في ظل تصاعد قوة اليمين حسب استطلاعات الرأي الأخيرة لدى الشارع
الإسرائيلي والوقائع السيئة المتعلقة بالعملية السياسية، يبدو أن وزير
الخارجية الإسرائيلي "أفيغدور ليبرمان" شعر بنشوة استعلائية ومختلفة عن
ذي قبل، والتي بناءً عليها فضل الاستغناء عن شراكة حزب الليكود وزعيمه
"بنيامين نتانياهو" بشكلٍ خاص، بنيّته خوض الانتخابات القادمة منفرداً
وبعيداً عن أيّة تحالفات حزبية أو حركية أخرى.
لم تكن الشراكة التي عقدها "ليبرمان مع "نتانياهو" في الانتخابات
الأخيرة التي جرت في أوائل يناير 2012، نتيجة توحد مفاهيم الحزبين
تماماً أو نتيجة علاقات شخصية تربط الرجلين، بل كانت تحت وطأة متطلبات
سياسية وانتخابية معاً، اعتقدا في حينها أنها جيدة بالنسبة لحزبيهما
وفيما يتعلق بالظروف السياسية والأمنية والاقتصادية التي تلف إسرائيل،
لكن جاءت النتائج صادمة عندما لم يحصل الحزبين معاً على المقاعد
المطلوبة لتشكيل الحكومة بشكلٍ قوى ولقيادة الدولة بشكلٍ يتناسب مع
الطموح العام لكليهما.
مسألة العزوف المتبادل بينهما في أعقاب الصدمة، أو التي تعلقت
بتفاصيل المحاكمة التي تعرّض لها "ليبرمان" بشأن تهم الفساد الموجهة
إليه، لم تؤدِّيا إلى عدم تنفيذ بنود الصفقة التي حكمت الشراكة، لوجود
مناخات سياسية ساعدت في استمرار شراكتهما إلى الآن.
قرار "ليبرمان" بدا واضحاً وجدياً من خلال اتهامه لوزير الاقتصاد
وزعيم البيت اليهودي "نفتالي بينت" بشأن تهديداته بفض شراكته مع
الحكومة فيما إذا أقدم "نتانياهو" على تسريح أسرى فلسطينيين، مؤكداً
بأن هذه التهديدات لا تجعله متحمساً لها، بسبب أنها ليست جادة، وأنه لو
أراد الانسحاب حقيقة لفعل ذلك منذ الساعة الأولى من تفوّه الحكومة بهذا
الشأن.
إذاً، فإن "ليبرمان" يتعجل سقوط الحكومة لخوض الانتخابات، وليس معنى
ذلك أن حزبه كافياً لخوضها، ولكن تدور هناك صفقات مع شخصيات مهمّة
وقوية داخل الليكود نفسه، والتي من شأنها أن لا تنهي حياة "نتانياهو"
السياسية وحسب، بل تنذر باندثار الليكود هذه المرة، بسبب أنها ستكون
على أصعب من حالة الانشقاق التي حدثت له عندما انسلخ "أريئيل شارون" من
زعامة الحزب وتبعته شخصيات أخرى، ليؤلف حزب (كاديما- إلى الأمام) في
نوفمبر 2005، في أعقاب تنفيذ خطة الانسحاب الإسرائيلي من قطاع غزة.
هذه الصفقات تتم وراء الخطوط والتي أشارت إلى تفاهمات جادة مع
قياديين في الليكود وأخرين سابقين ومنهم العائد لممارسة الحياة
السياسية من جديد، الوزير الليكودي السابق وصاحب الشعبية الكبير "موشيه
كحلون" الذي أبدى نوايا جارفة للانضمام إلى "ليبرمان"، لا سيما بعد أن
كان "ليبرمان" أول المهنئين فور إعلانه العودة للعمل السياسي والحياة
السياسية، وتذكيره بعلاقته الشخصية الجيدة التي ربطت بينهما في الماضي،
ومن ثمّ سارع إلى نفشه وتضخيمه بأنه رجل الجودة، وشخص خطير، ويسعده
دائماً الثناء عليه، وأن التعاون معه يصب في المصلحة الوطنية الحقيقية
والأوسع نطاقاً لإسرائيل.
وفي هذا السياق، تسارعت مساعٍ حثيثة ومكثفة تهدف إلى خلق حالة من
الشراكة السياسية بينهما، وتم عقد لقاءات ضمت مسؤولين من المعسكرين
لإقناعهما بأهمية التوجه للانتخابات القادمة متحدين، الذي يعني الجمع
بين التوجهات الاجتماعية التي تهم "كحلون" والأبعاد السياسية الأمنية
التي تهم "ليبرمان"، ما قد يؤسس لشراكة أكثر جاذبية واستقطاباً للجمهور
الإسرائيلي.
