حين التأمل والتمعن في المسارات السياسية والاجتماعية لمجموع الدول
العربية، التي طالتها يد التحولات والتطورات السياسية خلال السنوات
الثلاث الماضية يدرك أن هذه الدول أو بالأصح النخب السياسية التي تدير
المرحلة الجديدة على المستويين الداخلي والخارجي، تتجه صوب بناء واقع
سياسي جديد، يمكن تسميته ب (ديمقراطية الاستثناء).
فهي مع الديمقراطية ولكن مع استثناءات سياسية واجتماعية كبرى.
لأن ثمة قوى سياسية واجتماعية عديدة، لاعتبارات مختلفة، ليس من حقها
المشاركة في الحياة السياسية الجديدة.
ويبدو أن طبيعة الصراع السياسي الحالي في هذه البلدان، يتمحور حول
هذه المسألة. فهناك قوى أساسية ومركزية في المشهد السياسي الحالي تريد
لاعتبارات عديدة داخلية وخارجية استثناء بعض القوى من العملية السياسية
الجديدة. وفي المقابل هناك إصرار وإلحاح من قبل بعض هذه القوى
المستبعدة من المشاركة حتى لو تطلب أمر المشاركة استخدام بعض أشكال
العنف والإرهاب لتغيير المعادلة القائمة.
ويبدو أن الضحية الأساسية لهذا الصراع المفتوح على كل الاحتمالات،
هي فكرة الديمقراطية والتحول الديمقراطي في هذه البلدان..
إذ ان الصراعات السياسية والاجتماعية المتجهة صوب سياسة كسر العظم،
بحيث تتضاءل إمكانية التسوية بين أطراف الصراع السياسي والاجتماعي،
ستكون انعكاساته السلبية الأساسية على فكرة التحول الديمقراطي في هذه
البلدان. لأن التحولات الديمقراطية التي تشترك في صنعها غالبية الأطراف
الفاعلة في المجتمع، لا يمكن أن تتحقق بنزعات الانتصار الكاسح أو
الهزيمة الكاسحة. الديمقراطية في جوهرها هي محاولة لتسوية الصراعات
السياسية والاجتماعية بدون أن يشعر أحد الأطراف الفاعلة بالهزيمة
النكراء.. بحيث يلتقي جميع الأطراف عند نقطة مركزية ترضي الجميع ولا
تستثني أي طرف فاعل من عملية التسوية.
فسياسات كسر العظم في مراحل الانتقال السياسي هي ضد فكرة بناء أوضاع
سياسية ديمقراطية. بمعنى أن الصراعات الصفرية القائمة على الانتصار
النهائي أو الهزيمة النهائية، هي صراعات لا تفضي إلى بناء ديمقراطية أو
إنجاز عملية تحول ديمقراطي صحيحة وسليمة.
والتسويات السياسية والاجتماعية المستندة إلى توافقات عميقة بين
جميع الأطياف، هو سبيل إنجاز تحول ديمقراطي بدون نزف اجتماعي - سياسي،
وبدون استثناءات تنهي جوهر عملية التحول الديمقراطي.
لذلك فإننا نعتقد أن لجوء بعض الأطراف السياسية والاجتماعية
الفاعلة، إلى استبعاد بعض القوى السياسية من المشاركة في عملية التحول
السياسي الجديد، تقود إلى نزاعات اجتماعية وصراعات سياسية تؤسس إلى
خيارات سياسية واجتماعية في أغلبها ضد جوهر العملية الديمقراطية
والتحول السياسي..
لذلك ثمة ضرورات وطنية وقومية في كل هذه البلدان إلى العمل لاجتياز
هذه المرحلة السياسية الحساسة بأقل خسائر مجتمعية ممكنة، وهذا يتطلب
الالتفات إلى الأمور التالية:
1- مهما كانت أخطاء وخطايا بعض الأطراف والمكونات السياسية
والاجتماعية، إلا أن الموقف الوطني الأصيل، ينبغي أن لا يستبعدهم أو
يستثنيهم من عملية المشاركة في التحول السياسي والديمقراطي. لأن انطلاق
العملية السياسية الجديدة مع نزعة الاستثناء والإقصاء بصرف النظر عن
الاعتبارات المؤسسة لهذا الاستثناء، سيساهم في توتير الأجواء
الاجتماعية والوطنية ويشحنها بمقولات صراعية تضر بجوهر عملية التحول
السياسي الجديد.
