السياسة فن الممكن والدبلوماسية تعزز هذا الممكن من خلال فن التفاوض
لكسب الفوائد وتحقيق المصالح الوطنية العليا، وهي بإطارها العام تحدد
إمكانية الحكومة في رسم خارطة الطريق التي تسير على خطائها الدولة التي
تمثلها وسط المجتمع الدولي.
ليست هذه المقدمة درساً في علم السياسية وفن التفاوض بقدر ما تعنيه
من أهمية بالغة وحاجة ملحة لاستخدامها كبديل ناجح عن الإخفاقات
المتكررة والمأساوية، في بعض الأحيان، لإسلوب السياسة الخارجية
للحكومات العراقية المتعاقبة، ولعقود طويلة لم تتمكن فيه، اغلبها، من
فهم الإمكانات والفوائد التي تختفي خلف اجادة اللعبة السياسية من دون
حرق الأوراق المتاحة مقدماً من خلال التصريحات والتهديدات وربما القيام
بأعمال عسكرية لا مغزى من ورائها سوى الانهيار السياسي الذي ما زال
العراق يعاني تداعياته حتى الان.
لكن ما علاقة هذا الامر العراقي بالخلافات الخليجية، وكيف يمكن
استغلالها دبلوماسياً، وما الهدف من ذلك بالنسبة للعراق، واخيراً هل هو
قادر على ذلك؟
العراق ودول الخليج
النموذج الذي يمكن طرحه هو العلاقة التي تجمع العراق بدول الخليج،
فالعراق دولة خليجية اولاً وعربية ثانياً، يطل على الخليج من خلال شط
العرب ويجاور اثنين من أبرز الدول الخليجية على اختلاف وضعهما
الجيوسياسي، السعودية، الراعي الرسمي لمجلس التعاون الخليجي، والتي
تحاول ان ترسم لنفسها خطاً سياسياً (عربياً واقليمياً) يعتمد على
البروز كقوة مؤثرة في الشرق الاوسط تقف بوجه ما تسميه التطلعات او المد
(الشيعي) الذي تمثله إيران، من خلال جمع التكتلات الطائفية ودعم
الحركات المسلحة وزجها في عمليات حسابية معقدة، إضافة الى عرقلة أي
جهود توافقية دولية قد تؤدي في النهاية الى انعاش مكانة أي دولة يحتل
فيها الشيعة مكان الصدارة كما الحال في ايران والعراق ولبنان والبحرين
وغيرها، وهي بذلك تحاول ان تحمل صفة القائد الإسلامي الاول والمحامي عن
(المذهب السني) لكن من خلال (الفكر الوهابي) الذي تعتنقه الاسرة
الحاكمة في السعودية وتحاول تصديره الى الآخرين.
اما دولة الكويت، فهي على النقيض من ذلك تماماً، دولة عرفت مكانتها
والدور الذي يمكن ان تلعبه من دون مبالغة او تضخيم كما تفعل قطر مثلاً،
ومن هذا المنطلق كان لها دور مهم كوسيط سياسي ناجح في اغلب الخلافات
الخليجية بعد ان كسبت الجميع على المستوى العربي والإقليمي والدولي،
كما انها استطاعت ان تحصد الكثير من النجاحات السياسية وتفوقت على دول
بحجم العراق وإيران في خلافات سابقة، لكن بنفس الوقت من دون مبالغة في
التقدير او اسراف في التمدد.
بالمقابل فان العلاقة التي تربط العراق بدول الخليج تراوحت بين
التوتر والفتور، ومرت بمراحل صعبة وحرجة وصلت حد الطرد من البيت
الخليجي، او التهميش كما هو الحال عليه في الوقت الحاضر، ويبدو ان
السعودية التي تقود المحور الممانع لعودة العراق الى الساحة الخليجية
قد راهنت على ضعف السياسية الخارجية للعراق والازمة السياسية الداخلية
التي يعيشها، إضافة الى مشاكل الإرهاب، في تحقيق ذلك، لتحجيم أي دور
مستقبلي له وسط الخليج، وهو امر قد يغير بعض المعادلات القائمة (لو
تمكن العراق من لعب دور سياسي متقدم) مما ينعكس سلباً على اهدافها في
المنطقة.
قطر هي الأخرى تحاول التمدد على حساب اضعاف العراق ودول الخليج
الأخرى، وقد شكلت طموحاتها الكبيرة جداً والتي لا تتناسب مع مساحتها
الصغيرة جداً، خلاف حاداً مع السعودية، وهو بالأساس خلاف تاريخي،
تتناوب فيه الجارتان على (نشر الغسيل) كما تفعل، عادة، بالنيابة قناتي
(الجزيرة والعربية).
