هذه الشخصية التي حملت أروع وأجمل الصفات التي تتغنى بها الأقوام من
وفاءٍ وتواضع وصبر وشجاعة وكرم، هذه الشخصية التي أختارها أمير
المؤمنين عليه السلام لكي تولد له أسداً وبطلاً وحاملاً لكل الصفات
العظيمة لكي يدافع عن حريم الإمامة والولاية في يوم كربلاء العظيم،
فكانت أم البنين عليها السلام تلك الأم التي أنجبت أربع شجعان تتغنى
بهم الأجيال وببطولاتهم لأكثر من 1370 سنة.
عندما طلب أمير المؤمنين عليه السلام من أخيه عقيل أن يختار له
أمرأة قد ولدتها فحول العرب لم يأخذ عقيلاً الكثير من الوقت في التفكير
بل كان الجواب سريعاً كالبرق الخاطف إنها أم البنين الكلابية لأنها
الوحيدة الفريدة التي تمتاز بهذه الميزة فلو كان غيرها موجوداً لأخذ
عقيل وقتاً في التفكير والتخيير حيث يقول (ليس في العرب أشجع من أبائها
وأفرس) وقد أكد لبيد الشاعر وهو عم أبيها حزام عندما كان متفاخراً أمام
النعمان ملك الحيرة حيث يقول:
نحن بني أم البنين الأربعة.......الضاربون الهام تحت الخيضعة
والمطعمون الجفنة المدعدعة.......ونحن خير عامر بن صعصعة
فلا ينكر عليه أحد من العرب ومن قومها ملاعب الأسنة أبو براء الذي
لم يعرف في العرب مثله في الشجاعة والطفيل فارس قرزل وأبنه عامر فارس
المزنزق (1)، فلم تكن هناك امرأة بإمكانها أن تحمل وتلد بطل كالعباس
عليه السلام في الجزيرة العربية إلا أم البنين عليها السلام، وهي التي
أختارها الله سبحانه وتعالى لهذا الأمر العظيم والخطب الجليل كيف لا
وقد ضرب العباس عليه السلام في يوم كربلاء أروع وأجمل الملاحم في
الوفاء لسيده ومولاه الإمام الحسين عليه السلام بالإضافة الى أخوته
الثلاث.
لقد أتت رسل السماء تبشر أم البنين عليه السلام بهذا الفخر العظيم
الذي ينتظرها، عندما طلب عقيل بن أبي طالب رضوان الله عليه يد أم
البنين الى أخيه الإمام علي عليه السلام فرح أبوها حزام فرحاً شديدا
ولكنه في نفس الوقت أخذ في نفسه التفكير هل أبنتنا أم البنين أهلاً
لهذا الشرف والكمال فذهب الى زوجته ليسألها عن هذا الأمر في أهلية
أبنته لهذا الشرف العظيم وعندما أراد الدخول على زوجته سمع أبنته أم
البنين تقص رؤيا قد رأته في الليلة الماضية.. فاستمع إليها دونَ أن
تراه وهي تقول: كأنّي جالسة في روضة ذات أشجار مثمرة، وأنهار جارية،
وكانت السماء صاحية والقمرُ مشرقاً والنجوم طالعة، وأنا أفكّر في عظمة
الله من سماءٍ مرفوعةٍ بغير عمد، وقمرٍ منير وكواكب زاهرة، وإذا بي أرى
كأنّ القمر قد انقضّ من كبد السماء ووقع في حِجري وهو يتلالأ نوراً
يَغشى الأبصار، فعجبتُ من ذلك، وإذا بثلاثة نجوم زواهر قد وقعن في حجري،
وقد أغشى نورُهنّ بصري، فتحيّرتُ في أمري ممّا رأيت، وإذا بهاتفٍ قد
هتف بي، أسمعُ منه الصوت ولا أرى شخصه، وهو يقول:
بـُشراكِ فـاطمـة بـالسادةِ الغُررِ.......ثلاثةٍ أنـجمٍ والـزاهـرِ
الـقمـرِ
أبـوهـمُ سيّدٌ في الخلْق قـاطبـة.......بعد الرسول كذا، قد جاء في
الخبرِ
فعاد حزام يبشّر نفسه وعقيلاً وقد غمره السرور وخفّت به البشارة،
وكان الزواج المبارك على مهرٍ سَنّه رسولُ الله صلّى الله عليه وآله في
زوجاته وابنته فاطمة عليها السّلام، وهو خمس مئة درهم، علماً لقد
أرادها أبويها أن تكون خادمة لأمير المؤمنين عليه السلام وأولاده
الكرام الحسن والحسين وزينب عليهم السلام وهذا دليل صارخ وقوي على
محبتهم العظيمة لأمير المؤمنين عليه السلام ففي هذه الأسرة العظيمة
المحبة لأهل البيت عليهم قد نشأت وترعرت أم البنين عليها السلام، فقد
تزوجت أم البنين عليها السلام في عام 24 هجرية وكان عمرها عشرون سنة أو
لم تبلغ العشرون (2).
