٍ
يُرادُ مِنْهُ تَدميرَ مَصَالِحَ، أَيّ شَعبٍ مِن شُعوبِ المنطِقَةِ،
بُغيَةَ إِضْعَافِهِ، حتّى تشعُرَ تلكَ الأَنظِمَةُ، بالأَمنِ على
وجُودِهَا.
والشَّاهِدُ على ذلكَ، دَعْمُ هذهِ الأَنظمَةِ، لنِظَامِ صَدَّامٍ
المَهْزومِ، فِي الحَربِ العراقيَّةِ الإِيرانيَّة. كمَا أَنَّهَا
سَانَدَتْ نَفْسَ النِظَامِ، الّذي احتلَّ الكويْتَ، ودخَلَ في
الأَراضِي السَعوديَّةِ، فِي مَنطِقَةِ (الخَفجي) في 2 آب 1990م.
عِندَمَا وَجَدَتْ أَنظِمَةُ دُوَلِ الخَليجِ، ضَرورَةَ إِجهَاضِ
الانتِفَاضَةِ الشَّعبانِيَّةِ، الّتي قَامَ بها الشَّعبُ العِراقِيّ،
فِي آذار 1991م. لأَنَّ نَجَاحَ الانتِفَاضَةِ سَيُؤَثِّرُ على
وجُودِهَا مُسْتَقبَلاً.
7. لا يوجَدُ رابِطٍ تَاريخيّ، أو حَضَاريّ أو ثَقَافيّ أو فِكْريّ،
أو حتّى اسْتِراتِيجيّ، يَربِطُ عَناصِرَ هذهِ الأَنظِمَةِ، بَعضَها معَ
البَعضِ الآخر. سِوَى كيْفيَّةِ حِفْظِ كُلِّ نِظَامٍ لوجُودِهِ، بَيْنَ
الأَنظِمَةِ العَائليَّةِ أَو العَشَائريَّةِ الأُخرى.
8. يَجبُ أَنْ لا نَنْسَى، أَنَّ تَاريخَ هذهِ الأَنظِمَةِ، حَافِلٌ
بالصِّراعَاتِ العَائليَّةِ الضَّيّقَةِ، القَائمَةِ على حِسَابِ
المَصَالِحِ العَامَّةِ، لشُعُوبِ البُلدَانِ الّتي يَحُكمُونَهَا.
إِضَافَةً لذلكَ، فَإِنَّ تَاريخَ العَوائِلِ الحَاكِمَةِ، في هذهِ
الأَنظِمَةِ البَالِيَةِ، حافِلٌ بالصِّرَاعَاتِ فيمَا بَيْنَهَا، وكانَ
خِتَامُهَا في 5/3/2014، عندَمَا سَحَبَتْ السَعوديَّةُ والإِمَاراتُ
والبَحرينُ سُفرائَها مِن دُوَيْلَةِ قَطَرَ، ولَمْ يَشْفَعْ فِي رَأْبِ
هَذا الشَرخِ، حتّى مُؤتَمَرِ القِمَّةِ العَربَي، في دَورَتِهِ
الخامِسَة والعِشْرينَ، الّذي انْعَقَدَ في الكُويْت، بتَاريخِ
26/3/2014.
وبضَمِيْمَةِ مَا مَرَّ ذِكْرُهُ، وَجَدَتْ هذهِ الأنَظِمَةُ
الحَاجَةَ مُلِحَةً، لإِبْرَامِ مُعَاهَدَاتٍ تَضْمَنُ حِمَايَةَ
وجُودِهَا، فَكانَ انْطِلاقُ مَجلِسِ تَّعَاونِ دُوَلِ الخَليْجِ
العَربيَّةِ، في 25 أَيَّار 1981م، تَحتَ الوِصَايَةِ السَعوديَّةِ
والرِّعَايَةِ الأَمريكيَّة. هَذا الحِلفُ الّذي لَمْ يدخِرْ جُهداً،
للانقِضَاضِ على الشَعبِ البَحريْنِيّ الأَعزَلِ، فِي 16/3/2011 م،
عِندَمَا دَخَلَتْ قُوَّاتُ دِرعِ الجَزيرَةِ السَعوديَّةِ، لِقَمعِ
تلكَ الانتِفَاضَةِ الشَعبِيَّةِ، جَنْبَاً إِلى جَنْبٍ مَعَ قُوَّاتِ
النِّظَامِ المَلَكِيّ الجَائرِ الحَاكِمِ فِي البَحْرَيّْن.
ولابدَّ مِنَ التَّعريفِ بِأَنَّ (حمد بن خليفة آل ثاني)، قامَ
بانْقِلابٍ على والِدِهِ فِي عَامِ 1995م. ومُنذُ ذاكَ الحِينِ،
بَدأَتْ حُكومَةُ قَطَرَ، تَلعَبُ دَوْرَاً فَوْضَويَّاً فِي
المَنطِقَةِ، بتَوجيْهٍ من لُوْبِيْ الصِّهيُونيَّةِ العَالميَّةِ،
وتَخْطِيطٍ مِن وِكالَةِ الاسْتِخبَاراتِ المَركَزيَّةِ الأَمريكيَّةِ،
للإِسهَامِ فِي تَمزيْقِ الوِحْدَةِ الوَطَنِيَّةِ، لِبَعضِ شُعُوبِ
المنطِقَةِ، وكذلكَ هَدْرِ المَالِ العَامِّ للشَّعْبِ القَطَريّ، فِي
أَعمَالِ التَآمُرِ على شُعُوبِ تلكَ الدُّوَلِ، وتَعْرِيْضِ أَمْنِها
الوَطَنِيّ، للانْهيَارِ والدَّمَار.
أَرِدتُ مِن هذا المُوجَزِ التَّاريخيّ، أَنْ يَكونَ رابِطاً
للحَديْثِ، مَعَ تَتِمَّةِ المَوضُوعِ فِي الحَلقَةِ القَادِمَةِ إِنْ
شَاءَ اللهُ تَعَالى. والّتي سأُناقِشُ فيها ازدِواجِيَّةُ سِيَاسَةِ
دُوَيْلَةِ قَطَرَ، وعَجْزِهَا عَن لَعِبِ دَوّْرٍ كَبيْرٍ فِي
المَنطِقَةِ، إِلاّ عَن طَريْقِ دَعمِ الارهَابِ، كوسِيلَةٍ مُنحَرفَةٍ
لِحِفْظِ مَكانَتِها، بَيْنَ دُول المنطِقَةِ ودُوَلِ العَالَمِ، كمَا
يَبْدُو لَها ذَلِك.
* كاتِبٌ وبَاحِثٌ عِرَاقي
Mjsunbah1@gmail.com |