أخلاقيات التغيير.. الممتلئون بغنى فقرهم

حيدر الجراح

 

شبكة النبأ: ثنائية الفقر والغنى، ثنائية ممتدة الى عمق تاريخ الاجتماع البشري، ومصدر للنزاعات الفردية والجماعية.

وهذه الثنائية هي مصدر رئيسي من مصادر التدافع البشري، في الاجتماع والسياسة والاقتصاد. وتترك اثارا ثقافية ونفسية، ان على مستوى الافراد او الجماعات، الذين ينتظمون في طبقات اقتصادية، تحدد الكثير من ادوارهم ووظائفهم الاجتماعية والسياسية.

تلك الثنائية كثيرا ما ركز القرآن الكريم عليها في آياته، وابرز نماذج صراعية لها حدثت عبر التاريخ، وهي كثيرا ما ترد في مواضع الذم والتوبيخ، اذا كانت متعلقة بالجوانب المادية للغنى والفقر، وما يحيط بها من ملابسات.

ارتبط الطغيان في التنزيل القرآني بالغنى والبطر، وارتبط الفقر بعدم السعي أو الهجرة، كما ارتبطت تلك الثنائية بمدلولاتها المعنوية، ارتباطا ممدوحا فيما يتعلق بغنى النفس، ومذموما فيما يتعلق بفقرها وخلوها من المحامد.

وحتى في السنة النبوية وسنة اهل البيت (عليهم السلام) مرويات وسلوك، ارتبطت في الكثير من الوقائع الحادثة، ووردت في الكثير من الادعية، وهي في وقوعها وورودها، لم تغادر مساحة الذم والقدح في اقتصارها على الجسد أو المظهر من حياة الانسان، بل تمتد بعيدا الى اغوار نفسه وعقله.

في (دعاء مكارم الاخلاق) للامام زين العابدين السجاد بن الحسين (عليهما السلام) يرد الغنى مترابطا مع الرزق، وفي المضمر من الدعاء، نستكشف الفقر وما يرتبط به.

ففي مقطع من دعائه (عليه السلام) يقول: (وأغنني وأوسع عليّ في رزقك).

وغالبا ما يقترن ورود الغنى بالفقر على لسان الأدعية والروايات لما هو (الأصل فيهما)، وهو كما يذهب الى ذلك المرجع الديني الكبير آية الله العظمى السيد صادق الشيرازي (دام ظله) في معرض شرحه وتفسيره لمضامين الدعاء، في كتابه (حلية الصالحين) وهو (غنی النفس وفقرها)؛ والذي يرى فيه (أصل کلّ غنی وسببه، ومبعث غنی کلّ حواسّ الإنسان ومعقولاته، ولا خير في غنی البدن إذا لم يصاحبه غنی النفس).

في مقابل الغنى، وهو الفقر والذي لم يرد صراحة في هذا المقطع، لكننا يمكننا الاستدلال عليه واستدعائه، من خلال ما يفيده معنى الغنى في الدعاء، وهو غنى النفس، لا غير ذلك. ويمكن ان نستشهد بحديث نبوي شريف في هذا المعنى وهو قوله (صلى الله عليه واله وسلم): (فقد روي عن رسول الله صلى الله عليه وآله أنّه قال: الفقر فقران: فقر الدنيا وفقر الآخرة، فقر الدنيا غنى الآخرة، وغنى الدنيا فقر الآخرة، وذاك الهلاك).

في تقسيمه لمراتب الفقر يقوم به المرجع الشيرازي بتقسيمها الى ثلاث مراتب هي:

الغنی والفقر موضوعان مشكّكان ـ بحسب الإصطلاح المنطقي ـ أي لكلّ منهما مراتب مختلفة تبدأ بالضعيفة ثمّ تزداد وصولاً إلی أعلی المراتب.

1 – شدة الفقر، وفيها لايملك  الفرد قوت يومه حتى في أدنى مستويات المعيشة.

2 – مرتبة يملك الإنسان فيها قوت يومه ولكن بمستوى دان أو بمقدار لا يكفيه.

3 - مرتبة يكون مستوى الانسان فيها أحسن من سابقيه لكن لا يملك قوت سنته.

في معرض حديثه عن الفقر، والذي يرتبط بأذهان الناس في جوانب حياتهم المادية دون المعنوية، يقوم السيد صادق الشيرازي بشرح ما قد يفهم  بانه تناقض في الكثير من الروايات التي تمدح الفقر وتذمه، وهو يعود حسب السيد صادق الشيرازي الى اختلاف مواطن الورود للفقر والغنى في تلك الروايات.

الفقر مذموم في اصله، مقابل ذلك نجد الروايات توجب وتفرض على الانسان (السعي والعمل من أجل الحصول علی الرزق، وأن يعمل الناس ليكسبوا أرزاقهم، كلّ حسب سعته ومقدرته)، وهو عمل وسعي (يوجبان تحديد الفقر أو طرده).

لا يقترن السعي والكد الذي يبذله الانسان بتحقيق الغنى، نتيجة لعوامل لها علاقة بضعف مواهب الانسان وإمكاناته، أو لأمور أُخرى مقدّرة أبقته فقيراً، هنا لا يكون الفقر مذموماً، بل هو في مورد المدح في تلك الروايات.

يقابل ذلك، في بقاء الانسان على حاله من الفقر في عدم سعيه لتحصيل الرزق، أو تقصيره في العمل، (فالفقير الذي لا يعمل وهو قادر علی العمل هو الذي يقال عن فقره أنّه: (سواد في الدارين) أمّا أولئك الذين لا يتكاسلون ولا يتقاعسون عن الجدّ والاجتهاد والسعي والعمل، وهم مع ذلك فقراء فأولئك المقرّبون عند الله تعالى ويدخلون الجنّة قبل الأغنياء في يوم القيامة).

في العبارة الثانية من الدعاء، والمتعلقة بطلب الرزق، يؤكد المرجع الشيرازي وكما يفهم من الدعاء، على  (السعي والتوكّل معاً). وحين ترد كلمة الرزق، فهي تشير الى (أنّ الله تعالی هو مصدر الرزق وهو الذي بيده كلّ شيء، فيلحّ العبد في الدعاء ويطلب من الله أن يوسّع رزقه إن كان العبد مقتراً).

يصل المرجع الشيرازي في شرحه وتفسيره لهذا المقطع من الدعاء، الى ان،

(غنی النفس هو الأساس، ومن حاز عليه في مراتبه العليا فقد حصل علی كلّ شيء، وانفتح له باب كلّ خير في الدنيا والآخرة، وإن كان هذا الأمر بالغ الصعوبة إلا أنّه ممكن تحقّقه).

شبكة النبأ المعلوماتية- الأحد 13/نيسان/2014 - 11/جمادي الآخر/1435

 

© جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة النبأ للثقافة والإعلام 1419-1435هـ  /  1999- 2014م