مقارنة بين مزايا اقتصاد السوق وعيوبه

حاتم حميد محسن

 

المقصود باقتصاد السوق ان جميع قرارات الاستثمار والانتاج والتوزيع تهتدي بحركة العرض والطلب، وكذلك جميع اسعار السلع والخدمات تتقرر بنظام السعر الحر. التدخل الحكومي في الاقتصاد يكون قليل جداً.

ان النظرية الاساسية للاقتصاد الجزئي microeconomics (1) هي نظرية الطلب والعرض. التفاعل بين الطلب والعرض هو الذي يقرر سعر السلعة والكمية المباعة والمشتراة منها. تخصيص الموارد بين الاستخدامات المتنافسة يتم طبقاً واستجابة لإشارات الاسعار. اما النظرية الاساسية للاقتصاد الكلي macroeconomics(2) فهي نظرية لدورة تدفق الدخل القومي. مدى رفاهية اية دولة يعتمد على امكانية تلك الدولة في انتاج السلع والخدمات، التي بدورها تعتمد على نوعية وكمية ما لدى الدولة من مصادر طبيعية ومصنّعة وكذلك على نوعية وكمية قوة العمل لديها. امكانية الدولة في الاستخدام التام لطاقاتها هو الذي يقرر مقدار الرفاهية لدى شعبها.

آلية اقتصاد السوق

كل دولة تواجه نفس المشكلة وهي – كيف تستعمل ما لديها من موارد (طبيعية وبشرية) لإنتاج سلع وخدمات تعظّم المنفعة والرفاهية لشعبها.

في اقتصاد السوق تتولى آلية الاسعار إعطاء اشارة لمختلف المصادر كي تُستخدم بانتاج السلع والخدمات التي تعظّم منفعة المجتمع طبقاً لحجم الموارد المتوفرة. الأسعار تعطي اشارة عن مقدار ميزانية المستهلكين ومقدرتهم على الشراء، والاسعار تخبر عن مقدار العائد الذي يمكن ان تستلمه الشركات من مختلف مستويات البيع، وكذلك اسعار المصادر تخبر الشركات عن الكلفة الكلية للانتاج. وبمقارنة العائد المتوقع والكلفة المتوقعة تستطيع الشركات تقدير الربح المتوقع من عدمه. جميع تلك الاسعار سواء كانت للسلع والخدمات او للموارد تتقرر في اقتصاد السوق بقوى المنافسة - المستهلكون يتنافسون فيما بينهم على الشراء، والشركات تتنافس فيما بينها على البيع. تلك الاسعار هي التي تقرر في النهاية اي الموارد تُخصص في اقتصاد السوق لانتاج السلع والخدمات التي تشبع اعظم الحاجات للمستهلكين.

لسوء الحظ هذه الآلية ليست تامة وتشوبها الكثير من النواقص والعيوب. ولكن قبل ان نأتي الى هذه النواقص لابد من الوقوف على المزايا.

 مزايا اقتصاد السوق:

1- المنافسة بين مختلف الشركات تقود الى زيادة الفاعلية، لأن الشركات تقوم بما هو ضروري - بما في ذلك تسريح العمال - لتقليل تكاليف العمل.

2- معظم الناس يعملون بمشقة وجهد اكبر (بسبب الخوف من فقدان الوظيفة).

3- هناك المزيد من الابتكارات في الاقتصاد لأن الشركات تبحث عن منتجات جديدة لتبيعها وكذلك عن طرق رخيصة للانتاج.

4- الاستثمارات الاجنبية تصبح لها جاذبية حين يسمع المستثمرون بوجود فرص للارباح.

5- حجم الدولة، وسلطاتها، وكلفة البيروقراطية الحكومية تنخفض بسبب قيام القطاع الخاص بتولّي مختلف النشاطات التي عادة يقوم بها القطاع العام.

6- تطور سريع في عناصر الانتاج لتلبية طلبات الناس في الداخل والخارج.

7- العديد من الناس يكتسبون وبسرعة المهارات التقنية والاجتماعية والمعرفة المطلوبة للعمل بهذا الاقتصاد الجديد.

8- السلع الاستهلاكية تصبح متوفرة بكميات كبيرة وبانواع مختلفة لاولئك الذين لديهم النقود لشراء تلك السلع.