لم يكتفٍ "ليبرمان" بالعزف على الوتر الداخلي، بل عمل جهده في رسم
صورة جديدة وكافح من أجل تحديث بياناته الشخصية، أمام الأمريكيين
واللوبي الإسرائيلي في واشتطن، حيث أقام واسترخى أياما طويلة، يُحدث
خلالها عن طموحاته وآماله، وعن العلاقة التي سترفل بها كل من الولايات
المتحدة وإسرائيل في المستقبل.
لم تظهر أحلام "ليبرمان" فجأة، بل بدت تداعب خياله منذ زمن طويل،
فكثيراً ما كان يُباهي بأن مليون روسي يرفعون شأن الدولة، وآثر القفز
أحياناً كثيرة من فوق رأس "نتانياهو" في تصريحات ونشاطات مبغضة إلى حد
الغثيان، تصل إلى حد التغاضي عن تلبية طلبات مهمّة أخرى.
قبل أيام وجيزة، أعلن "ليبرمان" صراحة، من أنه بات قريباً أن يكون
لإسرائيل رئيس وزراء يتحدث الروسية، وحتى لا يكون ذلك مفاجئاً أو
مستغرباً، نوّه إلى أنه فقط في إسرائيل أشخاص يمكنهم تولي مناصب هامة،
وفي باب التوضيح سارع عدد من المقربين منه، من أن أقواله لا تحمل أيّة
مدلولات سياسية، بل جاءت في إطار محاولته وصف إسرائيل كدولة تستوعب
المهاجرين الروس وإمكانية وصولهم فيها إلى أرفع المناصب. لكن الوقائع
تدل على أنه يتحدث بجديّة وبالذات عن نفسه، بسبب أنه هو من يقود الروس،
وأهل اليمين في إسرائيل، وأولئك الذين يبدون إعجاباً متزايداً نحوه،
على الرغم من منطقيهِ المختلفين حول كثيرٍ من القضايا المحلية
والخارجية، فهو بشأن المفاوضات والعملية السياسية يرى بأنه مهتم بها
إلى أبعد الحدود، وأنه مستعد لإخلاء بيته في المستوطنات مقابل اتفاق
دائم مع الفلسطينيين، وأنه أبدى ليونةٍ أكبر أمام الرئيس الأمريكي
"باراك أوباما" واعتبر نظيره "جون كيري" صديقاً مخلصاً لإسرائيل وحثّه
على المضي قدماً في جهده لمواصلة السلام، كما أورد أمام الأمريكيين
والمجتمع الدولي بأن وحدة الشعب أهم من وحدة الأرض.
والذي يعجب الطائفة الأخرى، عندما تراه يسيل لعابه على إعادة احتلال
قطاع غزة، بحجة - كحدٍ أدنى - منع الصواريخ المنطلقة، وإنهاء حكم حماس،
و- كحدٍ أعلى - تخريب العملية السياسية برمّتها. كما كانت هناك مساندات
إسرائيلية مختلفة، في معارضته بشدة إطلاق أسرى فلسطينيين، وبشأن طرد
النواب العرب من الكنيست باعتبارهم ممثلي حماس، بالاستناد إلى وصفهم
بالإرهاب من قٍبل الدولة المصرية. وأخذت معارضته أهمية أكبر لفكرة
"نتانياهو" القائمة على الإبقاء على يهودٍ تحت السيطرة الفلسطينية،
وتلقى دعماً إضافياً بشأن دعوته لنقل عرب 48 إلى حدود الدولة
الفلسطينية، وبالمقابل مناداته للحكومة بتوفير ما يلزم لجلب ملايين
اليهود الروس، وآخرين إلى الداخل. وهذه جميعها كانت دافعاً لـ
"ليبرمان" للحديث عن الانتخابات وخوض حزبه بشكل منفرد ودون اللجوء
لأحزاب أخرى أو البحث عن ائتلافات حكومية جديدة.
"نتانياهو" الذي ساءه سماع تلك الأخبار، سارع من فوره إلى الإعلان
عن قلقه من نوايا "ليبرمان" وعودة "كحلون" للحياة السياسية، واعتبر
اتحادهما في حال تحققه، بأنه يُمثل تهديداً قوياً ومباشراُ له ولحزبه،
سيما وهو المتصدر للساحة السياسية والمستفيد الأكبر من غياب شخصية
سياسية يمكنها أن تشكل منافساً حقيقياً يقف في مواجهته خلال أيّة
انتخابات محتملة في ظل ارتفاع رصيد اليمين الإسرائيلي وميل الشارع
باتجاهه، وهذه الحالة ولا شك، لن تُصِب "نتانياهو" وحده وتجعله في
غيابة القاع، أو الليكود بجملته وتجعله في خبر كان، ولكنها أيضاً ستكون
لها تداعياتها المؤلمة على الفلسطينيين والقضية الفلسطينية، بسبب ما
ستشكله من صعوبة الانتقال من مواجهة اليمين الإسرائيلي المتطرف، إلى
مصادمة اليمين الأقسى تطرفاً. |