أٓعْتَرِفُ انّ تداول السلطة في العراق امر صعب مستصعب، وذلك
للأسباب التالية:
اولا: لعدم وجود النظام الحزبي الحقيقي، فبغياب قانون الأحزاب الذي
ينظم تأسيسها وتمويلها ومعاييرها، يكون من الصعب جدا التعويل على ما هو
موجود منها لتحقيق مبدأ تداول السلطة، والذي يعتمد، عادة، على الأغلبية
الحزبية تحت قبة البرلمان، وليس على الكتل البرلمانية، وهو الامر
الموجود حاليا في العراق.
ان غياب الاحزاب الحقيقية في العملية السياسية، يعقّد فكرة تداول
السلطة لان الانتخابات بمثل هذه الحالة، لا تنتج أغلبية حزبية، وهو
الامر الذي يعتمد عليه تداول السلطة.
ثانيا: وجود هذا الكم الهائل من الاحزاب السياسية، وكلها ذات
معايير غير وطنية، فهي إما دينية او مذهبية او إثنية، تتكاثر اميبيا
بشكل غريب، أنتج حالة من التشتت في المجتمع العراقي، ولذلك نلاحظ ان
نتائج كل انتخابات عبارة عن جزر حزبية متناثرة، نحتاج، في كل مرة، الى
أشهر عديدة قبل ان نصل الى توافقات ممجوجة لتشكيل الحكومة او اللجان
النيابية او حتى الحكومات المحلية.
ان ظاهرة كثرة الاحزاب والكتل، لا تساعد احدا على حصد أغلبية مريحة
في اية انتخابات، ما يعقد عملية التوافق والالتئام في كل مرة، ما يعقّد،
بالتّبع، عملية تداول السلطة.
ولم يكن اقليم كردستان في منأى عن هذه الظاهرة، فهو الاخر أصيب بها
في مقتل، بخلاف ما كان يظنه البعض، لدرجة انهم اضطروا لتكرار ظاهرة خلق
المناصب الزائدة في الحكومة، على غرار ما يحصل في بغداد، لترضية اكبر
عدد ممكن من الشركاء قبل ان يصلوا الى توافقات تنتهي بتشكيل حكومة
الإقليم.
ثالثا: المحاصصة والتي سببها الخوف والخشية المتبادلة بين كل
الفرقاء بعضهم من البعض الاخر، وكذلك حالة التخوف والترقب والخشية من
المستقبل مع استحضار تجارب الماضي المرير، في المجتمع العراقي، ان كل
ذلك كرس المعيار الديني والمذهبي والاثني لدى الناخب عندما يقرر
المشاركة في الاقتراع، ما يعني انقسام الشارع على نفسه وإن لم يعترف
بذلك احد.
رابعا: وصول الصراع المرير على السلطة بين السياسيين الى أعلى
مدياته، والذي يتضح من خلال الدعايات الانتخابية التي تمثلت في التسقيط
والتسقيط المضاد، والسب والشتائم ونشر الغسيل القذر والكذب والتزوير،
وكأن الكتل المتنافسة في حلبة لعبة (صراع الثيران) الاسبانية المعروفة.
ان ازدياد حدة الصراع ليس بين سياسيي المكونات، حسب تسمياتهم،
فحسب، وإنما حتى بين سياسيي المكون الواحد كذلك، فتراهم وضعوا الدين
والأخلاق والعادات والتقاليد والمدنية وكل شيء جانبا، ليعودوا الى
عقليتهم البدوية عند الاختلاف او التنافس.
خامسا: مبدأ الشراكة وبالطريقة التعسفية وغير المنطقية وغير
المعقولة، الذي يعتمد اشتراك كل من له مقعد تحت قبة البرلمان في السلطة
التنفيذية ما يعني انعدام المعارضة البرلمانية بالمطلق تقريبا.
ان هناك الكثير من دول العالم التي تعتمد أنظمتها السياسية على
مبدأ الشراكة بين المكونات، ولكن ليس على الطريقة العراقية التي بدت
تعسفية بشكل كبير جدا، وذلك بسبب التقاتل على السلطة والاستقتال على
البقاء فيها.
سادسا: الفهم القاصر لمفهوم الديمقراطية وأدواتها وآلياتها، سواء
عند السياسيين او عند الناخبين انفسهم، والسبب هو حداثة التجربة
الديمقراطية في العراق الجديد، من جانب، وعدم استعداد العراقيين للتعلم
من تجارب الآخرين في هذا العالم المكتض بالتجارب الناجحة على صعيد
الأنظمة الديمقراطية وبمختلف أشكالها ومحتوياتها، من جانب آخر.