الامارات العربية المتحدة يمكن تشبيهها، برجل الاعمال الذي يهتم
بمصالحه والصفقات المربحة بعيداً عن الخسارة او ما يمكن ان يؤدي اليها،
وهي بطبيعتها تؤدي الى العمل الجاد بعيداً عن العواطف، كما انها الى
جانب محاولة بروزها كقوة اقتصادية مهمة في المنطقة، تحاول ايضاً لعب
دور سياسي توافقي في منطقة الشرق الأوسط التي تكثر فيها الصراعات، وهذا
ما يمكن ملاحظته من طريقة تعاملها مع إيران حول قضية الجزر المتنازع
عليها.
سلطنة عمان الدولة التي تعمل بصمت، وتحاول ان تحافظ على ما حققته من
امن وعلاقات طيبة مع الجميع، وهي تسعى في سبيل تحقيق ذلك من خلال النأي
بالنفس عن أي صراعات او تحالفات مثيرة قد تؤدي الى تبعية مستقبلية، كما
شهد موقفها الأخير، بعد رفضها الانضمام الى الاتحاد الخليجي بقيادة
سعودية، لكنها اوضحت عدم ممانعتها الى انضمام الاخرين لهذا الاتحاد
المفترض.
بالنسبة للبحرين فان مواقفها للسياسة الخارجية تنطوي على الكثير من
المجاملة والتبعية للسعودية، لتخوفها من مواطنيها الشيعة (الذين يشكلون
80% من مجموع السكان)، والسلطة الحاكمة (السنية) لا تجد لها امتداد
طبيعي سوى في العمق السعودي من خلال الاندماج في المواقف وربما في
الاتحاد المستقبلي والمفترض لتهميش مطالب الشيعة (المتمثلة بإقامة
ملكية دستورية وتوزيع عادل للثروات والمناصب)، وهذا ما تم بعد سحق
المظاهرات السلمية في البحرين من خلال دبابات درع الجزيرة السعودي بعد
عبوره الى البحرين خلال جسر الملك فهد الذي أنشأ بأموال ال سعود.
اما بالنسبة الى اليمن فلديها في الوقت الحالي من المشاكل السياسية
والصراعات الداخلية ما يكفيها، وهي تحاول ترتيب اوراقها الداخلية من
خلال المصالحة الوطنية وإيقاف الاقتتال الداخلي ومكافحة الإرهاب، وهي
بموقف أضعف من ان تكون مؤثرة على المستوى الخليجي حاضراً.
هل هناك خلافات خليجية
ربما يكون السؤال الواقعي هو، هل هناك وئام خليجي؟ وهل هناك اتفاق
بين دول الخليج؟ فالمنطقة الخليجية التي تعتمد بالأساس على ست دول (السعودية،
الامارات، البحرين، الكويت، عمان، قطر) مع تهميش دور (العراق واليمن)،
في اغلب الاتفاقات المهمة لأسباب سياسية واضحة، إضافة الى رغبة
السعودية بضم (الأردن والمغرب) ربما كبديل عنهما، او مقدمة لتوسيع
الاتحاد.
هذه المنطقة شهدت نزاعات سرية وعلنية حادة، بل ان البعض منها احتاج
الى وساطات من جهات دولية حتى يمكن راب الصدع بين هذه الدول.
وعلى سبيل المثال لا الحصر، تشهد العلاقات السعودية القطرية خلافات
مستمرة، خصوصاً على المستوى الخارجي، كما حدث في خلافهم حول الشأن
العراقي والسوري والمصري وغيره، إضافة الى الخلافات التاريخية المتجذرة
والتي تعود الى اعتبار قطر جزء من السعودية، فيما تتهم قطر، السعودية،
بمحاوله قلب نظام الحكم فيها.
كما ان الخلاف بين عمان والسعودية ظاهراً للعيان خصوصاً وان الأخيرة
تتهمها بالميل لإيران عدوها اللدود، وقد هددت بوقف المساعدات المالية
التي اقرها مجلس التعاون الخليجي للسلطنة، فيما رفضت عمان الانضمام الى
الاتحاد الخليجي الذي تتبناه السعودية.
من جهة أخرى سجلت الخلافات بين الامارات وقطر علامة جديدة بعد
تصريحات القرضاوي الأخيرة، اضافة الى الخلافات بين الامارات والسعودية
حول ترسيم الحدود التي رسمتها اتفاقية جدة عام 1974 والتي اعتبرتها
الامارات مجحفة بحقها وزادت من هوة الخلاف بينهما.
