فقه الدولة: في وجوب مقاومة الحكومات الجائرة

الشيخ فاضل الصفّار

 

يجب على المسلمين مقاومة الحكومات الجائرة، سواء كانت إسلامية أو غير إسلامية، فإن الظلم قبيح عقلا وحرام شرعا، ويجب ردعه مهما أمكن، وكل حكومة لاتعمل بأحكام الله سبحانه فهي جائرة حتى الحكومة الحرة التي تحترم آراء الشعب لكنها لاتعمل باحكام الله سبحانه تعد ظالمة موضوعا. قال تعالى: {ومن لم يحكم بما انزل الله فاولئك هم الظالمون}[1] بداهة وجوب العمل لأجل تطبيق أحكام الله سبحانه وتعالى  في الحكم وغيره، هذا وتنقسم المقاومة للحكومات الجائرة إلى قسمين: مقاومة إيجابية وأخرى سلبية.

أما الإيجابية فهي أن يدخل المقاوم في الحكم لأجل الإحسان الى المسلمين، والحد من نشاط الجائرين، ورفع الجور عن المظلومين مهما أمكن، وهذا لايجوز الا لبعض القادرين على ذلك، ولكن بإذن الإمام المعصوم (عليه السلام) في زمن الحضور، وبإذن الفقيه الجامع للشرائط في زمن الغيبة، وفي رواية محمد بن اسماعيل بن بزيع قال الرضا (عليه السلام):

«إن لله تعالى بأبواب الظالمين من نوّر الله به البرهان، ومكّن له في البلاد؛ ليدفع بهم عن أوليائه، ويصلح الله تعالى بهم أمور المسلمين، إليهم ملجأ المؤمنين من الضرر، واليهم يفزع ذو الحاجة من شيعتنا، بهم يأمن الله روعة المؤمن في دار الظلمة، أولئك المؤمنون حقا، اولئك أمناء الله في أرضه، أولئك نور الله في رعيتهم يوم القيامة، ويزهر نورهم لأهل السماوات كما تزهر الكواكب الزهرية لأهل الارض، اولئك من نورهم نور القيامة، وتضيء منهم القيامة، خلقوا والله للجنة، وخلقت الجنة لهم، فهنيئا لهم، ماعلى احدكم ان لو شاء لنا هذا كله»[2] .

وهذا ماجرت عليه سيرة الانبياء والائمة (عليهم السلام) ، كما دخل يوسف (عليه السلام) [3]  وعمران والد موسى (عليه السلام) ومؤمن آل فرعون في حكومة الجائرين [4] لأجل الإصلاح، وكما دخل أيضا الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) والحسنان وسلمان وأبو ذر وعمار في أحكام الثلاثة في الجملة.

وكما دخل علي بن يقطين في وزارة هارون [5]، وكذلك داود الزربي وكان من ثقات موسى بن جعفر  عليهما السلام [6]، ومحمد بن اسماعيل بن بزيع دخل في الوزارة وكان من ثقات الإمام الكاظم والرضا  عليهما السلام [7]  وكان عبد الله بن سنان خازنا للمنصور والمهدي والهادي وهارون، وكان ثقة من أصحاب الإمام الصادق (عليه السلام) [8]، وكان عبد الله النجاشي واليا على الأهواز من قبل المنصور، وهو ثقة كتب إليه الإمام الصادق (عليه السلام) رسالة معروفة [9]، وهي مستند في جملة من الاحكام، وكان علي بن عيسى ومحمد بن علي ولده أميرين بقم من قبل السلطان، وهما ثقتان من ثقات الامام الهادي والعسكري  عليهما السلام [10].

وكذا محمد بن عيسى الاشعري [11] ، كما دخل الإمام الرضا (عليه السلام) حكم المأمون.

ويرى السيد الشيرازي (قدس سره) في كتابه الحكم في الاسلام: أن دخوله (عليه السلام) لم يكن خوفا من القتل، فان القتل لهم عادة، بل كان لأجل هدم حكم المأمون وإظهار اغتصابه وبيان جهله وعدم استحقاقه للخلافة؛ ولذا شرط على المأمون أن لايأمر ولاينهى ولايفتي ولايقضي ولايولي أحدا، ولايعزل ولايغير شيئا مما هو قائم، مما كان معناه انه (عليه السلام) لايرتبط بالحكم، فالإمام جمع بين تعاليه وزهده بالدخول لئلا يقال: إنه حريص ولاجل أن يملي عليه هذه الشروط وبين دخوله ليهدم الحكم من داخله، كما فعل مثل ذلك الامام أمير المؤمنين (عليه السلام) ، فإنه ترفع عن قبول الإمارة لئلا يتهم بالحرص على الحكم، وليظهر أنه إنما كان يطلب الحكم في زمن الثلاثة لأجل إقامة الحق لا حرصا [12].