وعندما دخلت أم البنين عليها السلام بيت أمير المؤمنين عليه السلام
طلبت منه أن لايناديها باسمها (فاطمة) لما لهذا الإسم من أهمية قدسية
وعاطفية فيمن يسكن هذا البيت من أمير المؤمنين والحسنان وزينب عليهم
جميعاً سلام الله، لهذا أخذت هذه الكنية الشهرة وقد غلبت الاسم
بالإضافة الى أن جدتها من أبيها كانت تكنى بهذا الاسم (أم البنين) وقد
كناها أبوها بهذه الكنية حباً لجدته ليلى التي غلبت كنيتها على أسم
عشيرة أبنائها وقد سجلها الشعراء في شعرهم، وعندما دخلت بيت النبوة
والطهارة نمى حب أهل البيت أكثر وأكثر في قلبها وعقلها حتى أصبح كل
همها إسعاد هذه الأسرة التي أحبتها حبان حباً لله سبحانه وتعالى (في
حبها لأمير المؤمنين عليه السلام) وحباً لفاطمة عليها السلام فكانت
تقدم أبناء الصديقة الكبرى عليها السلام على أبناءها في كل شيء بل كانت
تأمرهم أن ينادوهم بالسادة والولاية.
رزقت أم البنين عليها السلام بالعباس عليه السلام في عام 26 هجرية
واستوعب حب العباس عليه السلام قلب أمه الزكية فكان عندها أعز من
حياتها وكانت تخاف عليه وتخشى من أعين الحساد من أن تصيبه بأذى أو
مكروه وكانت تعوذه بالله وتقول هذه الأبيات:
أعيذه بالواحد.......من عين كل حاسد
قائمهم والقاعد.......مسلمهم والجاحد
صادرهم والوارد.......مولدهم والوالد.....(3)
ولكن عندما نادت الولاية بالثورة على الفساد والإنحراف عن طريق
الهدى أرسلت جميع ولدها وفي مقدمتهم العباس عليه السلام وأوصتهم ببذل
أنفسهم في سبيل الحسين عليه السلام، وعندما عاد آل الرسول (ص) وقرت عين
البتول الى مدينة جدهم وتقدمهم الناعي بشر بن حذلم ينعى الحسين عليه
السلام، فلم تسأل أم البنين عليها السلام عن أولاده مع شدة حبها لهم
ولكنها سألت أولاً عن إمامها سيد شباب أهل الجنة عليه السلام فأخبرها
بشر باستشهاد أولادها الأربعة فكان الجواب مسرعاً ممن ذابه في رحاب
الولاية المقدسة لقد قطعت نياط قلبي هل سمعتني سألتك عن أحد أخبرني عن
الحسين فأضطر بشر هنا أن يخبرها فقال عظم الله لك الأجر بأبي عبد الله
الحسين فسقطت مغشياً عليها، قال الشيخ المامقاني (يُستفاد قوة إيمانها
وتشيعها أن بشراً كلما نعى إليها واحداً من أولادها قالت أخبرني عن أبي
عبد الله...أولادي ومن تحت الثرى كلهم فداء لأبي عبد الحسين إن عُلقتها
بالحسين عليه السلام ليس إلا لإمامته وتهويناً على نفسها موت هؤلاء
الاشبال الأربعة إن سلم الحسين عن مرتبة في الديانة رفيعة)..(4).
لم تهدئ أم البنين عليها السلام بل رفعت راية المعارضة والثورة ضد
الظلم والجور فاتخذت في بكائها الثوري من فاطمة الزهراء عليها السلام
أسوة حسنة وقائد خبير في إظهار حقائق الأمور، وروى المقاتل عن الصادق
(ع) قال: كانت أم البنين تخرج الى البقيع فتندب بنيها اشجى ندبة
وأحرقها فيجتمع الناس إليها يستمعون منها وكان مروان يجيء في من يجيء
لذلك فلا يزال يسمع ندبتها ويبكي...(5)، فكان بكائها هذا من أشد
الأدوات التي كانت تستخدمها أم البنين لإظهار المظلومية ولدفع الناس
للثورة على بني أمية عليهم لعائن الله، فاستمرت على هذا الحال حتى
وفاتها أو استشهادها، لأن المعتاد في تلك الظروف الثوار والقادة لا
يتركهم بنو أمية هكذا وخصوصاً وسائل القتل والإغتيال قد كثرت عندهم
أولها وأبسطها مقولة معاوية (ولله جنوداً في العسل)، فإذا لم يقتلها
بنو أمية بطرقهم المختلفة فإنها لم تستطع المقاومة والصبر عن فقدان
إمامها وسيدها ابا عبد عليه السلام بالإضافة الى أولادها الاربعة
وخصوصاً قمر بني هاشم عليه السلام فقد استشهدت هذه الجليلة في 13 جمادي
الثاني من عام 64 هجرية.
وهكذا ذابت السيدة فاطمة الكلابية (أم البنين) عليها السلام في
الولاية وأعطت روحها وأبنائها الكواكب وفي مقدمتهم قمرهم أبا الفضل
العباس عليهم السلام فداءاً للولاية ولطريق الهدى والحق، فاعطاها الله
سبحان الله وتعالى المنزلة العظيمة وجعلها باباً من أبوابه لقضاء
الحوائج، فسلامٌ عليها يوم ولدت ويوم أستشهدت ويوم تبعث حية.
............................................
(1) أعيان الشيعة للسيد محسن الأمين ج7 ص429(2)
العقيلة والفواطم للحاج حسين الشاكري ص117(3) شهداء أهل البيت قمر بني
هاشم ص24، المنمق في أخبار قريش ص 437(4) تنقيح المقال للمامقاني
ج3ص70(5) قاموس الرجال- الشيخ محمد تقي التستري ج12 ص195 |