يضاف الى ذلك ان الامارات لها خلافات، ايضاً، مع عمان قد لا يستهان
بها، ربما بدئت حدودية لكنها تطورت لاحقاً بعد ان سورت الامارات حدودها
المقابلة لعمان، والتي ردت بمنع السفن المبحرة من الامارات بدخول
مياهها الإقليمية، لتنفجر الازمة بعد مزاعم كشف خلية التجسس الإماراتية
داخل عمان بتفاصيلها المعروفة.
البحرين وقطر لديهما خلافات حول جزر خوار التي تسيطر عليها البحرين
منذ ثلاثينيات القرن الماضي، والعكس صحيح بالنسبة لمدينة زبارا، وقد
تعدى الامر، في بعض الأحيان، الى اعلان النفير العام بين الدولتين
استعداداً لحرب متوقعة، كما رفعت قضايا الخلاف بينهما الى المحاكم
الدولية، واتهم الطرفين الاخر محاولته لإسقاط نظام الحكم للدولة.
قد تبدو، للوهلة الأولى، ان الخلافات في جلها هي خلافات حدودية، او
غير مؤثرة، لكن، لمعرفة الصورة كاملة، لا يمكن قصر الخلاف عند هذا الحد،
سيما وان العائلات الحاكمة للدول الخليجية لها خلافات تاريخية فيما
بينها، كذلك دور الأعراف والتقاليد والثقافة البدوية المسيطرة، والخلاف
حول ابار النفط والغاز المورد الرئيسي للخليج، والسيطرة على المياه،
واختلاف المصالح السياسية، والخوف من قبل الدول الخليجية الصغيرة
للسيطرة عليها من قبل الدول الكبيرة، كلها عوامل لا يمكن تجاهلها باي
حال من الأحوال.
توظيف الخلافات
ان توظيف الخلافات الخليجية لصالح العراق لا يعني، بالضرورة، اشعال
الفتنة او التسبب بمزيد من الخلافات على الطريقة البريطانية (فرق تسد)،
وانما كما أسلفنا في المقدمة، استثمار هذا الخلاف لتفعيل الدور
الدبلوماسي المميز والذي يمكن ان يلعبه العراق وسط حزمة الخلافات
المنتشرة بين هذه الدول، وان كانت بعضها لا يبدو ظاهراً للعيان.
وقد قامت الكويت وما زالت تمارس هذا الدور بعد ان تمكنت من كسب
الثقة كوسيط ناجح وسط الخلافات الخليجية.
لكن قد يتبادر الى الذهن طبيعة الهدف من وراء ممارسة العراق (دبلوماسيا
الحراك) القائم على توظيف الخلاف الخليجي لكسب مصالح وطنية مهمة؟
الأسباب لذلك كثيرة، لكن الأبرز منها يقوم على دعامتين رئيستين:
1. الخروج من العزلة القسرية التي فرضتها السعودية وقطر على العراق،
والتهميش الذي نجم عن هذه العزلة السياسية القاتلة، حتى وصل الامر الى
حد التشكيك في خليجية العراق، إضافة الى الافراط في عزلة عن كل الأدوار
الاقتصادية والسياسية والثقافية والرياضية بصورة او أخرى.
وقد لعبت الصورة الطائفية التي روجت لها السعودية، وغيرها، تجاه
العراق دورا بارزا في إنجاح هذه العزلة، بعد ان صورتها كتابع لإيران
والتخويف من وصول المد الشيعي الى دول الخليج وما يتبعها من مخاطر جمة
تهدد الدول الخليجية باسرها.
2. تحصين القاعدة الدبلوماسية الأساسية التي ينطلق منها العراق نحول
العالم، اذ ان دول الخليج بمجملها تشكل جواً دبلوماسياً لا يستهان به
اقليماً وعالمياً وان كان بدرجات متفاوتة، وحتى السعودية يمكن
الاستفادة منها بطريقة وأخرى (خصوصاً مع تمكن المفاوضين العراقيين من
تقديم التطمينات الضرورية لها، وكسب ثقتها، والاهم تبديد المخاوف
الطائفية والتبعية التي تشعر بها تجاه العراق)، المهم ان يكون للعراق
حضوراً قويا وسط محيطه الخليجي، لطلب الدعم والتأييد وقت الحاجة اليه،
والمساندة، وهذا لا يتم من دون التحرك الفعلي تجاه الخليج وجعله
القاعدة الاساسية للدبلوماسية العراقية في المستقبل.