9- قطاعات كبيرة من المجتمع تكتسب حالة من الحراك والحيوية حين ينشغل كل فرد بمحاولة بيع شيء ما الى شخص اخر.

اما بالنسبة الى عيوب اقتصاد السوق فتتمثل بالتالي:

1- افضليات استثمارية مشوهة، الموارد تُوجّه نحو المجالات التي تعطي أعلى الارباح وليس الى ما يحتاجه الناس حقا(لذا فان الصحة العامة والتعليم العام وحتى السدود على الانهار تنال القليل من الاهتمام).

2- الاستغلال السيء للعمال، لأنه كلما يعمل العمال بجهد اكبر واطول زمناً واسرع كلما زادت ارباح صاحب العمل والقليل يذهب الى العامل (وبهذا الحافز وتحت ضغط المنافسة، يجد اصحاب العمل دائما طرقا جديدة لتكثيف الاستغلال للعامل).

3- الانتاج المفرط للبضائع، لأن العمال كطبقة لا يُدفع لهم ابدا الكثير لشراء السلع كمستهلكين، وكلما تعاظمت كمية ما ينتجونه من سلع (في عصر الاتمتة والحوسبة والروبوت، كلما اتسعت الفجوة بين ما ينتجه العمال وبين اجورهم الواطئة).

4- الطاقات الصناعية غير المستعملة (المخزون الهائل من السلع غير المباعة التي تؤدي الى إبقاء نسبة كبيرة من المكائن ومن مختلف الانواع عاطلة عن العمل، بينما العديد من السلع الضرورية تبقى بعيدة عن متناول الناس لأنهم لا يستطيعون الدفع لشرائها).

5- تزايد البطالة (المكائن والمواد الخام متوفرة، لكن استخدامها يتم فقط عندما يستطيع الناس شراء السلع المُنتجة بحيث يتحقق ربح لأصحاب تلك المكائن ومواد الخام – وفي اقتصاد السوق الربح هو الذي يهم).

6- تصاعد اللامساواة الاقتصادية والاجتماعية (الاغنياء يصبحون اغنى والاخرين يصبحون اكثر فقرا، البعض يعاني من فقر تام بينما الشرائح الاخرى من الناس يكون مستوى فقرهم طبقا لعلاقتهم مع ثروة الاغنياء المتصاعدة بسرعة).

7- مع هذه الفجوة بين الاغنياء والفقراء، تصبح المساواة الاجتماعية مستحيلة (الناس الاثرياء يبدأون بالتفكير بأنفسهم ككائنات انسانية ارقى والنظر الى الفقراء بدونية، بينما يشعر الفقراء بمزيج من الكراهية والحسد وقلة الاحترام للأغنياء).

8- اولئك الذي يمتلكون الكثير من النقود ايضا يبدأون بممارسة تأثير سياسي غير عادل، يخلق لهم المزيد من النقود.

9- زيادة الفساد في جميع قطاعات المجتمع، والذي بدوره يزيد من قوة الاثرياء ويدفع من ليس لديهم نقود الى رشوة المسؤولين بما يجعلهم اكثر سوءاً.

10- زيادة في كل انواع الجرائم الاقتصادية، حيث يحاول الناس اكتساب النقود بشكل لا قانوني حين لا تتوفر الوسائل القانونية (واحيانا حتى بوجود الاخيرة).

11- انخفاض المساعدات الاجتماعية وبرامج الرفاهية (طالما هذه المساعدات يتم تمويلها من الضرائب، فان توسيع المساعدات يعني تقليل ارباح الاغنياء، واي زيادة صافية بالمساعدات الاجتماعية تعني ان العمال اقل خوفا من خسرانهم الوظائف وبالنتيجة اقل رغبة بعمل اي شيء للإبقاء عليها).

12- تدهور حالة البيئة (لأن اي جهد لتحسين نوعية الهواء والماء يكلف مالكي الصناعات نقود ويقلل الربح، وبذلك فان الحياة في بيئتنا الطبيعية تصبح باستمرار اكثر صعوبة).