سابعا: ظاهرة، او قل، مرض عبادة الشخصية وصناعة الطاغوت الذي يعشعش
في المجتمع العراقي بامتياز، فالزعيم معبودٌ والقائد ذاتٌ مقدسة، قد
يحق لك ان تكفر بالله وملائكته ورسله وبالوطن، وبكل شيء، ولكن إياك
إياك ان تمس ذاتا مقدسة تعود لزعيم او لقائد او لرئيس كتلة.
هذا المرض كرّس ظاهرة الدفاع عن الزعيم بغض النظر عن اي شيء.
إنجازاته، نجاحاته، اخفاقاته، فشله. بطانته، فساده، ولذلك غاب التقييم
الحقيقي والسليم، وغابت المراقبة وغاب الحساب والثواب والعقاب.
ولشدة التصاق المجتمع العراقي بهذه الظاهرة، وعمقها في وعيه
الباطني ووجدانه، لذلك لم يعد الناخب يبحث عن البرنامج الانتخابي
للكتلة او للمرشح، ليدرسه ويغربله، بقدر اهتمامه بالصورة والمظهر
والشعارات البراقة حتى مع علمه بان صاحبها يكذب ولا يصدق معه القول،
لان (الحب أعمى) كما يقول المثل، ولذلك لا يدع الناخب ينظر بعينه
بمقدار ما ينظر بعواطفه.
ثامنا: عدم ايمان السياسيين وأحزابهم وكتلهم بالديمقراطية من
الأساس، وبقراءة سريعة لتاريخهم الحزبي والحركي، فسنلحظ انهم لم
يمارسوا الديمقراطية في حياتهم طرفة عين ابدا، فان جل الكتل والأحزاب
الحالية هي نسخ من الأحزاب الشمولية التي قرأنا وسمعنا بها، خاصة
النموذج الذي كتب عنه (حنة أرندت) في كتابه المعروف والمشهور (أسس
التوتاليتارية) وقديما قيل: فاقد الشيء لا يعطيه، فكيف ننتظر ممن شاب
على الفكر والثقافة والأسلوب الديكتاتوري والاستبدادي الشمولي ان ينتج
لنا اليوم ديمقراطية؟ اذا كان في المعارضة ولم يمارس الديمقراطية كل
حياته، هل تنتظر منه ان يمارسها وهو في السلطة؟.
تاسعا: التدخلات الاقليمية والدولية الواضحة والصريحة والمباشرة في
عملية انتاج الحكومة بعد كل عملية انتخابية، وهو الامر الذي لم يحدث
بهذا الحجم الواسع جدا في كل دول العالم، الا اللهم في دولة جزر القمر
مثلا.
ولكن...
ومع كل ذلك، فان الامر ليس مستحيلا، هو صعب وصعب جدا، ولكنه ليس
مستحيلا، هو يشبه العملية الجراحية، ولكنها ضرورية للمريض اذا اردنا ان
ننقذه من الموت المحتم، فالعراق فيه الرجال والمال، على حد قول امير
المؤمنين عليه السلام، مٓن يتسلّم السلطة فيه سينتهي به الامر الى
الاستبداد والديكتاتورية لا محالة، الا اذا تحقق مبدأ تداول السلطة،
ولذلك رفض الامام علي (ع) تسليم العراق، ووقتها كان عبارة عن الكوفة
والبصرة، رفض تسليمهما الى طلحة والزبير كثمن للوقوف الى جانبه قبل ان
يخرجا مع (أمهما) عائشة لحرب الامام في معركة الجمل في البصرة، قائلا
في معرض جوابه على مشورة عبد الله بن عباس له بتسليمهما لهما وإراحة
باله من مشاكلهما، قال:
إن العراقيين بهما الرجال والأموال، ومتى تملّكا رقاب الناس،
يستميلا السفيه بالطمع، ويضربا الضعيف بالبلاء، ويقويا على القوي
بالسلطان.
وهي صورة المسرح السياسي العراقي اليوم.
ولهذا السبب وصل عدد المرشحين الى الآلاف، ولقد سمعت شيخا عجوزاً
يعلق على كثرة المرشحين في كل انتخابات يشهدها العراق يقول متسائلا:
يعني معقولة ان كل هؤلاء يتنافسون على خدمتي، انا المواطن العراقي؟
إذن، كم انا محظوظ؟ فثمني عظيم وانا لا اعرف بذلك!!.
واليوم: هل تعتقدون بان صراع الأحزاب على حاكمية البصرة لخدمة
أهلها؟ ام ان الصراع في كركوك من اجل ذلك؟.
السؤال: امام كل هذه المعوقات، كيف نحقق تداول السلطة في العراق
إذن؟ من اجل ان لا نعود القهقرى فننتج الديكتاتورية مرة اخرى؟. |