وتعلمنا تجارب العديد من الدول التي عاشت تجربة التحول الديمقراطي،
أن استثناء مكونات أساسية من المشهد كانت له انعكاسات سلبية خطيرة على
ذات وطبيعة مشروع التحول الديمقراطي. ولا يمكن أن تتعزز الديمقراطية في
أي تجربة سياسية وإنسانية بعيداً عن خيار التسويات العميقة بين جميع
الأطراف والمكونات. لذلك فإن كل ممارسة سياسية تضر بمنهج التسوية بين
قوى المشهد السياسي والاجتماعي، هي في حقيقتها ضد فكرة ونهج التحول
الديمقراطي. فمن يبحث عن التحول الديمقراطي - السياسي، فعليه أن يعمل
على بناء توافقات وإجماعات وطنية كبرى، تحول دون استبعاد أي طرف من
العملية بصرف النظر عن أيدلوجيته السياسية أو مواقفه السياسية ونظرة
الأطراف السياسية والاجتماعية إليها.
2- إن الصعود باتجاه بناء نظام سياسي - ديمقراطي جديد، لا يعني بأي
حال من الأحوال الاستهتار بقيمة الوحدة الوطنية أو الاستقرار السياسي
والاجتماعي.
لأنه لا تحول ديمقراطياً في ظل تفتت النسيج الاجتماعي.
لذلك من الضروري العمل على بناء أسس التحول الديمقراطي مع الحفاظ
الفعال والدينامي بقيمة الاستقرار الاجتماعي والوحدة الوطنية.
لأنه ثمة علاقة عميقة وجوهرية بين قيمة التحول الديمقراطي وقيمة
الأمن والاستقرار وأي إخلال بهذه المعادلة، فهو سيفضي إما إلى فوضى
مجتمعية خطيرة أو إلى إعادة إنتاج النظام السياسي القديم. وفي كلتا
الحالتين ستضيع تضحيات هذه الشعوب سدى.
لذلك ثمة حاجة ماسة إلى عدم الاستهتار بقيمة الأمن الاجتماعي
والاستقرار السياسي من قبل النخب السياسية الجديدة.
وأنها بحاجة أن تتحرك في بناء نظامها السياسي الجديد بعيداً عن
المشاركة المباشرة في تشظي المجتمع أو تهديد نسيجه الداخلي.
وإن أي استهتار على هذا الصعيد، سيفضي إلى متواليات سلبية خطيرة على
المستويين السياسي والاجتماعي.
ومن المؤكد أن اعتماد خيار ديمقراطية الاستثناء، سيساهم في توتير
الأجواء السياسية والاجتماعية، وسيقود إلى صدام مجتمعي يفجر كل
التناقضات الأفقية والعمودية في المجتمع. وحينما تنفجر هذه التناقضات
فإن متواليات هذه التناقضات، ستحول دون بناء نظام سياسي - ديمقراطي.
لذلك فإن المطلوب دائماً في عمليات التحول السياسي:
1- العمل على بناء توافقات وطنية واسعة، تحول دون تفجر الصراعات بين
مكونات المجتمع، ويتم إرساء معالم التحول السياسي على قاعدة التوافق
بين الأطياف جميعاً، بدون استثناء أو استبعاد لأي مكون وطرف.
2- أن تؤمن جميع الأطراف السياسية وبعمق أن مرحلة التحولات
السياسية، بحاجة إلى تسويات عميقة بين جميع الأطراف بحيث يشعر الجميع
أنه جزء من عملية البناء الوطني والتحول السياسي.
ومن يبحث عن قيادة التحول بوحدة، فإنه يؤسس لصراعات داخلية تحول دون
الاستقرار السياسي والاجتماعي.
3- إن نزعات الانتقام وتصفيه الحسابات بين أطياف المجتمع، يعد من
أهم المخاطر التي تهدد مرحلة الانتقال والتحولات السياسية في أي تجربة
سياسية. لذلك فالمطلوب الوقوف بوجه كل محاولات الانتقام وتصفية
الحسابات. القضاء هو وحده المعني بمحاكمة المتهمين ومعاقبة أصحاب
الجرائم مهما كان نوع هذه الجرائم..
فالديمقراطيات لا تبنى بالانتقام وإراقة الدماء، وإنما بعقلية
الاستيعاب والعفو ورفض أي شكل من أشكال إراقة الدماء وإبقاء التوترات
مشتعلة بين مختلف التعبيرات. فديمقراطية الاستثناء، لا تبني ديمقراطية،
وإنما تؤسس لنقائضها الاجتماعية والسياسية. وأي تشريع لهذه الممارسة
القائمة على إقصاء بعض المكونات والحقائق، سيرتد سلباً على المسار
السياسي برمته. فلتتسع الخيارات للجميع، ولا علاج لأمراض المرحلة
الانتقالية إلا بالمزيد من الإصرار على الديمقراطية قولاً وفعلاً،
هدفاً وتكتيكاً، مجتمعاً وسياسة. |