13- مع كل هذا، يبدأ الناس من مختلف الطبقات بإساءة فهم العلاقات الاجتماعية الجديدة والسلطة المنبثقة اثناء عمليات اقتصاد السوق حين يتصورونها كظاهرة طبيعية (النقود مثلا تكتسب قوة اسطورية تهيمن على الناس وتنظّم حياتهم، بدلا من ان تكون وسيلة مادية لتنظيم التبادل، كما ان السوق ذاته، الذي هو طريقة لتوزيع الثروة، اصبح يُنظر اليه كوسيلة سخرتها الطبيعة لربط الناس الى بعضهم. وبهذا، لم يعد الناس يؤمنون بالمستقبل او بإمكاناتهم سواء كانوا افراداً ام جماعات، وهنا يكتسب ما يسميه ماركس بـ "التفكير الايديولوجي" طابعا عاماً.

14- ان تجارب السوق بدورها تخلق سلسلة من المواقف والمشاعر اللا اجتماعية (الناس يصبحون انانيون، مرتبطون فقط بانفسهم. "انا اولاً"، "كل شيء لأجل النقود"، "الفوز في المنافسة هو المهم، مهما كانت الكلفة على الانسان "، هذه المشاعر تصبح هي المحفز لهم في كل مجالات الحياة. هم ايضا يصبحون قلقين جدا وغير آمنين اقتصاديا، خائفين من ضياع وظائفهم، بيوتهم، مبيعاتهم وغيرها، قلقين دائما على النقود. في هذا الموقف، تضعف المشاعر وافكار التعاون والاهتمام المتبادل بشكل حاد، لأنه في ظل اقتصاد السوق لم يعد من مصلحة الفرد التعاون مع الآخرين).

15- ونظراً لهذه الانماط التي تأثرت بها افكار الناس ومشاعرهم في ظل اقتصاد السوق، يصبح من الصعب جدا للحكومة، اي حكومة، ان تعطي للناس صورة حقيقية عن مشاكل البلد (من المفيد للحكومة ان تتحدث عن الاستقرار وذلك بتضليل الناس بوجود نمو اقتصادي دائم وبقصص عن امكانية ان يصبحوا اغنياء ايضا. ان المبالغة بالانجازات الايجابية وعدم ذكر المظاهر السلبية هي ايضا افضل الوسائل لجذب الاستثمارات الاجنبية. في اقتصاد كهذا يعتمد على "سايكولوجيا مرغوبة للسوق"، لا يمكن للحكومة ان تكون نزيهة تماما مع شعبها او مع بقية العالم حول حقيقة ما يجري في البلاد).

16- اخيرا، اقتصاد السوق يقود الى ازمات اقتصادية متلاحقة، حين تتطور جميع هذه العيوب الى نقطة تتلاشى فيها معظم الايجابيات التي ذكرناها انفا – حيث يتوقف الاقتصاد عن النمو، ويقل انتاج السلع، والتوقف او البطء في تطوير عوامل الانتاج، وركود الاستثمارات الخ، فلا معنى للجدال عن اعطاء الاولوية لمزايا السوق عندما نرى هذه المزايا في طور الاختفاء.

واذا اعترفنا بالمزايا والعيوب الرئيسية لاقتصاد السوق، وقمنا بمقارنة تلك المزايا مع العيوب، ستبرز امامنا ثلاثة اسئلة رئيسية بحاجة للاجابة. اولا، هل بالإمكان التمتع بمزايا اقتصاد السوق دون العيوب؟ كل من النظرية والدليل التجريبي يجيبان وبقوة بالنفي. القراءة الدقيقة والسريعة للكيفية التي يعمل بها اقتصاد السوق تكشف انه كلّ عضوي فيه كل جزء يعمل كمظهر داخلي في عمل الاجزاء الاخرى. وبشكل مماثل ايضا، هذه المظاهر، الجيدة والسيئة (المزايا والعيوب)، تستلزم مظهراً ضرورياً آخر، انها اجزاء ممتدة وهي شروط مسبقة ونتائج لبعضها البعض. فمثلا، تجربة السوق تُنتج، بالضرورة، خصائص انسانية للسوق او market personalities (1)، وهذه الخصائص الانسانية للسوق تصبح شرطاً مسبقاً ضرورياً للناس من كل الطبقات للاشتراك بفاعلية في علاقات السوق، ومن ثم تصبح شرطا لعمل السوق ذاته. بمعنى آخر، انت لا تستطيع ان تضع الناس في علاقات سوق وتتوقع منهم الاحتفاظ بالكثير من الافكار الاجتماعية او القيم والعواطف التي ربما كانت سائدة في يوم ما. ونفس الفكرة تنطبق دائما على كل المظاهر الاقتصادية والاجتماعية والسايكولوجية لاقتصاد السوق.