هذا وقد جمع العلامة الطوسي (قدس سره) الأوقاف والعلماء والكتب حول نفسه باسم التنجيم في زمن التتار، فحفظ بذلك الاوقاف عن النهب، والعلماء عن القتل، والكتب عن الحرق، كما يجد المتتبع تفصيل ذلك في التواريخ [13].

والتهجم على الطوسي وعلماء زمن الصفوية بأنهم كانوا من علماء البلاط اتهام مغرض يصدر عادة من وعاظ السلاطين والتابعين للسياسات المستبدة، هؤلاء الذين يمدحون مثل خالد بن الوليد وصلاح الدين الايوبي، بأن الأول اشترك في حروب الردة، والثاني أنقذ المسلمين من الصليبين، وكلا الأمر باعثه الجهل أو التجاهل [14] على ماتثبته حقائق التاريخ.

وقد عرفت سابقا أن حروب الردة لم تكن حروبا للردة في الواقع، وانما كانت اعتراضية على خلافة الأول، وأما صلاح الدين فهو السبب لبقاء الصليبيين في فلسطين، واليه يعود الكثير من التأخر في بلاد المسلمين اليوم، فإنه:

أولا: سبب تفتيت الدولة الاسلامية، حيث فصل سوريا عن مصر مما ضعفت الدولة أمام الصليبيين.

وثانيا: بدلا من أن يحارب الصليبيين حارب المسلمين في حرب طائفية بشعة، فقتل مئات الألوف من المسلمين الشيعة، وشرد علماءهم، وأحرق مكتباتهم، ومن الواضح أن مثل هذه الحرب الطائفية الاهلية كما تضعف الدولة عن مقاومة الصليبيين تسبب الهزيمة أيضا.

وثالثا: لما حضرته الوفاة قسّم البلاد بين أبنائه وكأنها إرث؛ وبذلك أضعف الدولة الاسلامية ضعفا متزايدا؛ ولذا بقي الصليبيون في بلاد الاسلام يعيثون فيها  فسادا الى عشرات السنين من بعده على ماتذكره التواريخ الصحيحة.

وكيف كان، فانه لو شخص الفقيه الجامع للشرائط صحة المقاومة الإيجابية وجب ذلك بإذنه، ولو كانت الظروف تتطلب المقاومة السلبية فتجب أيضا بإذنه؛ لما تحكم به الادلة الاربعة من وجوب مقاومة الظلم وردع العدوان، وهو ماقامت عليه السيرة العقلائية والمتشرعية، بل وسيرة المعصومين (عليهم السلام) ، والتواريخ المدونة متضافرة بمقاومة امير المؤمنين (عليه السلام) والصديقة الطاهرة  عليها السلام  [15] والحسنين عليهما السلام لغاصبي الخلافة [16]، وهو شيء معروف ومشهور، كما ان من الواضح مقاومة الامام الحسين (عليه السلام) ليزيد، ومقاومة سائر الائمة الطاهرين (عليهم السلام) لملوك بني امية وبني العباس [17]، كما قاومهم من أولاد الائمة (عليهم السلام) واوليائهم كالمختار والتوابين وزيد بن علي ويحيى بن زيد والحسين صاحب فخ ويحيى بن عبد الله ومحمد بن ابراهيم وغيرهم ممن يجدهم المتتبع في التواريخ [18].

ولايخفى أن الأنبياء والائمة (عليهم السلام) ومن حذا حذوهم قد نجحوا نجاحا باهرا في تحطيم عروش الظالمين واقامة العدل وتأسيس الحكومات الصالحة والحكومات التي كانت أقل منهم في أدنى التقادير، وبعض العدل الذي نراه في جملة من بلاد العالم اليوم إنما هو نتيجة كفاح أولئك الصفوة الطيبة.