قدرة العراق على ذلك؟
القدرة على استثمار العمل الدبلوماسي وتوظيفه للمصالح العليا للبلد
يعتمد على امرين مهمين:
1. الأسس الاستراتيجية للبناء الدبلوماسي بعيد المدى للسياسات
الخارجية للدولة، والتي تهدف، وفق رؤية معدة سلفاً، الى وضع اللبنة
الأولى للدعامات الدبلوماسية، والتحرك على أساس تحقيقها بمرور الوقت.
2. قدرة المفاوض البارع في رسم السياسة الخارجية العامة للبلد، من
خلال تحقيق المكاسب بأقل الخسائر، إضافة الى كسب المزيد من الأصدقاء
والحلفاء وتجنب الدخول في صراعات او نزاعات لا طائل منها، وتشمل كلمة (المفاوض
البارع)، ابتداءً من وزير الخارجية وحتى أصغر موظف في السلك الدبلوماسي.
ويبدو ان العراق لا يملك الامرين معا في الوقت الحاضر لا سباب
مختلفة، ليست محل النقاش الان، لكن من الممكن تحقيق هذين الامرين
بسهولة وعلى المدى القريب او المتوسط لو التفتت الحكومة العراقية لهذا
الموضوع المفصلي في سياستها الخارجية.
اما كيف يتم ذلك، فالسبيل اليه يحتاج الى التركيز على النقاط
التالية:
1. احتواء المحور السعودي، الذي غالباً ما يصاب بالهشاشة ربما
باستثناء البحرين، عن طريق الدبلوماسية المضادة، كتعزيز العلاقات مع
قطر، إضافة الى محاولة الخروج من العزلة بالتفاوض وتعزيز المصالح
الاقتصادية وغيرها من الخطوات المهمة.
2. الاستفادة من الهدف الأقرب لتحقيق الهدف الابعد، فعلى سبيل
المثال يمكن استخدام الوساطة الكويتية في تحقيق نجاحات دبلوماسية
وارضية مشتركة للعمل مع السعودية وقطر.
3. عدم اهمال أي دولة خليجية، وتشكيل محور خليجي يدعم موقف العراق
ويعزز حضوره، مبدئيا، يمكن تشكيله من اليمن وعمان بالتعاون مع الكويت،
وربما بدرجة اقل، الامارات العربية المتحدة.
4. الاستعانة بالدول المؤثرة اقليمياً وعالمياً، وبالأخص الولايات
المتحدة الامريكية وبريطانيا والاتحاد الأوربي، لدعم مرحلة التصالح
الخليجي-العراقي، والضغط على الدول التي سوف تقف بوجه هذا التقارب
كالسعودية وقطر.
5. التركيز على إقامة علاقة طبية مع العائلات الحاكمة لدول الخليج،
وكسب ثقتهم، والانطلاق من تقديم المبادرات بدلاً من انتظارها.
6. الاستفادة من (المفتاح الأمريكي) لكسر الجمود السياسي مع
السعودية، من خلال فتح مرحلة جديدة وجدية من العلاقات القامة على
تفاهمات واسعة، بعد كسر اواصر الخلاف وانعدام الثقة بين الطرفين،
طبعاً، كل هذا يتم برعاية مباشرة من قبل الولايات المتحدة الامريكية،
التي تعتبر من اقوى حلفاء السعودية بتاريخ يمتد لا كثر من ثمانية عقود
من المصالح المشتركة.
العراق يمر بمرحلة حساسة من تاريخه، ويحتاج الى الجهد الدبلوماسي،
تماماَ كما الجهد العسكري في معركة ضد الإرهاب، وهذا الجهد لا يتم
بالعمل الروتيني الممل، الذي يمارس الآن بين أروقة الخارجية والسفارات
العراقية، بل بالمبادرة للتخطيط برؤى استراتيجية مستقبلية، من اجل حصد
المكاسب ولو بعد حين، ويمكن للعراق ان ينجح في تحقيق مكانة مهمه وسط
المجتمع الدولي إذا استطاع تغيير الطريقة التي يفكر بها أصحاب القرار
للسياسة الخارجية العراقية، ويكفي ان نشير الى ما تم تحقيقه من تقارب
مهم بين الولايات المتحدة الامريكية وإيران والتي اعتبرت، بحق، نصراً
للدبلوماسية وفن التفاوض والطموح نحو الحل السلمي، ليدلل بوضوح ان لا
شيء مستحيل التحقيق في عالم السياسة ومن يتعاطاها اذا احسن القائمون
عليها التدبير والعمل بجد.
* مركز المستقبل للدراسات والبحوث/المنتدى
السياسي
http://mcsr.net |