وبالنسبة للدليل التجريبي، شاهدنا كيف ان بعض الدول، مثل الصين، فشلت في محاولتها تجاوز عيوب السوق لأن ذلك غير ممكن.

السؤال الرئيسي الثاني هو- هل ان التوازن بين مزايا وعيوب اقتصاد السوق مستقر ام متغير؟ الجواب هو انه يتغير باستمرار، واذا كانت التغيرات تفضل المزايا (ليس بجعل العيوب تختفي، وهو امر مستحيل، وانما بجعلها تظهر بدرجة أقل)، فان الحركة باتجاه الازمات الاقتصادية التي تحدث في جميع اقتصاديات السوق اليوم تجعل من الواضح ان العيوب المرتبطة بالسوق هي اعظم سماته الرئيسية.

الثالث والاخير، سؤال كبير هو – هل بامكان الناس تغيير ارائهم حول السوق؟ الجواب هو نعم. هم يقومون بهذا باستمرار، منتقلين من "ضد" الى "لمصلحة" او من "تفضيل" الى "ضد". فاذا كان الناس قبل 25 سنة مثلا لجأوا لإعتماد احد اتجاهات اقتصاد السوق حين كانت امامهم مشكلة ملحّة، لا يعتبر هذا بذاته سببا لإعتماد هذا الاتجاه حينما تبرز امامنا مشاكل جديدة اكثر الحاحا.

اذا كان الجواب الذي اعطيناه لهذه الاسئلة الثلاثة صحيحا، فان المشكلة الرئيسية التي تواجه الدول اليوم هي ربما كالتالي: هل يجب على الدولة الالتصاق باقتصاد السوق لكي تستمر بالاستفادة من مزاياه (وببساطة تقبل كل السلبيات المرافقة لتلك المزايا)، او - اذا كانت العيوب المتحصلة سيئة جدا - هل يجب على البلد عمل كل ما هو ضروري لمعالجتها (واعتبار اي منافع يحصل عليها من اقتصاد السوق كشيء ثانوي)؟ الجواب يقرره الشعب حول ما يجب القيام به.

...............................................

الهوامش

(1) كلمة Micro مشتقة من الكلمة اليونانية mikros وتعني الصغير. الاقتصاد الجزئي يهتم بسلوك شيء محدد مثل سعر الكومبيوتر الشخصي قياسا باسعار افلام الرعب، او رواتب المحامين قياسا باجور عمال المزرعة، او استخدام الموارد في صناعة السيارات قياسا بصناعة السفن، او سلوك ارباب المنازل في انفاق دخلهم، سلوك الشركات في استئجار الموارد لانتاج مختلف السلع والخدمات، دور الحكومة في انتاج سلع وخدمات معينة.

(2) كلمة macro مشتقة من makros. والاقتصاد الكلي يهتم بالصورة الاكبر- التراكم في الاقتصاد، مثل مستوى الانتاج القومي، نسبة البطالة القومية، نسبة التضخم. كذلك يهتم الاقتصاد الكلي بصنع سياسة الحكومة، استخدام الضرائب والتحويلات الاجتماعية، مستوى الانفاق الحكومي والسيطرة على السياسة النقدية.

(3) ويشير الى مجموعة الخصائص الانسانية المرتبطة بالسلعة او الخدمة او الشركة. حيث يتم التفكير بالسلعة كما لو انها انسان. فكما توجد خصائص معينة تميز الفرد، كذلك بالنسبة للسلعة.فاذا كانت هناك اوصاف للشخص كان تكون على اساس الجنس(ذكر ام انثى) او على اساس العمر (شاب، كبير)، هناك ايضا اوصاف انسانية للسلعة (ذكورية، نسوية)او(حديثة، قديمة الطراز). فمثلا، شركة IBM يُنظر

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 20/نيسان/2014 - 18/جمادي الآخر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م