نعم، للمقاومة السلبية طرق وأساليب متعددة، فيجب على القائمين بها دراسة الظروف والامكانات والأهداف والوسائل لوضع الطرق الصحيحة للعمل المنطبق مع موازين الاسلام الذي يؤمن باللاعنف والسلام؛ لأن الغاية لاتبرر الوسيلة، كما أن المقاومة ينبغي أن تهدف الى الإصلاح ؛ ولذا يجب أن تراعي مايحقق الهدف، والاّ كان نقضا للغرض، وهو باطل عقلا وشرعا، وربما تبدأ مراتب المقاومة بالنصيحة للحاكم عسى ان يعود عن خطئه، وثانيا بعدم التعاون مع الحاكم الجائر، وثالثا بعدم الانصياع لأوامره، ورابعا بتنظيم الاضرابات والمظاهرات والمؤتمرات واستخدام الإعلام لذلك، فإذا لم يردعه كل ذلك يمكن القيام عليه بالقوة اذا توفرت الشرائط وبإذن الفقيه الجامع للشرائط.

في وجوب التضامن مع أهل الحق

لايجوز للمسلم قتل الثوار المسلمين المطالبين بحقوقهم إذا ثاروا على دولة لاتعمل بالإسلام، كما إذا ادعي العراق بالقومية العربية فثار الأكراد يطالبون بالحقوق المشروعة لهم من تساويهم بسائر إخوانهم فيما جعل الاسلام المسلمين متساوين فيه، فإنه لايجوز للمواطن العراقي العربي أن يقتل المواطن الكردي، بل اللازم اعطاؤهم الحقوق المشروعة، وما قد يقال من جواز قتلهم اضطرارا باطل؛ إذ لاتقية في الدماء، وقد نقل الشيخ مرتضى الانصاري (قدس سره) في المكاسب الإجماع على ذلك [19]، وهو ما اختاره السيد الشيرازي (قدس سره) في الحكم في الاسلام[20] .

نعم، اذا كانت دولة اسلامية شرعية وثارت فئة تطالب بشيء غير مشروع فانها تدخل موضوعا في البغاة الذين يقاتلون حتى تفيء الى أمر الله على الموازين المذكورة في كتاب الجهاد، ومما ذكرنا يظهر أنه لايجوز هجوم مسلمي دولة على مسلمي دولة أخرى الاّ إذا كان الهجوم تحت شرائط الاسلام، ولأجل سبيل الله أو إنقاذ المستضعفين.  

* فصل من كتاب فقه الدولة

وهو بحث مقارن في الدولة ونظام الحكم على ضوء الكتاب والسنة والأنظمة الوضعية

** استاذ البحث الخارج في حوزة كربلاء المقدسة

*** للاطلاع على فصول الكتاب الاخرى

http://annabaa.org/news/maqalat/writeres/fadelalsafar.htm

..................................................

[1] سورة المائدة: الآية 45 .

[2] رجال العلامة: ص140 .

[3] اشارة الى قوله تعالى: { اجعلني على خزائن الارض اني حفيظ عليم} سورة يوسف: الآية 55.

[4] اشارة الى قوله تعالى: {وقال رجل مؤمن من آل فرعون يكتم ايمانه اتقاتلون رجلا ان يقول ربي الله وقد جاءكم بالبينات من ربكم} سورة غافر: الآية 28 .

[5] انظر الفهرست: ص90 – 91 رقم 378 .

[6] انظر رجال العلامة: ص68 – 69 رقم 5 .

[7] المصدر نفسه: ص139 – 140 رقم 15.

[8] المصدر نفسه: ص104 – 105 رقم 15.

[9] المصدر نفسه: ص108 رقم 30 .

[10] المصدر نفسه: ص160 رقم 4 ؛ وانظر رجال الطوسي: ص422 رقم 12 ؛وص435 رقم 3 .

[11] رجال العلامة: ص154 رقم 83 .

[12] الفقه  كتاب الحكم في الاسلام : ج99 ص242 – 243 .

[13] اعيان الشيعة: ج9 ص159 – 166 ؛ وانظر الكنى والالقاب: ج3 ص251 .

[14] الفقه  كتاب الحكم في الاسلام : ج99 ص245 .

[15] البحار: ج43 ص171 ح11 .

[16] البحار: ج44 ص93 ح8 ؛ وص310 – 323 ح1 .

[17] البحار: ج47 ص178 ح25 .

[18]  راجع مقاتل الطالبيين: ج1 ص109 وص 116 وص 119 ؛ عيون اخبار الرضا (عليه السلام): ج2 ص237

[19] المكاسب : ج1 ص177 .

[20] الفقه  كتاب الحكم في الاسلام  : ج99 ص189 – 192  بتصرف ؛ وانظر مهذب الاحكام: ج15 ص206 .

شبكة النبأ المعلوماتية- الثلاثاء 22/نيسان/2014 - 20/جمادي الآخر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م